هجوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشرس على رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي على خلفية مستندات مسرّبة لسفير لندن في واشنطن يصف فيها إدارة ترامب بالاضطراب وعدم الكفاءة يطرح تساؤلات بشأن مستقبل العلاقات بين الحليفين التقليديين، خصوصاً في وقت بدأت فيه بريطانيا شقّ صف الإجماع الدولي بشأن أزمة إيران، وتقاربت أكثر من الموقف الأمريكي، فما هي القصة؟
الخلاف بين البلدين اندلع مباشرة بعد نشر سلسلة من مذكرات سرية للسفير البريطاني في واشنطن كيم داروش، تم تسريبها إلى صحيفة "ذا ميل أون صنداي" البريطانية التي قامت بنشرها الأحد 7 يوليو/تموز.
ماذا قال داروش في مراسلاته السرية؟
السفير البريطاني وصف إدارة ترامب بأنها "لا تؤدي واجباتها كما ينبغي، وخرقاء، وتفتقر للكفاءة"، وذلك نقلاً عن سلسلة من مذكرات سرية، وفي مذكرات للحكومة البريطانية خلال الفترة من عام 2017 إلى الوقت الحالي، قال داروش إن ترامب "يشع اضطراباً"، ونصح المسؤولين في لندن بأنهم إذا أرادوا التعامل معه بفاعلية "فعليكم بطرح أفكاركم ببساطة بل وبفظاظة".
تيريزا ماي أكدت دعمها الكامل لداروش، بعدما أعلن ترامب قطع التواصل معه، وأفاد مكتب رئيسة وزراء بريطانيا بأنه بينما تعد التسريبات "مؤسفة"، إلا أن السفير البريطاني ما زال يتمتع بدعم رئيسة الوزراء الكامل.
الخارجية البريطانية كانت أقل مباشرة في دعم السفير لكنها أخذت صفه أيضاً، حيث نقلت صحيفة "الغارديان" عن متحدث باسم الخارجية قوله: "إن شعبنا يتوقع أن يزوّد السفراء حكومة بلادهم بتقييم أمين وصريح للسياسة في البلد الذي يعيّنون به، وإن آراءهم ليست بالضرورة قيد التبني من قبل الوزراء أو الحكومة"، مشيرة إلى أن الحكومة تدفع رواتب لهم ليكونوا صريحين.
وشدد المتحدث على أنه "من المهم أن يتمكن سفراؤنا من تقديم النصيحة وأن تظل سرية"، وقال مضيفاً: "إن فريقنا في واشنطن على علاقات قوية بالبيت الأبيض، وستصمد هذه العلاقات دون شك في وجه مثل هذا السلوك الشرير".
ردّ شرس من ترامب
قال ترامب في تغريدة على تويتر: "أنا أنتقد بشدة طريقة إدارة المملكة المتحدة ورئيسة الوزراء تيريزا ماي لملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي"، واصفاً ذلك بـ "الفوضى"، وتابع قبل حتى أن يأتي الدور على داروش: "لقد أخبرتها عن طريقة التعامل مع البريكسيت، ولكنها فضلت القيام بالعكس".
وتمادى ترامب في انتقاداته واصفاً الدبلوماسي البريطاني بأنه "غير مستقر" و "غير كفء، لا أعرف السفير ولكنه ليس محبوباً وسُمعته سيئة جيداً في الولايات المتحدة. لن يكون لدينا المزيد من الاتصالات معه"، ثم ختم قذائفه الترامبية بالإشادة باستقالة تيريزا ماي وتعيين رئيس وزراء جديد.
هل أخطأ السفير في حق ترامب؟
السير بيتر ويستماكوت سلف داروش أجاب عن السؤال في مقال نشرته صحيفة تليغراف البريطانية، اليوم الثلاثاء 9 يوليو/تموز، أوضح فيه مهمة أي سفير وهي تنقسم إلى شقين: الأول علني وهو التعامل مع الإعلام وتمثيل بلاده في المناسبات العامة، والثاني سري ويتمثل في التفاوض ونشر التأثير لصالح بلاده في دوائر صنع القرار وتقديم تقارير صادقة وأمينة عن الأوضاع في البلد الذي يخدم فيه وتقديم النصائح بشأن كيفية التعامل مع إدارة تلك البلاد.
وبالتالي لم يتخطَّ داروش مهام وظيفته، بحسب ويستماكوت، ولا بد من كشف مصدر التسريب ومعاقبته؛ لأنها مخالفة جسيمة سببت حرجاً بالغاً للحكومة البريطانية.
ويرى ويستماكوت أن هناك أسباباً محتملة وراء تسريب مذكرات داروش التي تمتد لعامين وفي هذا التوقيت تحديداً، "ربما يوجد أشخاص في قلب الحكومة البريطانية -حيث إن مَن لهم حق الاطلاع على المذكرات المسربة عدد محدود جداً- يعتقدون أن هذا التسريب ربما يقنع خليفة تيريزا ماي بتعيين سفير أقل استعداداً لقول الحقيقة من داروش أو اختيار شخص يعتبر "صديقاً" لإدارة ترامب".
لماذا إذاً الهجوم على تيريزا ماي؟
هذه المعطيات تطرح السؤال حول دوافع ترامب من هجومه الشرس على تيريزا ماي وتدخله في شأن داخلي بحت وهو البريكسيت، والإجابة محصورة بين ملفين لا ثالث لهما وكلاهما يتعلق بالانتخابات: الأول سعي ترامب للفوز بفترة رئاسية ثانية العام المقبل، والثاني يتعلق بمن سيخلف تيريزا ماي في مقعد رئاسة الوزراء في لندن.
خصوم ترامب من الديمقراطيين سيستغلون مذكرات داروش المسربة بالطبع لمهاجمة إدارته وإضعاف فرص إعادة انتخابه، وفي هذا السياق جاءت ردود ترامب الهجومية الشرسة لتحويل الأنظار عن مضمون المذكرات المسربة وتركيز التغطية الإعلامية على فشل تيريزا ماي في الخروج من الاتحاد الأوروبي والفوضى السياسية في لندن.
الهجوم على ماي أيضاً رسالة لمساندة معارضيها ودعم موقفهم حتى يأتي خليفة لها يكون حليفاً لترامب، وهو ما يتضح من تأكيدات ترامب في تغريداته على العلاقات القوية بين واشنطن و "شعب المملكة المتحدة العظيم".
هجوم ترامب على تيريزا ماي ربما يكون رسالة لمعارضيها ولها شخصياً للتخلي عن التردد وتبني موقفه من تشديد الخناق على طهران كي تعود لطاولة المفاوضات بشروطه، بدلاً من العمل مع فرنسا وألمانيا وروسيا والصين لمحاولة إنقاذ الاتفاق النووي الذي انسحب منه.
صحيح أن أمر توقيف ناقلة النفط الإيرانية جاء بناءً على طلب أمريكي، وصحيح أيضاً أن البحرية البريطانية لم تكن لتنفذ عملية الاحتجاز إلا بأوامر من رئاسة الوزراء أي تيريزا ماي، لكن هذا لا يعني بالضرورة تطابقاً في رؤية ماي مع ترامب في كيفية التعامل مع إيران، وبالتالي ربما أراد ترامب استغلال تسريب المذكرات في إرسال رسالة مفادها أنه "من ليس معي فهو ضدي"، تذكيراً بجورج بوش الابن الرئيس الجمهوري الذي غزا العراق بدعم لا مشروط من رئيس وزراء بريطانيا وقتها توني بلير.