قال أستاذنا الفيلسوف والمفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، في معرض حديثه عن مفهوم المثقف الحقيقي: "المثقف إنسان امتاز عن بقية أبناء مجتمعه بقابلية على التفكير والنقد، ذات نزوع فلسفي، وإدراك التحديات التي تواجه محيطه الاجتماعي، وبخزان معرفي وفكري أيضاً، واتخاذ المثقف مواقف مصيرية حساسة، وبالتالي فإن النخبة هي التي تلتصق بهموم أوطانها".
ومن خلال هذا التعريف، فإن موضوع مقالنا سيتطرق إلى مدى التزام المثقف العربي بقضايا محيطه الملتهبة، خاصة مع نكبة الثورات المضادة، بزعامة نظامَي أبوظبي وآل سعود، وفي تحالف غير مباشر مع نظام الملالي والنظام الصهيوني، والتي نجحت نوعاً ما في كبح جماح التغيير في المنظومات السياسية والاقتصادية والمعرفية العربية، وتحول ربيعه إلى صيف قائظ، وتلون الواقع بلون أسود أشد قتامة من السواد، إنه لون اليأس والبؤس والهزيمة على الشباب، خاصة بعد إجهاض حلمهم في التغيير.
فالأمة لها قضايا شائكة وكبيرة، ومع مرور الوقت كبرت كرة الثلج شيئاً فشيئاً وتدحرجت في دهاليز المكر والخديعة والخيانة، بمباركة أنظمة عربية ودولية، بعدما كانت القضية الفلسطينية أكبر وأكثر القضايا مركزية في منظومة الفكر السياسي والثقافي العربي، وأضحت المسألة العراقية والسورية واليمنية والليبية … والواقع العربي الطافح بالديكتاتورية والطغيان، وإن اختلفت في الشكل والمضمون، وتحولت القضايا العربية إلى عبء كبير يصعب تحمُّله؛ نظراً لقتامة وسوداوية المشهد.
والمثقف العربي، مثل كل مثقف في العالم، مسوق إلى الاهتمام بهذه القضايا المصيرية، وباتخاذ موقف منها، لا أن ينكفئ على جوانب الحياد السلبي، لأن أنباء وأخبار هذه الملفات الملتهبة لا تفارق سمعه ووجدانه كل يوم، وبعضها تقرع باب داره كل لحظة، مذكرة إياه بأنها تعني بالنسبة إليه الحياة أو الفناء والوجود أو العدم.
فاهتمام المثقف العربي بقضايا أمته وبلاده والإنسانية باعتبارها مشتركاً أساسياً ومكوناً رئيسياً في منظومة العلاقات الإنسانية، أمر حتمي وواقع ويشتد الاهتمام حتى ليصبح في بعض الظروف ارتباطاً لا مفك منه للمثقف والمفكر الحق الصحيح الإدراك للظروف المحيطة به، الصحيح الشعور بمسؤوليته كمثقف ومفكر، وليس كبعض مثقفي هذه المرحلة التي سقطت أقنعتهم مع أول اختبار وكنا نعتبرهم مرجعاً مهماً في النهل من روافدهم الفكرية والأيديولوجية المختلفة.
ويمكن القول إن هناك نقطة ضعف في واقع التزام المثقف العربي في هذه الفترة المعاصرة من تاريخنا تنتج كونه من خلال التزامه الأدبي، منفعلاً لا فاعلاً وتابعاً لا متبوعاً، فالأوضاع السياسية الراهنة والتنظيمات السياسية التي تستند عليها هي مَن خلق السياسيين، وأثر المثقفين بشكل جلي في تكوين هذه التنظيمات وتلك الأوضاع قليل، فالالتزام في هذه الحالة هو مسايرة للتيار المتدفق أو الانغماس فيه، وقلَّ أن يكون سيراً في الاتجاه المعارض، في الحالات القليلة التي يوجد فيها مثقفون ساهموا في خلق تيار سياسي وانتهى بهم المطاف بإقصائهم أو تنازلهم عن طريقة فكرهم كمثقفين ليصبحوا حكاماً مستسلمين إلى واقعية ميكيافيلية، وأحيانا تكون حياتهم ثمناً لمواقفهم، وما مقتل الكاتب والصحفي السعودي جمال خاشقجي عنا ببعيد.
ومن خلال هذا الالتزام المترهل الذى يشكل نقطة ضعف بالنسبة للمثقف والمفكر العربي، جعلته يحيد عن واجبه وأعطته في أعين المجتمع صفة الدعاة المأجورين أو الأبواق الانتهازية في نوع من الاسترزاقية السياسية على حساب ثوابت شعوبها وأحلامها في الانعتاق من براثن الظلم الذي يكرس نوعاً من الجهل المقدس.
ولكي يكون التزام المثقف العربي متلائماً مع موضع هذا المثقف وقيمته في مجتمع بلاده، يجب أن يدرك هو قبل غيره أن وجوده في مجتمع شبه متخلف يجعل منه إنساناً متميزاً بسعة اطلاعه وعمق وعيه وبمضاء الأداة التي يستعملها في التعبير عما يريد قوله، وهذا التميز يلقي عليه واجبات والتزامات، منها أنه يجب عليه أن يقف موقف الموجّه، وإذا لم يتَح له هذا الوقوف لظروف قاهرة وخارجة عن إرادته وقدرته فإنه ينبغي عليه أن يقف موقف الناقد المقوّم.
فالتزام المثقف هو التزام فكري وأخلاقي؛ لأنه التزام يحقق له الاحترام لنفسه ويثق بمعرفته ويعي مسؤولياته، وما المجال السياسي إلا ساحة عمل تطبق فيها الأفكار والأخلاق من خلال معطياتها، إن قيم السياسة قيم متحولة، وهي قيم حربائية تتلون حسب الظروف، أما قيم الفكر الصحيح والخلق القويم، فهي قيم ثابتة، لذلك فواجب المثقف العربي أن يكون مخططاً للسياسة ومجالاتها الامتدادية ومقوماً من اعوجاجها بفكره وتعبيره وتحليله، لا أن يكون مجروفاً بتيارها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.