نحن في ورطة يجسدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والحرب التجارية المُحتدمة بين الصين وأمريكا، وغيرها من الظواهر الشعوبية وغيرها من المشكلات التي سببتها العولمة.
ففي مقال مطول نشر بمجلة Foreign Affairs الأمريكية، يرصد داني رودريك الأستاذ بجامعة هارفارد والرئيس المنتخب للجمعية الاقتصادية الدولية، كيف أضرت العولمة بكثير من الطبقات في المجتمعات الغربية، وتسببت في ردود أفعال متطرفة، بعد أن فقدت أعداد كبيرة من العمال وظائفها جراء هروب رأسمال إلى الدول ذات العمالة منخفضة الأجور.
في هذا المقال يرى الكاتب أن هوس أصحاب النفوذ بالعولمة أفسد نظاماً اقتصادياً جيداً هو نظام بريتن وودز، الذي كان يسود قبل انتشار العولمة، عارضاً في مقاله انتقادا للأسس النظرية لفكرة العولمة التي يرى أنها تشبه فكرة نظام سيادة الذهب الذي تسبب في الكساد العالمي العظيم في الثلاثينات، وكيف أن أمة واحدة هي المستفيد الأكبر من العولمة رغم أنها المنتهك الأول لشروطها.
المشكلات التي سببتها العولمة وقعت نتيجة خطيئة صناع السياسة في التسعينيات
يقول الكاتب إنَّنا نعيش الآن مرحلة انتفاضةٍ شعبوية، يُجسِّدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. علاوةً على الحرب التجارية المُحتدمة بين الصين والولايات المتحدة، التي يُمكن أن تنفجر في أية لحظة، في حين تُغلق الدول من جميع أنحاء أوروبا حدودها في وجه المهاجرين.
لدرجة أنَّ أكبر دُعاة العولمة يعترفون الآن بأنَّها أنتجت مزايا غير متوازنة، وأنَّ هُناك شيئاً يجب تغييره.
تعود جذور مشكلات اليوم إلى تسعينيات القرن الماضي، حين وضع صُنَّاع السياسة العالم على مساره الحالي المُفرِط في العولمة، مُطالبين بوضع الاقتصادات المحلية في خدمة الاقتصاد العالمي، وليس العكس.
في التجارة، تمثَّل هذا التحوُّل في إنشاء "منظمة التجارة العالمية" عام 1995. ولم تكتفِ "منظمة التجارة العالمية" بزيادة صعوبة مَهمة الدول في حماية أنفسها من المنافسة الدولية، بل وصلت أيضاً إلى مجالات السياسة التي لم تبلغها قوانين التجارة الدولية من قبل: الزراعة، والخدمات، والملكية الفكرية، والسياسة الصناعية، والتشريعات الصحية. وانطلقت الاتفاقات التجارية الإقليمية الأكثر طموحاً، مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، في الوقت ذاته تقريباً.
الكارثة.. إلغاء القيود على حركة تنقل الأموال
وفي مجال التمويل، أتى التغيير على شكل تحوُّلٍ جوهري في مواقف الحكومات التي ابتعدت عن إدارة تدفقات رأس المال، وبدأت في الاتجاه ناحية إلغاء القيود. وبهذا، ألغت الدول القيود عن كميات هائلة من التمويل قصير الأجل لتتدفَّق الأموال عبر الحدود، بحثاً عن عوائد أعلى، وذلك بضغطٍ من الولايات المتحدة والمنظمات الدولية مثل "صندوق النقد الدولي" و "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية".
في ذلك الوقت، بدا وكأنَّ تلك التغيرات تستند إلى أساسٍ اقتصادي سليم. ذلك أنَّ الانفتاح التجاري من شأنه أن يدفع الاقتصادات إلى تخصيص مواردها للمجالات الأكثر إنتاجية. فضلاً عن تدفُّق رأس المال من البلدان ذات الفائض، إلى البلدان التي هي بحاجةٍ إليه.
وستؤُدِّي زيادة التجارة والتمويل الأكثر حرية إلى إطلاق العنان للاستثمار الخاص، وتغذية النمو الاقتصادي العالمي، لكنَّ هذه الترتيبات الجديدة جاءت بمخاطر لم يتنبَّأ بها دُعاة العولمة المفرطة، وذلك على الرغم من أنَّ النظرية الاقتصادية كان بإمكانها أن تتنبَّأ بالجانب السلبي للعولمة، مثلما تنبأت بالجانب الإيجابي منها.
والآن التجارة مع الصين تؤدي لتراجع الصناعة بالعالم المتقدم
إذ أدَّت زيادة التجارة مع الصين وغيرها من البلدان ذات الأجور المنخفضة إلى تسريع تراجع العمالة الصناعية في العالم المتقدم، مما أدَّى إلى تخلُّف الكثير من المجتمعات المتعثرة.
في حين أسفر التوسُّع المالي للاقتصاد العالمي عن إنتاج أسوأ أزمة مالية منذ الكساد العظيم. وفي أعقاب الأزمة، روَّجت المؤسسات الدولية لسياسات التقشف التي زادت الأضرار سوءاً. وبدا وكأنَّ ما أصاب الناس العاديين حدث نتيجةً لقوى سوق مجهولة، أو بسبب صُنَّاع القرار في البلدان الأجنبية البعيدة.
واستهان الساسة وصُنَّاع القرار بتلك المشكلات، إذ أنكروا أنَّ الشروط الجديدة للاقتصاد العالمي كانت تنطوي على التضحية بالسيادة.
الهدف الوحيد أصبح التكيف مع المنافسة العالمية
ومع ذلك، بدا وكأنَّ تلك القوى قد شَلَّت حركتة أولئك الساسة أيضاً. واختلف يمين الوسط ويسار الوسط على طريقة تكييف اقتصاداتهم القومية مع قواعد الاقتصاد العالمي الجديد، وليس على ضبط القواعد في حدِّ ذاتها.
إذ أراد اليمين تخفيض الضرائب وتقليل اللوائح، في حين طالب اليسار بزيادة الإنفاق على التعليم والبنية التحتية العامة، واتَّفق الجانبان على ضرورة إعادة تشكيل الاقتصادات باسم التنافسية العالمية.
إذ إنَّ العولمة "هي المُكافئ الاقتصادي لقوى الطبيعة، مثل الرياح أو الماء"، على حد تعبير الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. وسخر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير من أولئك الذين كانوا يُريدون "مناقشة العولمة"، قائلاً: "يُمكنكم أيضاً مناقشة ما إذا كان ينبغي للخريف أن يعقُب الصيف".
ومع ذلك، فلم يكن ثمة أمر حتمي في المسار الذي سلكه العالم في بداية التسعينيات. إذ اضطلعت المؤسسات الدولية بدورها، لكنَّ العولمة المفرطة كانت حالةً ذهنية أكثر من كونها قيداً ثابتاً حقيقياً على السياسة المحلية.
كان هناك نموذجان اقتصاديان سائدان.. أحدهما أقرب للعولمة
وقبل ذلك، كانت الدول قد جربت نموذجين مختلفين للغاية ممن العولمة: نظام الذهب الدولي واتفاقية بريتون وودز.
وكانت العولمة المفرطة الجديدة أقرب في روحها إلى نظام الذهب الذي كان أكثر بُعداً وتطفُّلاً من الناحية التاريخية.
وهذا هو أصل الكثير من مشكلات اليوم، وينبغي أن ينظر صُنَّاع السياسة اليوم إلى مبادئ بريتون وودز الأكثر مرونة، في حال كانوا يريدون صياغة اقتصادٍ عالمي أكثر عدلاً واستدامة.
ونشأ هذا النظام في نهاية الحرب العالمية الثانية، إثر دعوة الحكومة الأمريكية 44 دولة للاجتماع في يوليو/تموز 1944، بمدينة بريتون وودز في ولاية نيو هامبشير للاتفاق على نظام نقدي دولي جديد، بغية تأمين الاستقرار والنمو الاقتصادي العالمي.
ومن أهم خصائص هذا النظام ثبات أسعار صرف العملات، كما قام هذا النظام النقدي الجديد على أساس "قاعدة الصرف بالدولار الذهبي" وعلى أساس "مقياس التبادل الذهبي"، وبذلك تحول الدولار الأمريكي من عملة محلية إلى عملة احتياط دولية.
وقد التزمت الولايات المتحدة أمام المصارف المركزية للدول الأعضاء بتبديل حيازتها من الدولارات الورقية بالذهب، وعلى أساس سعر محدد وثابت وهو 35 دولاراً للأونصة، وبذلك تساوى الدولار بالذهب في السيولة والقبول العام به احتياطياً دولياً.
ومن أجل تحقيق المرونة سمح الصندوق بتقلبات أسعار صرف عملات البلدان الأعضاء ضمن هامش محدد، وإذا تجاوز سعر صرف عملة ما هذه الحدود فإنه يجب على المصرف المركزي أن يتدخل في السوق بائعاً أو شارياً لعملته الوطنية، لإعادة السعر إلى الهامش المسموح به.
وأقرَّ الصندوق أيضاً السماح للبلدان الأعضاء بتغيير معادلات قيم عملاتها بنسبة 10% حدّاً أقصى من سعر التعادل الأساسي، وإذا ما زاد التغيير المرغوب فيه على هذه النسبة فإنه يلزم أولاً أخذ موافقة الصندوق.
كيف نشأ نظام الذهب الدولي؟
أما نظام الذهب الدولي فهو المسؤول عن تحديد قواعد الإدارة الاقتصادية على مدار 50 عاماً تقريباً قبل الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى فترة انتعاشٍ قصيرة ما بين الحربين. وكان على الحكومة، وفقاً لنظام الذهب الدولي، أن تُثبِّت قيمة عملتها المحلية بسعر الذهب، وأن تُحافظ على حدودٍ مفتوحة للتمويل، وأن تُسدِّد ديونها الخارجية في جميع الأحوال.
ولو كانت هذه القواعد تعني أنَّ على الحكومة أن تفرض ما يسميه الاقتصاديون اليوم بالتقشف، فليكن الأمر كذلك، مهما كانت أضرار ذلك على الدخل والعمالة المحلية.
وكان من المنطقي أنه نتيجة هذا الاستعداد لفرض الألم الاقتصادي أن تنشأ في المقابل أول حركةٍ شعبوية واعية بذاتها، في ظل نظام الذهب الدولي.
ففي نهاية القرن التاسع عشر، أعطى "حزب الشعب" صوتاً للمزارعين الأمريكيين المكروبين الذين كانوا يُعانون من ارتفاع أسعار الفائدة على ديونهم، وانخفاض أسعار محاصيلهم.
وكان الحل واضحاً: تسهيل القروض الائتمانية، من خلال جعل العملة قابلة للاسترداد بالفضة والذهب على حد سواء.
وفي حال سمحت الحكومة لأي شخص يمتلك سبيكةً فضية بتحويلها إلى عملةٍ بسعر محدد، فسوف يزيد المعروض من المال، مما سيرفع الأسعار ويُخفِّف عبء ديون المزارعين. لكنَّ المؤسسة الشمالية الشرقية، ودعمها لنظام الذهب الدولي، وقفت حائلاً أمام تطبيق ذلك.
وتنامت مشاعر الإحباط، قبل أن يُصرِّح وليام جيننغز بريان، أحد المرشحين للرئاسة في "المؤتمر الوطني الديمقراطي" عام 1896، بهذا التصريح الشهير: "لا تصلبوا البشرية على صليبٍ من الذهب".
نجا نظام الذهب الدولي من هذا الهجوم الشعبوي داخل الولايات المتحدة، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى الاكتشافات غير المتوقعة لخام الذهب الذي خفَّف شروط الائتمان بعد تسعينيات القرن التاسع عشر.
وبريطانيا هي التي أسقطته
ولكن بعد ذلك بنحو أربعة عقود، سقط نظام الذهب الدولي على يد المملكة المتحدة هذه المرة، تحت ضغط مظالم مُماثلة.
ولكن بعد تعليق نظام الذهب الدولي على نحو فعال أثناء الحرب العالمية الأولى، عادت المملكة المتحدة إليه عام 1925 بنفس المعدل في فترة ما قبل الحرب.
لكنَّ الاقتصاد البريطاني لم يَعُد إلَّا ظلاً لما كان عليه قبل الحرب، وبعد ذلك بأربع سنوات، دفع انهيار عام 1929 بالبلاد إلى حافة الهاوية. فطالب العُمَّال والشركات بخفض أسعار الفائدة، التي كانت سوف تُرسِلُ رأس المال إلى الخارج بموجب نظام الذهب الدولي.
ومع ذلك، اختارت الحكومة البريطانية هذه المرة الاقتصاد المحلي، وفضلته على القواعد العالمية، وتخلَّت عن نظام الذهب الدولي عام 1931.
وبعد ذلك بعامين، حذا الرئيس الأمريكي المنتخب حديثاً، فرانكلين روزفلت، حذو الحكومة البريطانية في تصرُّفٍ حكيم. ويُدرِكُ الاقتصاديون اليوم أنَّ سرعة ترك دولة ما لنظام الذهب الدولي، تناسبت طردياً مع خروجها من الكساد العظيم آنذاك.
وثبت أن التركيز على تعزيز التجارة والاستثمار الدوليين جعلا النظام أكثر هشاشة
وتعلَّم مُهندسو النظام الاقتصادي الدولي في فترة ما بعد الحرب من تجربة نظام الذهب الدولي، ومن أبرزهم الاقتصادي جون مينارد كينز، أنَّ التحكم الشديد في الاقتصادات المحلية لتعزيز التجارة والاستثمار الدوليين قد جعل النظام أكثر هشاشة.
وبالتالي فإنَّ النظام الدولي الذي صاغته دول الحلفاء، في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، أعطى الحكومات مجالاً واسعاً لوضع السياسة النقدية والمالية.
الضوابط على حركة رأس المال ليست أمراً مؤقتاً وسعر العملة أصبح ثابتاً.
وكانت الضوابط التي فرضتها الاتفاقية على حركة رأس المال الدولي هي من العناصر الأساسية لهذا النظام.
إذ أكَّد كينز أنَّ ضوابط رأس المال لم تكن مجرد وسيلةٍ مؤقتة لحين استقرار الأسواق المالية بعد الحرب، بل كانت "ترتيباً دائماً".
وحدَّدت كل حكومة قيمة عملتها، لكن كان بإمكانها تعديل هذه القيمة حين يتصادم الاقتصاد بقيود التمويل الدولي.
واستند نظام بريتون وودز إلى الاعتقاد بأنَّ أفضل طريقةٍ لتشجيع التجارة الدولية والاستثمار طويل الأجل، هي تمكين الحكومات الوطنية من إدارة اقتصاداتها.
وحرية التجارة كانت مقيدة بمصالح الدول السياسية والاجتماعية
وغطى نظام بريتون وودز الترتيبات النقدية والمالية الدولية فقط. أما قواعد التجارة، فقد تطوَّرت بطريقةٍ تعتمد على كل حالة بعينها، تحت رعاية الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات)، لكنَّ الفلسفة ذاتها كانت مستعملة.
إذ كان على البلدان فتح اقتصاداتها فقط إلى الحد الذي لا يضر بالعمليات الاجتماعية والسياسية المحلية.
وظلَّ تحرير التجارة مقصوراً على تخفيض القيود الحدودية -مثل حصص الاستيراد والتعريفات الجمركية- على البضائع المُصنَّعة.
والدول النامية كانت تفعل ما يحلو لها
كان هذا النظام يُطبَّق على الدول المتقدمة فقط، أما الدول النامية فكانت حرةً في الأساس في أن تفعل ما يحلو لها، بل حتى الدول المتقدمة كانت تتمتَّع بالكثير من المرونة لحماية القطاعات الحساسة. وحين شكَّل الارتفاع السريع في واردات الملابس من الدول النامية تهديداً على العمالة في العالم المتقدم أوائل السبعينيات، تفاوضت الدول المتقدمة والدول نامية على نظامٍ خاص سمح للدول المتقدمة بإعادة فرض حصص الاستيراد.
وبمقارنة قوانين بريتون وودز والجات مع كل من نظام الذهب الدولي والعولمة المفرطة اللاحقة، فإنَّ هذه القوانين أعطت الدول حريةً كبيرة في اختيار الشروط التي سوف تشترك بموجبها في الاقتصاد العالمي.
واستغلَّت الاقتصادات المتقدمة هذه الحرية في تنظيم اقتصاداتها، وفرض الضرائب عليها حسب رغبتها، وبناء دول رفاهية سخية لم تعقها مخاوف التنافسية العالمية أو هروب رأس المال. في حين نوَّعت الدول النامية اقتصاداتها من خلال القيود التجارية والسياسات الصناعية.
وربما يبدو الاستقلال المحلي من الضغوط الاقتصادية العالمية أشبه بوصفة لتقليل العولمة، لكن الاقتصاد العالمي كان يمر بسلسلة من الإنجازات أثناء فترة بريتون وودز.
إذ نمت الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء وبمعدلات غير مسبوقة، وتوسَّعت التجارة والاستثمارات الأجنبية المباشرة بسرعةٍ أكبر لتتجاوز سرعة نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتضاعفت حصة الصادرات في الإنتاج العالمي إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، وارتفعت من أقل من 5% عام 1945 لتصل إلى 16% عام 1981. وكان هذا النجاح بمثابة تأكيدٍ لافت لفكرة كينز بأنَّ الاقتصاد العالمي يعمل على نحوٍ أفضل حين تهتم كل حكومة باقتصادها ومجتمعها.
إلى أن عاد العالم إلى روح نظام الذهب الدولي
من المفارقات أنَّ دُعاة العولمة المفرطة استخدموا نجاح نظام بريتون وودز ذاته في إضفاء الشرعية على مشروعهم لاستبداله.
إذ جادلوا بأنَّه في حال كانت ترتيبات بريتون وودز الضحلة قد فعلت كل هذا لرفع التجارة العالمية والاستثمار ومستويات المعيشة، فتخيَّلوا ما الذي يمكن أن يُحقِّقه الاندماج الأعمق.
لكنَّ الدرس المحوري للنظام القديم اندثر في خِضَمِّ عملية بناء نظامٍ جديد، إذ أصبحت العولمة هي الغاية، وتحوَّلت الاقتصادات الوطنية إلى الوسيلة.
وأضحى الاقتصاديون وصُنَّاع السياسات ينظرون إلى كافة سمات الاقتصادات المحلية المُتصوَّرة من خلال عدسة الأسواق العالمية. وكانت اللوائح المحلية بمثابة حواجز خفية للتجارة ينبغي التفاوض حول إلغائها من خلال اتفاقيات التجارة، أو مصادر محتملة للتنافسية التجارية.
وتحوَّلت ثقة الأسواق المالية إلى مقياسٍ أساسي لنجاح أو فشل السياسية النقدية والمالية.
وكانت فرضية نظام بريتون وودز تدور حول أنَّ الجات والاتفاقيات الدولية الأخرى سوف تكون بمثابة ثقلٍ مُوازن للحمائيين الأقوياء في الداخل، مثل نقابات العمال والشركات التي تخدم السوق المحلية بشكلٍ أساسي. ورغم ذلك، ابتعد ميزان القوة السياسية في الدول الغنية بعيداً عن الحمائيين بحلول التسعينيات، واتَّجه لصالح جماعات ضغط المُصدِّرين والمستثمرين.
وصعود أهمية الملكية الفكرية انعكاس لهيمنة مصالح الكبار
وعكست الاتفاقات التجارية التي ظهرت في التسعينيات قوة جماعات الضغط هذه>
وكان خير مثالٍ على هذه القوة هو حين تضمَّنت اتفاقيات التجارة الدولية وسائل حمايةٍ محلية لحقوق الملكية الفكرية، وهو ما جاء نتيجةً للضغط القوي الذي فرضته شركات الأدوية التي تتوق إلى جني الأرباح من خلال بسط سلطتها الاحتكارية على الأسواق الأجنبية.
وحتى يومنا هذا، تُعَدُّ صناعة الأدوية هي أكبر جماعة ضغط تقف وراء الاتفاقات التجارية.
وفاز المستثمرون الدوليون أيضاً بامتيازات خاصة في الاتفاقيات التجارية، مما سمح لهم -دون غيرهم- بمقاضاة الحكومات مباشرة في المحاكم الدولية بسبب الانتهاكات المزعومة لحقوق ملكيتهم. وضغطت البنوك الكبيرة، بتأييد من سلطة وزارة الخزانة الأمريكية، على الدول للانفتاح على التمويل الدولي.
والنتيجة انتقال الوظائف من المناطق الأمريكية التي تعتمد على التصنيع إلى المكسيك والصين
أما أولئك الذين خسروا بسبب العولمة المفرطة، فلم يحصلوا على دعمٍ كبير.
إذ شهدت الكثير من المجتمعات المعتمدة على التصنيع في الولايات المتحدة انتقال وظائفهم إلى الصين والمكسيك.
وعانت تلك المجتمعات عواقب اقتصادية واجتماعية تتراوح بين البطالة وأوبئة إدمان المخدرات.
ومن حيث المبدأ، كان يجب تعويض العمال الذين تضرروا من التجارة عن طريق برنامج مساعدة التوافق التجاري، لكنَّ الساسة لم تكن لديهم أي حوافز لتمويل هذا البرنامج على نحوٍ ملائم أو التأكُّد من نجاعة عمله.
كان الاقتصاديون واثقين للغاية في العولمة بوصفها مُحرِّكاً للنمو خلال التسعينيات، إذ تمثَّلت اللعبة في تشجيع الصادرات وجذب الاستثمارات الأجنبية. وفي حال فعلت ذلك، فسوف تصبح المكاسب كبيرةً بحيث يفوز الجميع في نهاية المطاف. وساعد الإجماع التكنوقراطي في إضفاء الشرعية على قوة عولمة الشركات والمصالح المالية الخاصة وتعزيزها.
وكان الرهان أن العولمة ستجعل الصين تشبه الغرب
وكان الاعتقاد بأنَّ الدول ذات النماذج الاقتصادية والاجتماعية المختلفة سوف تتقارب في نهاية المطاف بمثابة أحد العوامل المهمة لابتهاج المؤمنين بالعولمة المفرطة، وذلك في نماذج اقتصاد السوق المُشابهة على الأقل، وإن لم تكن مُطابقةً للنموذج المثالي.
إذ استند قبول الصين في منظمة التجارة العالمية، على وجه الخصوص، إلى توقُّع الغرب بأنَّ الدولة [الصينية] سوف تتخلى عن توجيه النشاط الاقتصادي. ومع ذلك، فقد كانت الحكومة الصينية تمتلك أفكاراً مُختلِفة، إذ لم تجد سبباً وجيهاً للابتعاد عن نوع الاقتصاد المُوجَّه الذي أنتج مثل هذه النتائج الإعجازية على مدى السنوات الأربعين الماضية.
لكن شكاوى المستثمرين الغربيين من أنَّ الصين تنتهك التزاماتها تجاه "منظمة التجارة العالمية"، وتنخرط في ممارسات اقتصادية غير عادلة، لم تلق آذاناً صاغية. وبصرف النظر عن الجدارة القانونية لقضية كلا الجانبين، فإنَّ المشكلة الأعمق تكمن في شيءٍ آخر، إذ إنَّ نظام التجارة الجديد لا يستطيع استيعاب النطاق الكامل للتنوُّع المؤسَّسي بين أكبر اقتصادات العالم.
نحن بحاجة لعولمة أعقل
لم يَعُد بإمكان صُنَّاع السياسة إحياء نظام بريتون وودز بكل تفاصيله، ولا يستطيع العالم -ولا ينبغي عليه- العودة إلى أسعار الصرف الثابتة، وضوابط رأس المال المتفشية، والمستويات العالية من الحماية التجارية.
لكنَّ صُنَّاع السياسة يستطيعون الاستفادة من دروسه لصياغة عولمةٍ جديدة وصحية.
إذ إنَّ أُحادية ترامب الفَجَّة هي الطريقة الخاطئة للمضي قُدُماً. ويتعيَّن على الساسة العمل من أجل إحياء شرعية النظام التجاري مُتعدِّد الأطراف، بدلاً من سحقها.
ولكن طريقة تحقيق ذلك لا تتمثَّل في زيادة فتح الأسواق وتشديد القوانين العالمية للتجارة والاستثمار، لأنَّ عوائق التجارة في البضائع والكثير من الخدمات مُنخفضةٌ للغاية بالفعل.
لذا تتمثَّل المهمة في ضمان دعمٍ شعبي أكبر لاقتصادٍ عالمي منفتح من الجوانب الأساسية، حتى ولو كان أقل من الصورة المثالية للعولمة المفرطة.
ويتطلب بناء هذا الدعم معايير دولية جديدة تُوسِّع المجال أمام الحكومات لتنفيذ الأهداف المحلية. وهذا يعني وجود نظام يسمح للدول الغنية بإعادة بناء اهتماماتها الاجتماعية المحلية.
علاوةً على الحاجة لإصلاح مجموعة القواعد التي تسمح للدول بحماية قطاعاتها الحساسة من المنافسة مُؤقتاً.
يجب معاقبة الدول التي تبالغ في تخفيض أجور عمالها مقابل تخفيف قيود الملكية الفكرية أمام العالم الثالث
فعلى سبيل المثال، تسمح "منظمة التجارة العالمية" للدول بفرض تعريفات جمركية مؤقتة على الواردات التي تبيعها شركة أجنبية بأقل من التكلفة، بما يهدد بالإضرار بالصناعة المحلية، وتُعرف تلك التعريفات باسم رسوم مكافحة الإغراق.
ويجب على "منظمة التجارة العالمية" أن تسمح للحكومات بالاستجابة لما يُسمى بالإغراق الاجتماعي، وهو الممارسة التي تقوم بموجبها الدول بانتهاك حقوق العمال من أجل الإبقاء على الأجور منخفضة وجذب الإنتاج.
ومن شأن نظام مكافحة الإغراق الاجتماعي أن يسمح للدول بحماية أرباح الصناعة، فضلاً عن حماية معايير العمل أيضاً.
وبالنسبة للبلدان النامية، فينبغي أن تُلبِّي القواعد الدولية حاجة الحكومات إلى إعادة هيكلة اقتصاداتها من أجل تسريع النمو. ويجب أن تُخفِّف "منظمة التجارة العالمية" أيضاً من القواعد الخاصة بالإعانات، والاستثمار، وحقوق الملكية الفكرية، التي تعيق قدرة البلدان النامية على تعزيز صناعات معينة.
وها هي الصين تقلد أمريكا في السرقة.. تستفيد من العولمة وتنتهك شروطها
وفي حال أرادت الصين والولايات المتحدة حل نزاعهما التجاري، فإنَّهما بحاجةٍ إلى الاعتراف بأنَّ الاختلافات بين الاقتصادين لن تختفي. إذ بُنِيَت المعجزة الاقتصادية الصينية على سياسات صناعية ومالية انتهكت مبادئ أساسية لنظام العولمة المفرطة: الإعانات للصناعات المفضلة، ومتطلبات أن تقوم الشركات الأجنبية بنقل التكنولوجيا إلى شركات محلية في حال أرادت العمل داخل الصين، والملكية الواسعة للدولة، وضوابط العملة.
ولن تتخلَّى الحكومة الصينية عن هذه السياسات الآن. وما تراه الشركات الأمريكية سرقةً للملكية الفكرية، هو أمرٌ يمارس منذ الأزل، وهو أمرٌ انخرطت فيه الولايات المتحدة في بداياتها حين كانت تحاول اللحاق بإنجلترا الصناعية في القرن التاسع عشر.
ويجب على الصين أيضاً أن تُدرك أنَّ الولايات المتحدة والدول الأوروبية لديها أسبابها المشروعة لحماية عقودها الاجتماعية وتكنولوجياتها المحلية من الممارسات الصينية.
وبالنظر إلى علاقة الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة، فينبغي أن تهدف الصين والولايات المتحدة إلى التعايش السلمي بدلاً من التقارب.
والأهم إعادة سيطرة الحكومات على التمويل الدولي
وفي مجال التمويل الدولي، يتعيَّن على الدول إعادة فرض القاعدة التي تقول إنَّ الحكومات المحلية تستطيع التحكُّم في تنقُّل رأس المال عبر الحدود، وخاصةً في التنقُّلات قصيرة الأجل. ويجب أن تعطي القواعد الأولوية لسلامة سياسات الاقتصاد الكلي المحلية، وأنظمة الضرائب واللوائح المالية، على تدفقُّات رأس المال.
وعكس "صندوق النقد الدولي" مُعارضته القاطعة لضوابط رأس المال بالفعل، لكن يتعيَّن على الحكومات والمؤسسات الدولية بذل المزيد من الجهد لإضفاء الشرعية على استخدام تلك الضوابط. وتستطيع الحكومات مثلاً جعل اقتصاداتها المحلية أكثر استقراراً من خلال استخدام "تشريع رأس المال المُقاوم لآثار الدورات الاقتصادية"، أيّ تقييد تدفقات رأس المال القادمة من الخارج حين يكون الاقتصاد قوياً، وفرض ضرائب على التدفقات الخارجة أثناء فترة الانكماش الاقتصادي.
ويجب على الحكومات أيضاً فرض إجراءات صارمة ضد التهرب الضريبي للأثرياء، من خلال إنشاء سجل مالي عالمي من شأنه تسجيل إقامة وجنسية المساهمين وأصحاب الأصول المالية الفعليين.
وفي حال ترك العولمة خاضعةً لآلياتها الخاصة، فسوف تخلق على الدوام فائزين وخاسرين. وينبغي أن يقوم المبدأ الأساسي للعولمة الجديدة على مبدأ أنَّ التغيُّرات في قواعدها يجب أن تُحقِّق الفائدة للجميع، وألا تقتصر على أقليةٍ فقط.
وحان الوقت للانتباه لمسألة تحرير انتقال العمالة
ويجب أن تُركِّز الدول بدلاً من ذلك على تحرير حركة العمالة عبر الحدود، حيث تكون العوائق أكبر بكثير. وفي الواقع، فإنَّ أسواق العمل هي المجال الذي يُوفِّر أقوى الحجج الاقتصادية لتعميق العولمة. ويُمكن اعتبار توسيع نطاق برامج تأشيرات العمل المؤقتة في الدول المتقدمة، للعمالة مُنخفضة المهارة تحديداً، أحد سبل تحقيق ذلك.
وربما يبدو أنَّ اقتراح عولمةٍ أكبر داخل أسواق العمل، يتحدَّى المخاوف المُعتادة من أنَّ زيادة المنافسة من العمال الأجانب سوف تضُرُّ بالعمالة مُنخفضة المهارة في الاقتصادات المُتقدِّمة. وربما يكون ذلك أمراً غير فعالٍ سياسياً في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية حالياً.
وفي حال لم تقترح الحكومات تعويض الخاسرين، فينبغي لها التعاطي مع هذه المخاوف بجديةٍ. لكنَّ المكاسب الاقتصادية المحتملة ستكون هائلة، إذ إنَّ الزيادة البسيطة في تنقُّل العمالة عبر الحدود من شأنها أن تُحقِّق مكاسب اقتصادية عالمية تتضاءل بجانبها المكاسب الناتجة عن إتمام الجولة الحالية من مفاوضات التجارة متعددة الأطراف، والمتوقفة منذ فترة.
وهذا يعني أنَّ هُناك مجالاً واسعاً لتعويض الخاسرين، عن طريق فرض ضرائب على زيادة تدفقات العمالة عبر الحدود، وإنفاق العائدات مباشرةً على برامج المساعدة في سوق العمل مثلاً.
وبشكل عام، يجب أن تكون الحوكمة العالمية خفيفةً ومرنة، بما يسمح للحكومات بأن تختار أساليبها التنظيمية. فالدول لا تُتاجر من أجل منح المزايا للآخرين، وإنما لأنَّ التجارة تخلق مكاسب في الداخل.
وحين تُوزَّع تلك المكاسب على نحوٍ عادل في جميع أنحاء الاقتصاد المحلي، لا تكون الدول بحاجةٍ إلى قواعد خارجية لفرض الانفتاح، وإنَّما سوف تختاره من تلقاء نفسها.
كما يجب التصدي للملاذات الضريبية وخفض سعر العملة
ومن شأن لمسة أخف أن تساعد العولمة، إذ توسَّعت التجارة من ناحية الإنتاج العالمي في نهاية المطاف بسرعةٍ أكبر، وذلك أثناء الثلاثة عقود والنصف من نظام بريتون وودز، مُقارنةً بما كان عليه الحال منذ عام 1990، حتى مع استبعاد التباطؤ الاقتصادي الذي أعقب الأزمة المالية العالمية عام 2008.
ولا يجب على الدول اتِّباع اتفاقيات دولية لتقييد السياسة المحلية لدول أخرى، إلَّا حين تكون هناك حاجة للتصدي لمشكلات حقيقة تتعلَّق بسياسات إفقار الجار، مثل الملاذات الضريبية للشركات، والاتحادات الاقتصادية للمنتجين، والسياسات التي تبقي عملة إحدى البلاد رخيصة شكلياً.
ويُحاول النظام الحالي للقواعد المالية كبح جماح الكثير من السياسات الاقتصادية التي لا تُمثِّل مشكلات إفقار حقيقية للجار.
وحين ننظر مثلاً إلى الحظر المفروض على الكائنات المعدلة وراثياً، والإعانات الزراعية، والسياسات الصناعية، والتشريعات المالية المفرطة في التراخي، نجد أنَّ كُلَّ واحدةٍ من هذه السياسات يُمكِن أن تُلحِق ضرراً بالبلدان أخرى.
العولمة تسببت في تفكك محلي.. فالنخب تتصل بنظرائها الخارجيين أكثر من محيطها
وأدَّى الضغط من أجل تحقيق العولمة المفرطة منذ التسعينيات إلى مستويات أكبر بكثير من التكامل
الاقتصادي الدولي، وأنتج في الوقت ذاته تفكُّكاً محلياً.
وأصبحت النخب المهنية، والشركات، والنخب المالية أكثر بُعداً عن مواطنيها في الداخل، وذلك بالتزامن مع زيادة ارتباطها بأقرانها في جميع أنحاء العالم. وليس رد الفعل الشعبوي اليوم إلا عَرَضاً من أعراض هذا التفتُّت.
ويجب تنفيذ الجزء الأكبر من العمل اللازم، لإصلاح الأنظمة السياسية والاقتصادية المحلية، في الداخل. وذلك لأنَّ سد الفجوات الاقتصادية والاجتماعية التي اتَّسعت بفعل العولمة المفرطة، سيتطلب إعادة الأولوية للمجال المحلي في تسلسل السياسة الهرمي، وخفض رتبة المجال الدولي.
إذ إنَّ تمكين هذا الإصلاح يُعَدُّ أكبر مساهمةٍ يمكن أن يقدمها الاقتصاد العالمي لهذا المشروع، وليس إعاقته.