لم تكن المافيا الإيطالية-الأمريكية في ولاية نيويورك عصابة واحدة في عالم الجريمة، بل كانت مكونة من خمس عائلات رئيسية متحاربة فيما بينها، ومع الوقت توحدت هذه العائلات لتشكل واحدة من أكبر عصابات المافيا في العالم.
وأصبح أي منا على دراية بعصابات المافيا الإيطالية-الأمريكية من خلال أفلام مثل The Godfather، Goodfellas، وDonnie Brasco.
المافيا الإيطالية-الأمريكية أكبر عصابات المافيا في العالم
وفق موقع All That Interesting Thing، فقد كان هناك رجلٍ واحدٍ لولاه ما تمكنت عصابات المافيا من الوصول إلى هذا المستوى من التأثير الكبير وهو تشارلز لوكي لوتشيانو.
ويرجع الفضل له في تنظيم العديد من الفصائل المتحاربة في عالم الجريمة بمدينة نيويورك وتقسيمها إلى خمس عائلات رئيسية لتشكل مجموعة واحدة.
فقد أصبح لوتشيانو أول زعيم لعائلة جينوفيزي الإجرامية القوية وأصبح معروفاً بأنه الأب الروحي للجريمة المنظمة الحديثة في الولايات المتحدة.
وساعد في تشكيل هيئة إدارة المافيا الأمريكية والتي سميت Commission والمستمرة في فرض سيطرتها في عالم الجريمة اليوم.
كيف حقق إيطالي مهاجر كل هذا؟
وُلد لوكي لوتشيانو باسم سالفاتوري لوكانيا في بلدية ليركارا فريدي في جزيرة صقلية بإيطاليا في عام 1897.
هاجر لوكي وعائلته وهو في سن العاشرة من صقلية إلى الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً في الجزء الشرقي الأدنى من مدينة نيويورك المليء بالجرائم.
وعاشت عائلة لوكانيا مثلها مثل العديد من المهاجرين في ذلك الوقت في منزل مكتظ، ووجد لوكانيو نفسه في هذه السن الصغيرة في عالم الجريمة، وورد أنه تورط في عمليات سطو وسرقة وابتزاز وهو في سن الرابعة عشرة.
ولم يكن بالأمر المفاجئ أن يجلب الفتى معه بندقية للمرة الأولى إلى المنزل وهو في سن الرابعة عشرة وسرعان ما أصبح نشالاً ماهراً.
وبدأ الفصل الرئيسي التالي في حياة لوكي لوتشيانو الإجرامية عندما انضم لعصابة Five Points الخطيرة وبدأ في الاتجار في الهيروين.
ووفقاً لما كتبه الكاتب تيم نيوارك عن السيرة الذاتية للوتشيانو في كتابه Boardwalk Gangster: The Real Lucky Luciano، والتي ذكرها لوتشيانو فيما بعد، فقد كان لوتشيانو لديه عقلية رجل أعمال حتى وهو في هذه السن الصغيرة.
وعزم لوتشيانو على بناء نفسه من الصفر في عالم الجريمة لذلك قرر أمركة اسمه، أي تحويله إلى اسم أمريكي.
فاختار اسم تشارلي من أجل تجنب الإيحاء الأنثوي لـ "سالي" وهي الكنية لاسمه الحقيقي سالفاتوري.
تكوين عصابة
وكما كان متوقعاً، لن يتمكن تشارلز لوتشيانو من لعب مثل هذا الدور المتكامل في تاريخ الجريمة المنظمة بدون مساعدة آخرين.
وجاءت إحدى هذه المساعدات من ماير ساتشولجانسكي الذي عُرف فيما بعد باسم ماير لانسكي زعيم العصابة اليهودي سيئ السمعة، حيث صادف لوتشيانو لانسكي لأول مرة عندما كان الاثنان مراهقين في نيويورك.
اعترض الأطفال المولودون في إيطاليا في ذلك الوقت على العمل مع نظرائهم من اليهود، ولكن رأى لوتشيانو هذا الأمر بمثابة الفرصة بالنسبة إليه فبدلاً من تجنبهم، قام بابتزاز الأموال من الشباب اليهود.
ومع ذلك وكما تقول القصة عندما واجه لوتشيانو لانسكي رفض الأخير التراجع، وكانت هذه هي البداية للصداقة الطويلة بين لوكي لوتشيانو وماير لانسكي.
وذكرت ساندرا ابنة لانسكي في مذكراتها Daughter of the King: Growing Up in Gangland "في حين أن أبي لم يخبرني قط بأي شيء حول عمي تشارلي، إلا أن عمي تشارلي كان مسروراً بإخباري بكل شيء حول اليهودي الصغير القاسي الذي فاجأه بشدة من خلال تصديه لعصابات الشوارع القاسية.
أُعجب لوتشيانو بشدة بشجاعة لانسكي الذي كان أيضاً لديه مهارات في الرياضيات واستغلها بعبقرية في المقامرة.
وتعرف لوتشيانو أيضاً على صديق لانسكي المقرب زعيم العصابات سيئ السمعة بنيامين (بوجسي) سيجيل وأصبحوا معاً عصابة بوجس وماير.
وأدارت المجموعة الأولى أنشطة إجرامية منظمة ولكن عندما تم الحظر في عشرينات القرن الماضي، رأى هذا الاتحاد الإيطالي اليهودي فرصة في تهريب المشروبات الكحولية.
صعود لوكي لوتشيانو إلى السلطة
على الرغم من نجاح شراكات لوتشيانو مع زعماء العصابات الصاعدين من الشباب، ليس جميعهم أصدقائه، فعلى سبيل المثال، اختُطف لوتشيانو من قبل خصوم له في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1929 وقاموا بضربه وشق حلقه وطعنه عدة مرات بمعول الثلج.
ووفقاً لأسطورة المافيا، تركوه ليموت في جزيرة ستاتن بنيويورك ولكنه نجا بأعجوبة ولكن مع ندبات في الوجه وعين متدلية.
وجاء لقبه "لوكي" أي المحظوظ للاعتقاد بأنه نجا من هذا الحادث المروع.
وأمنَ لوكي لوتشيانو لنفسه منصباً بحلول ذلك الوقت كملازمٍ للزعيم في نيويورك "ماسيريا"، وعندما أصبحت منظمة ماسيريا متورطة في أوائل ثلاثينات القرن الماضي في الحرب القاتلة للسيطرة على المؤسسات الإجرامية في نيويورك مع الوافد الجديد سالفاتوري مارانزانو، تم تجنيد لوتشيانو لتوريطه في عالم الجريمة.
وخلال هذه الحرب الغوغائية، ازداد الانزعاج بشدة لدى لوتشيانو وأصدقائه من زعماء العصابات الشباب من العصابات الإيطالية قديمة الطراز إذ إن رجالاً مثل ماسيريا أساليبهم قديمة ولا يتحدثون الإنجليزية كثيراً وأداروا منظمات إجرامية محدودة العدد.
لذلك قرر لوتشيانو التخلص تماماً من ماسيريا وإحكام سيطرته على عصابته.. أقام مأدبة عشاء في كوني آيلاند في بروكلين في منطقة للمأكولات البحرية تسمى نوفا فيلا تمارو.
واستأذن لوتشيانو في منتصف تناوله لوجبته ليذهب إلى الحمام وبعدها بفترة وجيزة اقتحم أربعة من زملائه منهم بوجسي سيجيل وفيتو جينوفيز والقاتل ألبرت أنستازيا المكان وقتلوا ماسيريا.
أصدقاؤه اليهود ساعدوه في اغتيال زعيم عصابات نيويورك
جاء مارانزانو بعد عدوه اللدود ماسيريا في قائمة اغتيالات لوتشيانو، وعند هذه النقطة أصبح مارانزانو أول capo di tutti capi (رئيس جميع الزعماء) والرجل الذي اعتبر زعيم الجريمة المنظمة في نيويورك.
ترأس لوتشيانو أربعة من رجال العصابات اليهود الذين تم تسليمهم من جانب ماير لانسكي إلى مقر مارانزانو وهناك قاموا بقتل مارانزانو وأنهوا بذلك فترة قيادته القصيرة.
أصبح لوتشيانو بحلول علم 1931 الزعيم بلا منازع لمدينة نيويورك على الرغم من أنه لم يأخذ مكان مارانزانو بشكل رسمي.
ومع ذلك، سأم لوتشيانو من إراقة الدماء، وبعد تأثره بسنوات عديدة من العنف وتأثره بشريكه المقرب لانسكي، اعتقد أن المافيا والتي تسمى عصابة تدعى كوزا نوسترا (Our Thing) يمكن أن تدار بكفاءة وبتنظيم بدلاً من أن تكون مجرد عصابة وحشية.
تنظيم اجتماع كبير في أمريكا بشيكاغو لزعماء الجريمة الإيطالية
بعد ذلك اتجه لوتشيانو لعقد اجتماع حضره زعماء العصابات الأربعة المتبقون في مدينة نيويورك وكانوا هم العائلات الخمس المستقبلية، إضافة إلى آل كابوني الزعيم الكبير ذي السمعة السيئة في شيكاغو.
أحدث لوتشيانو في الاجتماع ثورة في هيكل المافيا وأسس بكفاءة المافيا الأمريكية الحديثة، إذ قسم المجموعات الإقليمية إلى عائلات لتجنب إراقة الدماء في المستقبل.
وستبقى كل عائلة على أرضها وتختار عملاً وتتبع مجموعة مماثلة من القواعد وإلى جانب ذلك كل عضو من المافيا ينبغي أن يلتزم الصمت حول أنشطتهم. وأطلق على رمز الشرف هذا اسم " o mertà".
وفي الوقت نفسه، ستحافظ هيئة حاكمة شاملة تسمى اللجنة على السلام بين جميع العائلات وتحكم في المسائل المتنازع عليها.
أُعد النظام ببراعة لتجنب العنف بين العائلات المتنافسة ورجال العصابات من الأفراد إلى جانب الحفاظ على سرية عمليات المافيا.
لوكي لوتشيانو والقانون
على الرغم من نجاح لوتشيانو إلا أنه لا تزال هناك تهديدات تترصد به من جانب الحكومة الأمريكية.
وتراقب جهات تطبيق القانون عن كثب لوتشيانو وذلك على غرار نظرائه آل كابوني والعديد من الشخصيات البارزة الآخرى في عالم المافيا.
وعاش لوتشيانو في هذه الأثناء حياة مترفه إذ اشترى ملابس من الحرير والفراء للعديد من النساء وصاحب المطرب فرانك سيناترا وعاش في جناح بفندق والدورف أستوريا بمدينة نيويورك.
حكم عليه بالسجن 30 عاماً، لكنه بقي يدير أعماله خلف القضبان
وأخيراً في عام 1935، كان لدى المدعي الخاص توماس ديوي الدلائل الكافية لاتهام لوكي لوتشيانو بتسهيل الدعارة.
بلغت قيمة الكفالة التي دفعها لوتشيانو نحو 350 ألف دولار بما يعادل 6 ملايين دولار في يومنا هذا، وبذلك الوقت كان هذا المبلغ رقماً قياسياً في نيويورك.
أدان العشرات من الشهود لوتشيانو ووجدت المحكمة أنه مذنب في 62 تهمة. وفاز ديوي بعد أن حُكم على لوتشيانو بالسجن لمدة 30 سنة.
وعلى الرغم من مكوثه خلف القضبان وتحت حراسة مشددة إلا أن لوتشيانوا استطاع إدارة أعماله من داخل السجن.
جعل لوتشيانو مسجونين آخرين يقومون بما يتوجب عليه فعله داخل السجن من إعمال وحتى أنه أرغم واحداً منهم على أن يكون الطاهي الشخصي له.
ولكن صمم لوتشيانو على الخروج من السجن وأتاحت بداية الحرب العالمية الثانية هذه الفرصة بشكل كبير له.
أمريكا لجأت إليه لمساعدتها!
وسط تخوف الأمريكيين من محاولات القوات الأجنبية تخريب موانئ الساحل الشرقي لأمريكا ومن دعم العمال بالميناء الأيطالي- الأمريكي سراً لبينيتو موسوليني لذلك لجأت إلى طلب مساعدة لوتشيانو المسجون.
عرضت القوات البحرية الأمريكية عليه تخفيض عقوبته مقابل معلومات ومقابل مساعدته في عمليتها، فيما أطلق عليها اسم عملية Operation Underworld (عملية عالم الجريمة) لأسباب واضحة؛ إذ إنه لم يكن هناك أحد سوى لوكي لوتشيانو ليكون كعيون وآذان القوات البحرية الأمريكية.
نفي لوكي لوتشيانو إلى ايطاليا
لم تتوقف مساعدة لوتشيانو للحكومة الأمريكية حسبما زعم عند عملية عالم الجريمة؛ إذ قيل إنه ساعد الجيش الأمريكي على غزو مسقط رأسه صقلية في عملية سميت عملية هاسكي Operation Husky.
وأخيراً في عام 1946 أصدر توماس ديوي الذي وضع لوتشيانو خلف القضبان عفواً مقابل خدماته التي قدمها أثناء فترة الحرب، لكن نظراً لتأثيره الإجرامي، لم تكن الحكومة الأمريكية على استعداد لجعل لوتشيانو يسير بحرية في الولايات المتحدة، وبدلاً من ذلك نُفي إلى إيطاليا.
وفاة زعيم المافيا الأمريكية
لم يمض وقت طويل حتى حاول لوتشيانو الانتقال إلى هافانا ولكن الحكومة الكوبية أرسلته إلى وطنه أيضاً.
ومع اختفاء لوتشيانو عن الساحة، ملأ فيتو جينوفيزي وكارلو جامبينو فراغ السلطة وحتى أنهم قتلوا العديد من الشركاء السابقين للوتشيانو.
ومن بين العديد من النساء اللاتي واعدهن لوتشيانو، فقد استقر في النهاية مع امرأة واحدة لوقت طويل وكانت راقصة باليه تصغره بعشرين عاماً تدعى إيجيا ليسوني في عام 1948. عاشا سوياً في منزله بنابولي حتى وفاتها بسرطان الثدي في عام 1952 ولم تنجب أي أطفال.
وذُكر عن لوتشيانو أنه قال: "لا أريد أي ابن لي ليعيش كابن للوتشيانو زعيم العصابة".
استمر لوتشيانو على الرغم من نفيه في إدارة أنشطة إجرامية في صقلية لمدة 15 عاماً أخرى قبل وفاته بسكتة قلبية في 26 يناير/كانون الثاني عام 1963. وجاءت وفاته قبل اعتزام السلطات الإيطالية القبض عليه بتهمة تهريب المخدرات.
أُعيد جثمان لوتشيانو إلى الولايات المتحدة لدفنه هناك وحضر مراسم الدفن آلاف الأشخاص المعجبين به كشخص يمكن القول إنه صمم الجريمة الأمريكية المنظمة كما نعرفها.
اليوم، يمكن لعشاق المافيا زيارة قبره في مقبرة سانت جون بمنطقة كوينز في مدينة نيويورك.