نحن نقف على حافة ثورة تكنولوجية ستُغير بشكل أساسي الطريقة التي نعيش ونعمل بها، كما ستُسهم أيضاً في تغيير العلاقات بين المجتمعات، وأعني هنا الثورة الصناعية الرابعة.
استخدمت الثورة الصناعية الأولى الطاقة المائية والبخارية "لمكننة" الإنتاج، أما الثانية فتمظهرت في استخدام الطاقة الكهربائية في الإنتاج الصناعي. الثالثة شهدت ما يسمى بأتمتة الإنتاج عن طريق الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات. والآن الثورة الصناعية الرابعة ستكون مبنية على الثورة الصناعية الثالثة، وهي الثورة الرقمية التي حدثت منذ منتصف القرن الماضي.
تتميز بدمج التقنيات التي تزيل الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية، ستشهد اقتحام الروبوتات سوق العمل، هل هذا أمر خطير ومقلق، هي نقطة سنناقشها لاحقاً.
لكن هناك ثلاثة أسباب تجعل التحولات التي ستأتي بها الثورة الصناعية الرابعة ليست مجرد إطالة للثورة الصناعية الثالثة، بل هي ثورة ذات ملامح خاصة: السرعة والنطاق وتأثير الأنظمة. بالمقارنة مع الثورات الصناعية السابقة، فإن الرابعة تتطور بخُطى متسارعة غير خطية، وتبشر باتساع وعمق التغييرات التي ستأتي بها بتحويل أنظمة الإنتاج والإدارة والحكم بأكملها، مما ساهم في تصاعد المخاوف من هذا الانقلاب الصناعي الجديد.
الذكاء الاصطناعي في كل مكان حولنا، من السيارات ذاتية القيادة والطائرات بدون طيار إلى المساعدين الافتراضيين. ويمكن لخوارزميات الحاسوب أن تتنبأ بدقة نتائج قضايا المحكمة العليا مثلاً، باستعمال مثل هذه العوامل: هوية كل قاضٍ، وشهر تقديم الحجة والالتماس، وعوامل أخرى. على الرغم من أن دقة النتائج الخوارزمية لا تشكّل سوى 70% فقط، فقد ثبت في الواقع تفوّقها على الخبراء القانونيين. وقد تبين أن الخوارزميات الحاسوبية الأخرى تتنبأ بمحاولات الانتحار بدقة تتراوح بين 80 و92%، ويمكن القول بأنها أكثر دقة من أفضل التقييمات البشرية، دون أن ننسى البرامج الحاسوبية التي تم تطويرها لاكتشاف أدوية جديدة إلى خوارزميات تستخدم للتنبؤ بقرارات البشر ومحاولة تقليل معدلات الجريمة والتنبؤ بالعمليات الإرهابية.
وفي الوقت نفسه، تتفاعل تقنيات التصنيع الرقمي مع العالم البيولوجي بشكل يومي. يجمع المهندسون والمصممون والمهندسون المعماريون بين التصميم الحسابي، والتصنيع عن طريق تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وهندسة المواد، والبيولوجيا التركيبية من أجل تحقيق التكافل بين الكائنات الدقيقة، وأجسامنا، والمنتجات التي نستهلكها، وحتى المباني التي نعيش فيها.
الثورة الصناعية الرابعة لا تتمظهر فقط في الذكاء الاصطناعي، بل أيضا فيما يسمّى بالتعلّم العميق ((Deep Learning الذي يقوم مبدؤه على معالجة كميات كبيرة من البيانات في الوقت الفعلي لاتخاذ قرارات حول أفضل إجراء يمكن اتخاذه. الفرق هو أن الجهاز يتعلم من البيانات حتى يتمكن من تحسين اتخاذ القرار.
مثل الثورات التي سبقتها، فإن الثورة الصناعية الرابعة لديها القدرة على رفع مستويات الدخل العالمية، وتحسين نوعية الحياة للسكان في جميع أنحاء العالم.
وفي المستقبل، سيقود الابتكار التكنولوجي إلى معجزة في جانب العرض، مع مكاسب طويلة الأجل في الكفاءة والإنتاجية. وستنخفض تكاليف النقل والاتصالات، وستصبح سلاسل الإمداد العالمية وسلاسل التوريد أكثر فاعلية، وستنخفض تكلفة التجارة، وكلها ستفتح أسواقاً جديدة وتحرك النمو الاقتصادي.
في الوقت نفسه، يمكن للثورة أن تسفر عن تكريس حجم اللامساواة، هذا موضوع مهم تم الحديث عنه في مؤتمر "دافوس" الشهير الذي ينظّم كل عام، والذي يجمع أبرز الشخصيات الاقتصادية والسياسية والشخصيات المؤثرة في عالم التكنولوجيا،، إن عدم المساواة يمثل أكبر قلق اجتماعي مرتبط بالثورة الصناعية الرابعة. بحيث يميل أكبر المستفيدين من الابتكار إلى أن يكونوا هم أصحاب رؤوس الأموال الفكرية والمادية – المبتكرين، المساهمين، والمستثمرين – وهو ما يفسر الفجوة المتزايدة في الثروة بين أولئك الذين يعتمدون على رأس المال مقابل العمل. وبالتالي، فإن التكنولوجيا هي أحد الأسباب الرئيسية لحدوث تراجع في الدخل، أو حتى انخفاضه، لغالبية السكان في البلدان ذات الدخل المرتفع: ازداد الطلب على العمال ذوي المهارات العالية في حين انخفض الطلب على العمال ذوي المستوى التعليمي المنخفض.
ومع استبدال الأتمتة للعمالة في جميع أنحاء الاقتصاد، وتحسن تقنيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي، يقلق الكثير من الناس على مستقبل العمل. فما هي التغييرات التي قد تحدث (أو ستكون ضرورية) لكي يتكيف المجتمع؟
في الحقيقة الروبوتات بدأت في اقتحام عالم الشغل والسيطرة على بعض مناصب العمل والمهمات التي يقوم بها الإنسان منذ الستينيات، يعني مخاوف تسبب الروبوتات في أزمة بطالة ليست بشيء جديد علينا.
الأمر يتعلق بمسألة ما هو الروبوت الحقيقي؟ في حين أن الخيال العلمي غالباً ما يصور الروبوتات بأنها تنفّذ المهام بنفس الطريقة مثل البشر أو أفضل منهم، فإن الحقيقة هي أن الروبوتات تأخذ أشكالاً أكثر تخصصاً بكثير. كانت الروبوتات التقليدية في القرن العشرين عبارة عن آلات آلية وأسلحة آلية لصناعة السيارات في المصانع. الروبوتات التجارية في القرن الواحد والعشرين هي عمليات سحب ذاتي في السوبرماركت.
في نهاية المطاف، لم يعد البشر زائدين عن الحاجة تماماً نظراً لأن هذه الروبوتات قد تكون فعالة جداً ولكنها أيضاً "غبية" نوعاً ما. هذه الروبوتات لا تفكّر فهي في الأخير مصممة من طرف البشر، ولا تستطيع أن تصبح ذكية مثل البشر، صحيح أنها تتصرف فقط بطرق دقيقة ولكنها محدودة للغاية. لا يزال البشر بحاجة إلى العمل على تطوير الروبوتات، ولا زالت العديد من المهام تحتاج إلى اليد العاملة البشرية والتي لا تستطيع الروبوتات القيام بها. لكن هذا كله في طريقه للتغيير بفضل موجة جديدة من الآلات الأكثر تطوراً وأكثر تكيفاً مع مهام متعددة.
يستخدم أكثر من 30٪ من سكان العالم الآن منصات وسائل التواصل الاجتماعي للاتصال والتعلم ومشاركة المعلومات. في عالم مثالي، فإن هذه التفاعلات ستوفر فرصة للتفاهم والتماسك بين الثقافات. ومع ذلك، يمكنها أيضاً أن تكون مصدراً جيداً لنشر الأفكار المتطرفة والإرهابية والأيديولوجيات المنغلقة.
وبينما تستمر العوالم الفيزيائية والرقمية والبيولوجية في التلاقي، فإن التكنولوجيات والمنصات الجديدة ستمكن المواطنين بشكل متزايد من التفاعل مع الحكومات، والتعبير عن آرائهم، وتنسيق جهودهم، وحتى في التحايل على السلطات العامة. وفي الوقت نفسه، ستحصل الحكومات على قوى تكنولوجية جديدة لزيادة سيطرتها على السكان، استناداً إلى أنظمة المراقبة المنتشرة والقدرة على التحكم في البنية التحتية الرقمية.
كما ستؤثر الثورة الصناعية الرابعة تأثيراً عميقاً في طبيعة الأمن الوطني والدولي، تاريخ الحرب والأمن الدولي هو تاريخ الابتكار التكنولوجي، فالصراعات الحديثة التي تشمل الدول أصبحت "هجينة" بشكل متزايد، حيث تجمع بين تقنيات ساحة المعركة التقليدية والعناصر المرتبطة سابقاً بالجهات الفاعلة غير الحكومية، وللأسف يعتقد الكثير من العلماء أن الحروب المستقبلية لن تكون نووية فقط، بل سنشهد صعود ما يسمى بالروبوتات القاتلة.
لا يمكنك ألا تتحمس لمزيد من التطور التكنولوجي، ولكن في بعض الأحيان يجب أن تتساءل عما إذا كان التكامل المطرد للتكنولوجيا في حياتنا يمكن أن يؤثر على بعض من أبرز الصفات البشرية، مثل حب التعاطف والتعاون؟
واحد من أعظم التحديات الفردية التي تطرحها تكنولوجيات المعلومات الجديدة هو الخصوصية، ومع ذلك فإن تعقب ومشاركة المعلومات حولنا هو جزء أساسي من الاتصال الجديد.
النقاشات حول القضايا الأساسية مثل التأثير على حياتنا الداخلية لفقد السيطرة على بياناتنا ستزيد فقط في السنوات القادمة.
وبالمثل، فإن الثورات التي تحدث في مجال التكنولوجيا الحيوية ومنظمة العفو الدولية، والتي تعيد تعريف ما يعنيه أن يكون الإنسان عن طريق دفع عتبات الحياة، والصحة، والإدراك،، ستجبرنا على إعادة تعريف حدودنا الأخلاقية والأدبية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.