كنت في الصف الرابع، في أواخر السنة الدراسية حينها. وكان ذاك يوماً مميزاً لفتاة صغيرة مثلي.
كان يوم توزيع جوائز آخر السنة. أذكر أني كنت في أبهى حللي الطفولية: ذاك الفستان المورد، شعري الذي كان بعضه ينسدل على كتفي وبعضه الآخر قد أحكمت أمي ربطه من كلتا الجانبين مثل الفراشة. وأذكر أني جلست في المقاعد الأمامية حينها وعيناي لا تتزحزحان عن باب المدخل.. أترقب قدوم أحدهما.. أرى جميع الأطفال مرفوقين بوالديهم إلا أنا.. أنا كنت وحيدة.. لا أمي و لا "هو".
فجأة حان دور تلك الطفلة الصغيرة المترقبة، حان دور استلامها جائزتها. فاغرورقت عيناها دمعاً حاراً، ما لبث أن اختنقت به.. فبكته.. بكت لوماً.. بكت ضعفاً.. ربما! هي لا تدري.. هي مجرد طفلة صغيرة لا تتقن التوصيف.. لا تسأل لماذا؟ فهي فقط بكت.. ككل الأطفال بكت.
يومها.. سجلت ألماً في دفترها وسمّته في ذكراها.. "أولى خيباتي".
عدت إلى المنزل.. استقبلتني أمي لا تنبس بحرف.
لكن دموعها المسكوبة قالت الكثير، والندبة في منتصف وجهها أخبرتني سبب تغيبها.. وأبلغتني بالكثير الكثير.
أذكر أنها احتضنتني بكل قوتها وظلت تبكي.
يومها رفع الستار عن كواليس المسرحية والعائلة السعيدة. وواجهت أنا، فتاة التسع سنوات، تفاصيل الواقع المؤلم من ضربه لها وإهانة.. من ألم ودموع وغصّة.. لم تعد تستطيع حمل ألم فاض بها فأعلنته.. جسمها الذي يحمل علامات وندوب الضرب، كان يحتوي على الثمن الذي دفعته مقابل إخفاء صور التعاسة عني.
في كواليس المسرحية.. في الكواليس الحقيقية.. علمت الكثير حينها وتعلمت الكثير.
صورة العائلة السعيدة انكسرت ليست سوى إطار خاوٍ.
والطفلة مزقت من ذاك الحين جميع الصور.. وأبقت صورة أمها.
أمها التي ضحت بسنوات العمر بعد ذاك، بشباب لم يترك سوى تجاعيد حول العينين وخطوط تكاثرت في الجبين، ونظرات حزينة انمحى منها بريق النور الساطع في عينيها.
أمي إنها أمي نعم.. لا تزال قوية صامدة.. وأيما قوة يا هذا؟
تلك التي تجعلها تخفي عبراتها أمامي وتحولها إلى ابتسامة في ثوانٍ.. تلك أمي.
كنت أكثر المدركين أن التصنع وراء ابتسامها.. لكن مع ذلك كنت أقبل.. كان يكفيني منها ذاك! لا ألوم.. بل أعلم أن جهداً لا انقطاع له كان خلفها.. فأعانق حضن أمي كي أواسي.
وأناجي الله فوقي أن يديم عندي أمي.. أن تدوم.
أما هو.. ذاك الشخص.. أوقن يوماً بعد يوم أن صورته تقطعت إلى أجزاء. ما عادت قابلة للترميم، تعلمت أن حروف اسمه مُحيت من الأبجدية.. ما عدت قادرة على لفظ اسمه.. ذاك الهو.. مجرد نعت.. مجرد شخص نسيت حتى تفاصيل وجهه.. نسيت شكل أصابع يديه ورائحته وكل تفصيل فيه.. حقاً ما عدت أذكره.
أكرهك بقدر كل حرف تحتويه الكلمة، أكرهك بكل اللغات.. أتعلم كيف أكرهك؟
أكرهك في العتمة التي تسكن مقلتيها، أكرهك عدد الآثار التي تركت على جسمها، أكره غيابك في أهم مسارات حياتي كيوم حصولي على شهادة البكالوريا، ويوم تخرجي في الجامعة.. ويوم ويوم ويوم..
وأمقت كل المواقف التي أجبرت فيها على ذكر اسمك.. يوم زفافي.. يوم فرحة.. ألا يوصل فيه الأب ابنته إلى العريس.. ويوصيه بها خيراً محاولاً إخفاء دموعه؟ فلماذا لم تكن كذاك؟
لماذا؟
أكرهك.. أكرهك في عيني ابنتي التي ستسأل: "ماما.. أليس للعش الدافئ أب.. ألم تقولي لي كذاك؟ فلِمَ عشك ليس دافئاً؟" أين هو..
سأمقت هذا الموقف حينها.. لأني سأجبر على اصطناع الإجابات والتصنع.. مثل من يا ترى؟ مثل أمي..
أكرهك حين يتحدثون عن الأب بكل فخر وحب..
أكره الانتظار الذي تليه خيبة أمل مهما كان التفصيل بسيطاً لأنك أول من زرع هذا الشعور بداخلي بكل قسوة..
أكره غيابك عن حديثي في تفاصيل يومي..
وسأكرهك أكثر وتكرهك الطفلة في داخلي حين أطلب من زوجي معاملتي كابنته.. حين أطلب أن يأخذني بين ذراعيه ويضع رأسي على صدره.. أن يحتضنني كما يفعل الأب.. وأطوقه بذراعي.. بالحنان.. وبالطفولة..
في الحقيقة أكره حتى أن أتسول هذا الشعور "شعور الأبوة".
أكره أن أتسوله مثل كرهي حجم الدمار الذي تركت بداخلي.
ولكن الدمار.. مثلما أزهرت أنا عند أمي.. في ألمها.. سيزهر هو.. سيزهر الدمار.. من تحت الركام.. وسأكون أنا حينها خير أمّ.. وسيكون عندي ألف طفل مملوئين بالحنان.. وسيكون لي زوج مثل الأب مثل الشيخ والجبل.. مثل الأرض والسحب.. مثل الدفء والأمان.. وسأعوض بعد خوف أسكنته في داخلي.. سأعوض خيراً.. من عند ربي.. وسأزهر.
أما أمي التي استطاعت تربية أجيال بمفردها.. فهي معجزة الإله.. لها التحايا.. وألف ألف تحية فوق ذاك.. لقوتها.. لجبروتها.. لصبرها وأنينها والثبات.
أما أنتم يا أبناء الأمهات الطالقات.. يا أبناء الأمهات اللاتي وهبن لكم أنفسهن.. دون أجوبة أو سؤال!
فأقول إن كان البر للوالدين فرضاً.. فلأمهاتكم هو دين مثلما الإسلام دين..
في الأخير.
حاولوا أن تكونوا آباءً حقيقة لا فراغ ولا نعوت.. ألا تخفقوا.. أن تكونوا أوفياء.
احتضنوا أطفالكم بكل حب وعطف.. اصنعوا مضموناً جميلاً لا مجرد إطار فارغ…عاملوا أطفالكم كأنهم كنز لا يفنى.
لا تشوهوا صوركم.. فتشوهات الطفولة لا تمحى بل تبقى في الذاكرة ولا تُنسى.. مهما مر الزمن وكبرنا.. تبقى مسامها مفتوحة حتى هذه السن.. سن السادسة والعشرين الذي أسطر فيه هذه الكلمات.
ولكل طفل فيه نبض من تألمي.. "كن قوياً سوف تنجو.. سوف تزهر رغم تقدير الحياة".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.