بالأساس يعتبر الكثيرون الأفكار هِبات خالصة من الإله، بل ونوعاً خاصاً من الوحي والإيعاز، لا تأتي إلا لموهوب بالفطرة، يتمتع بحواس مُتقدة، وقُدرة عالية على ربط الأمور ببعضها البعض، وعقد المقارنات، والقدرة على المحاكاة؛ ليستطيعوا في النهاية استخلاص فكرة أصيلة، وبها نوع من القبول والوجاهة.
كما يعتبر العامة الشعراء مُلهمين بدرجات متفاوتة، لم يفهم أحد لماذا تخطُر الأفكار على البعض، بينما الآخرون مجرد مستقبلين؟ لماذا هناك نوع من الناس فُكت العقد عن ألسنتهم فقالوا بليغ الشعر؟ أو وُهِبوا قدرات عالية على الرسم، والنحت، وتأليف الموسيقى، والقدرة على حل المشكلات بطرق تكمن عبقريتها أنها لم تتأتَّ لغيرهم؟
قبل نيوتن كم من أشياء سقطت على الناس من السماء، دون أن يثير ذلك أي شغف فيهم أو فضول؟ قبل اختراع المصباح كم من البشر أقلموا حياتهم على السعي بالنهار، والاستكانة بالليل، دون أي تطلعات لخلق النور في الظلام؟ قبل أن يصعدوا للقمر كم من شخص لم يرَه إلا طبقاً منيراً في السماء؟ ربما رأى فيه وجه المحبوب لكنه لم يكترث أبداً، أو حتى يفكر أن هناك أي داعٍ لأن يذهب الناس إليه.
هل تُوهَب الأفكار بعشوائية، أم أنها تقدم لمن يفكرون بشكل مستمر في مسألة ما، ولا يستطيعون بسهولة إقصاءها من البال؟ وربما يستغرق الأمر سنوات من التفكير المحموم، والمحاولات الدائمة لحل التعقيدات التي تواجههم؛ لجعل فكرتهم مفهومة، أو وضعها في قالب المنطق والمعقول؟
في الفن والأدب تحتاج لنقل فكرتك، أن تستطيع أن تصل إلى الآخرين، وتؤثر فيهم، وتنقل لهم مشاعرك، وفلسفتك التي تصوغها في شكل أدبي.
في العلم تحتاج إلى إثبات أفكارك؛ سواء استنتاج رياضي منظّم يترجمها، أو تجربة ناجحة لتجعل الآخرين يقبلونها.
لكن لماذا يولد بشر بقدرات عالية على الابتكار والخَلق دون غيرهم؟ الحقيقة أن الهِبات موزّعة على البشر بطريقة بها الكثير من العدل، حيث وإن كنت موهوباً بالفطرة، لا تزال تحتاج لأن تعمل بجدّ لساعات طويلة؛ حتى تستطيع أن تُبلور أفكارك، وتبرز موهبتك لذلك؛ أضاع كسل البعض فرصاً كبيرة للتميّز، رغم الموهبة الشديدة، بينما أنصاف الموهوبين ببعض من العمل المستمر، والقدرة على البدء مجدداً بعد الفشل، وتقبّل تجاربهم السلبية، بل والعمل عليها؛ يقدرون على الإتيان بنتائج مبهرة. حتى يمكننا القول بكثير من الثقة، أن تلك القدرة على العمل المستمر، هي في حد ذاتها "موهبة حقيقية".
أي وقت قضيته في التفكير والمحاولة، لا يعد أبداً وقتاً مهدوراً، حتى إن لم يأتِ بنتائج إيجابية، في التجارب العلمية نتائجك السلبية تعد إنجازاً أيضاً، ومساهمة مقدرة جداً في الوسط العلمي؛ لأنها بقدر ما كانت أمينة بحيث نستطيع الوثوق بها، فهي أمر سيوفر على الآخرين خوضها ثانية، إن أتت نفس الفكرة على خاطر شخص آخر. طالما فكرتك وتجربتك موثقة، فالآخرون بين أمرين؛ إما تنحيتها تماماً، والبحث في غيرها، أو التعديل عليها، والبحث فيها ثانية.
يمكننا القول: إن الأفكار متاحة في سلاسل ثقيلة وطويلة جداً، وحتى إن وهبت طرفها، لا بد أن تكون من أهل العزم والقوة؛ لتجذبها إليك، فتنالها مستحقاً إياها بقدر صبرك وإيمانك بها.
داروين وألفريد والس
"داروين" كان عالماً أكاديمياً منظماً، حتى ربما يفتقر إلى حس الجنون والمجازفة، لدى العلماء غريبي الأطوار، والذين تأتي على أدمغتهم أفكار شديدة الاختلاف والعبقرية، ورغم ذلك وضع داروين نظرية ثورية، هزّت كل قناعات المجتمع العلمي خاصة، والمجتمع عامة.
النظرية أثبتت وجاهة شديدة، بل وقام عليها علم مهم جداً، أثرى علوم الأحياء كلها "البيولوجية الجزيئية" "Molecular Biology" وإلى الآن تبقى نظرية التطور قائمة بقوة، لم يستطِع أحد نفيها أو دحضها.
بقيت النظريتان الوجيهتان، في مقابلة بعضهما البعض، رغم كل التافهات، والإرهاصات، والمحاولات السطحية للحكم عليهما دينياً.
بقيت النظرية والفكرة، في مواجهة النظرية والفكرة، وضاع الباقي في غياهب الصدامات والنقاشات الزائلة.
بقي "النشوء التلقائي" في مواجهة "التصميم الذكي"، سواء كان هذا أو ذاك، وحتى لو تطورنا كلنا من خلية تبدو بسيطة، يبقى من عليه النشأة الأولى، ومن أوعز للكائنات بالبقاء، والتكيّف، والتصرف، حتى في أقصى وأصعب الظروف.
لكن كيف تبلورت الفكرة في عقل القس النمطي والتقليدي، الذي أمضى سنين يجمع العينات، ويكتب الملاحظات على السفن الملكية؟ بعد ملاحظات "داروين"، وبعد استواء الفكرة في عقله، استغرق الأمر منه الكثير من السنين، لتأليف كتابه الأشهر "أصل الأنواع" "The origin of species" – 1859، بل وقد أصرّ على دراسة أحد الحيوانات؛ ليكون جديراً بالتخصص في علم الأحياء، وبوضع النظريات قضى السنين يكتب، ويضع المسودات، ويعدّل، ويدرس، ويعيد التفكير، ويشرح كائنات، وبين النزعة للكمال، والشعور بالرضا لوضع الكتاب، وبين مراسلات بينه وبين زملائه في الجمعية الملكية، مؤرخة وموثقة، تؤكد عمله المستمر على فكرته؛ تفاجأ داروين برجل آخر، وهو رحّال على السفن، يجمع العينات "ألفريد راسل والس" يراسله، ويعرض عليه فكرة مشابهة لفكرته؛ ليصعق "داروين" برجل ليس مختصاً، وليس على نفس القدر من العلم، ولم يمضِ سنوات طويلة في البحث مثله، وقد أتت على خاطره نفس الفكرة!
توصل أصدقاء "داروين" لحل وسطي، وتم نشر ورقة بحث مشتركة، ووضع اسم "ألفريد رسل والس" جانباً إلى جنب بجانب "تشارلز داروين"، ثم تلاشى الاسم عبر التاريخ والوقت، ولم يبقَ إلا الكتاب المبذول فيه جهداً، دام لسنين "أصل الأنواع" لـ"تشارلز داروين".
الأفكار نفسها متاحة للجميع، لكل مَن يفكر باستمرار، ويحاول الوصول، أما كيف تتبلور في العقول لتخرجها وتصوغها؟ فذلك شأن آخر.
غاليليو
"غاليليو".. كانت تأتي له العديد من التصورات والأفكار، وكان عقله عبقرياً وأصيلاً؛ ليعمل على أفكاره محاولاً جعلها منطقية، لكن هناك العديد من الحقائق، لم يستطِع "غاليليو" أن يثبتها، ويقنع بها العالم حوله، بقدر ما كانت صادمة، بقدر ما كانت تفتقر إلى القدرة على إقناع البشر، لا سيما أنه كان من الأوائل الذين يضعون الدين والعلم في مواجهة حامية.
مثلاً حاول إثبات فكرة دوران الأرض، واعتقد مثلاً أن المد والجزر ربما دليل على حركتها، ولم يكن ذلك صحيحاً، لكن الأرض كانت تدور فعلاً، لكنه لم يتمكن من إقناع أحد بتصوره، وبدا مثل المهرطق والمجنون، الذي يضرب بتأويلات الكتاب المقدس عُرض الحائط. أصر "غاليليو" على أنه يرى بآلته العظيمة "التليسكوب" أكثر من سبعة كواكب في الفضاء، لم يستطِع أن يُكذّب عينَيه، ولم يرَ أنه يقف أمام الخالق، لكنه فعلياً كان يقف في مواجهة الكنيسة، التي يُمثلها بشر مثله، لكنهم ليسوا بحجم عقله وأفكاره.
ظن أنه أُزيل عنه حجاب ما، ورأى أكثر من الجميع بشكل يُحرجهم، ويقوي الأسباب إلى اتهامه بالجنون والهرطقة، بل وأُجبر "غاليليو" على نفي استنتاجاته الصحيحة تحت الضغط والسجن.
ربما مسرحية مثل "مصباح منتصف الليل" لـ"بارس ستافيس" تُلخص عناء الرجل بأفكاره، في وقت غير مناسب، ولكن مع الوقت يتضح أنه كان محقاً بشأن معظم الأشياء، وإن لم يستطِع إثباتها، وكان ما حدث بمثابة مسمار في نعش سلطة الكنيسة على العلم، وعلى الحجر، وعلى الأفكار؛ وتنحّت الكنيسة مخذولة لتُبقي ماء وجهها، وتحافظ على الباقي من أتباعها، وانتصر الفكر والفكرة. الأرض تدور، ولسنا محور الكون، وإن كان بالإنسان بعض التميّز والتفرّد، فذلك ببساطة؛ بسبب القدرة على التفكير.
"أينشتاين".. كان رجلاً ذا عقل مختلف عن الجميع، في طبيعة تفكيره، وفي رؤيته العامة، للكون والحياة، متحرراً من كل القيود، ويؤمن في ذات الوقت إيماناً شديداً بوجود الخالق، الذي أبدع كل شيء، هو منبهر به، ولديه دوافع فطرية لتأويله وفهمه.
حتى كان يحلم أن يعرف النظام والأساس الذي خلق الله به كل شيء، فيستطيع أن يحل العُقد والألغاز، التي كانت تؤرقه، بفضل هذا المنهج لدى "أينشتاين"، ليس فقط بفضل نظرياته العبقرية؛ أصبح هناك تفكير فيزيائي حر، يضع التصورات الكثيرة ببعض الإثباتات الرياضية، والكثير من تلك الخيالات، بها منطق وقوة، تجعلها ممكنة، وإن كانت بعد ليست أكيدة.
الفيزياء النظرية تتيح للجميع التصور، ووضع روايات، وتركها تخوض العالم، تَثبُت أو لا تَثبُت، لكن الإنسان قادر على التخيّل، ومحاولة صب أفكار شديدة الاختلاف في قوالب منطقية.. الثقوب السوداء، العوالم الموازية، الانفجار العظيم، نظرية كل شيء. كلها تصورات تُخبر عن عبقرية العقل البشري، وإصراره على الوصول لفهم لغز الحياة.
في الأدب والفن تحتاج إلى التفرّد الشديد؛ ليصف الآخرون أعمالك، بأنها تحتوي على قدر من الاختلاف والأصالة، حتى تصبح مع الوقت علامة معروفة وواضحة، تسمع بيتاً من شعر، فتقول مثلاً هذا "المتنبي"، أو شخص يحاكيه، تلك اللوحة لـ"فان جوخ"، أو شخص متأثر به، حتى أفلام السينما تستطيع من مشهد واحد أن تقول تلك رؤية ذلك المخرج، وتلك نظرته، وبصمته.
كانت أعمال "نجيب محفوظ" مثلاً تتسم بطابع مختلف، يحمل من الأصالة ما جعله يتخطى كل الحواجز والفروق بين الإنسان، كما ظلت الفلسفة والأفكار لديه تأخذ منحى إنسانياً عاماً، وإن وُضعت في قوالب محلية جداً.
تماماً مثل "ماركيز"؛ الذي يُعد من أكثر الكتاب قراءةً وتأثيراً في العالم كله، لا تُشبه كتاباته أي شيء عرفته أو جربته، ومن بعده أصبح هناك خط شهير في الأدب ومدرسة تُلاقي الكثير من التفاعل، من كل القراء حول العالم "الواقعية السحرية".
ظلت القدرة على السرد، والشعر، والكتابة عموماً، من أهم إنجازات البشر، وطريقتهم غير المباشرة للبقاء والتغلب على الزمن، الذي أعجز الإنسان وأرهقه، توازيها أنواع من الفنون مثل: الموسيقى، والفن التشكيلي، والرسم، والنحت، كلها كشفت مدى إبداع الإنسان، وميله للخلق، والمحاكاة، وأكدت أنه قد وُهب ذلك ليس بطريقة عشوائية، أو بصدفة ما، وأنه موهوبٌ عن قصد، ولغاية ما.
يمضي الناس بموهبتهم، يؤثر فيهم الكثير، ويتفاعلون مع العديد من التجارب والأفكار؛ ليتاح لهم في النهاية أن يصبحوا "أنفسهم"، وإن ظلوا تحت مدراس معينة، تبقى أفكارهم ما تميزهم، وسط الجموع، ويبقى لكل إنسان فرصة للإضافة في سجل الفكر البشري، ولو مثقال ذرة، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ" (سورة الزلزلة: الآية 7).
وعلى لسان الخالق البديع يروي: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين" (سورة الحجر: الآية 29).
تلك الرواية التي لا تفتأ تُذكّر في مواضع، في القرآن الكريم، وتُذكر مفصلة في الإنجيل، والتوراة.
قصة الخلق من البدايات، وكشف الغاية التي كانت مشيئة الله، القصة التي لم يرَ الإنسان فيها إلا مخلوقاً من طين، يتنّبأون له بسفك الدماء، والفساد في الأرض، وحده الله يرى فيه جمالاً، يعرف أنه سيَهزم كل القبح والشرور، ويعرف أنه وهبه نزعاً لجهاد النفس، وتصحيح المسارات، والتوبة، والمعرفة، ولو من بعد جهل.
الله هو الضوء، الذي انعكس على الإنسان؛ فأنار عقله، وهو السحر أو الطفرة التي ألقت فيه نزعاً للخلق، والإبداع مثل خالقه، كما لو كان ظلاً وخلفاً له.
الله هو كل الأفكار الأصيلة، التي تجلت للإنسان على مر العصور؛ فغيرت الحياة حوله بشكل لا يصدق، وسجدت له كائنات، حتى هو أضعف منها، وبفضل ذلك استطاع الإنسان ضعيف البنية، وذو الروح الحساسة، الذي يُصاب بالحزن، والقلق، وتمرُض نفسه، ويعتل جسده، أقوى مَنْ على الأرض كلية.
لا يسعنا في النهاية إلا أن نذكر دعاء "صلاح عبد الصبور" في رائعته "مرثية رجل عظيم":
وكان في المسا يطيل صُحبة النجوم
ليبصر الخيط الذي يلمها
مختبئاً خلف الغيوم
ثم ينادي الله قبل أن ينام
الله، هب لي المقلة التي ترى
خلف تشتت الشكول والصور
تغير الألوان والظلال
وخلف اشتباه الوهم والمجاز والخيال
وخلف ما تسدله الشمس على الدنيا
وخلف ما ينسجه القمر
حقائق الأشياء والأحوال
* الأمثلة الواردة في المقال، على سبيل التوضيح فقط، ولا يكفينا ملايين المقالات؛ لكي نكتب عمّن غيّروا الحياة حولنا للأفضل.
تم نشر هذه التدوينة في موقع ساسة بوست
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.