تعهَّد قادة المعارضة والجيش السودانيون بإجراء انتخابات جديدة خلال ما يزيد قليلاً عن ثلاث سنوات، وذلك في اتفاقٍ تاريخي توصَّلوا إليه الجمعة، 5 يوليو/تموز، وبعد أشهرٍ من الاحتجاجات والعنف، قُوبِلَ الإعلان بالتفاؤل الفاتر لدى السودانيين.
يسقط الطاغية ويبقى الورثة
يشعر الكثيرون بالقلق إزاء اشتراك قادة عسكريين معروفين بسمعتهم السيئة في انتقال السودان إلى الحكم المدني، وهو ما قد يُشير إلى أنَّ البلاد تسير على السيناريو المعروف نفسه الذي انتهت إليه معظم الانتفاضات الشعبية العربية التي اندلعت عام 2011: يسقط الطاغية، ولكن حلفاءه سيبقون، بحسب صحيفة The Washington Post الأمريكية.
ففي أبريل/نيسان الماضي، أجبرت الاحتجاجات الشعبية المتواصلة الرئيس السوداني عمر البشير على ترك منصبه بعد ثلاثة عقود من الحكم. بعد أن كانت حكومته تقمع الحقوق المدنية وتشُنُّ الحملات العنيفة ضد الأقليات العرقية.
وكان البشير آخر الزعماء العرب الذين أزاحهم نشطاء مؤيدون للديمقراطية منذ الربيع العربي الذي شهد سقوط المستبدين في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، ومؤخراً في الجزائر. ولكن في أعقاب إطاحة البشير، تعلَّم حلفاء البشير العسكريون درساً مهماً من الفترة التي أعقبت الربيع العربي: التدخُّل "للحفاظ" على الثورة يعني في كثيرٍ من الأحيان التحكُّم الكامل في مسار البلاد.
ففي مصر، حلَّت حكومةٌ قمعية مدعومة من الجيش محلَّ الحماس الديمقراطي الذي أعقب الثورة. وفي ليبيا واليمن، لا تزال الصراعات مُحتدمِةً ويضطلع فيها رموز النظام السابق بأدوار رئيسية. وحتى في تونس، مَهد الربيع العربي، استعاد بعض أركان النظام البائد سيطرتهم السياسية.
اتفاق لا يقصي أسوأ القادة العسكريين سمعة
ويعي المحتجون السودانيون هذه المخاطر جيداً. إذ حمل بعضهم في ذروة الاحتجاجات لافتات كُتب عليها: "لا نريد أن نكون مثل مصر".
وأعلن وسيط للاتحاد الإفريقي يوم الجمعة أنَّ قادة المعارضة السودانية والجيش توصَّلوا إلى اتفاقٍ لتقاسم السلطة والعمل من أجل الوصول إلى الانتخابات والحكم المدني. ويدعو الاتفاق القادة العسكريين إلى الاحتفاظ بالحكم على مدار الـ21 شهراً القادمة، قبل نقل السلطة إلى مجلسٍ سيادي مُشترك جديد للمدنيين.
ورغم أنَّ الاتفاق ينُصُّ على أنَّه لا ينبغي السماح للمُتورِّطين في العنف بالدخول إلى حكومة ما بعد الاتفاق، لكنَّه لا يُقصي حالياً أسوأ القادة العسكريين سمعةً في السودان: وهو اللواء محمد حمدان دقلو، المعروف أيضاً باسم حميدتي.
ويُمثِّل حميدتي جزءاً من مجلسٍ عسكري حاكم ينظر إليه الكثيرون في السودان على أنَّه امتدادٌ لحكم البشير. إذ راح الجيش يقمع الاحتجاجات منذ تنحِّي الرئيس، وكانت الحادثة التي وقعت هذا الشهر وأودت بحياة ما لا يقل عن مائة مُحتَجّ هي خير دليلٍ على هذا القمع.
وبصفته قائداً لقوات الدعم السريع شبه العسكرية، اتُّهِمَ حميدتي بارتباطه ببعضٍ من أسوأ أعمال العنف ضد المتظاهرين. وقبل سنوات، في أوج العنف العرقي في دارفور، ترأَّس ميليشيا "الجنجويد" سيئة السمعة، التي يُقدّر أنَّها قتلت الآلاف فيما وُصف بأنَّه إبادة جماعية.
ورغم أنَّه كان أحد أذرع البشير، فهو يُقدِّم نفسه الآن باعتباره مُنقذاً للسودان. وعلى الرغم من أنَّه من الناحية الرسمية نائب رئيس "المجلس العسكري الانتقالي"، الذي يرأسه الفريق الأول ركن عبدالفتاح البرهان، يعتقِدُ الكثيرون أنَّ حميدتي هو من يملك السلطة الحقيقية.
هل يتلاعب العسكر بالمدنيين؟
يقول خالد مصطفى مدني، وهو أستاذٌ مساعد في جامعة مكغيل الكندية، إنَّ اتفاق يوم الجمعة كان دافعاً للتفاؤل بالنظر إلى وحدة جبهة المعارضة، والوعد بإجراء تحقيقٍ مُستقل في أعمال القتل الجماعي الشهر الماضي، والقلق البالغ الذي تشعر به أوروبا والولايات المتحدة تُجاه حميدتي.
ومع ذلك، قال مدني إنَّ مصدر القلق هو أن رموز النظام قد تتمكَّن من استخدام تكتيكات التأجيل، أو تحاول تقسيم المعارضة المدنية واستمالتها قبل تسليم السلطة المزمع. وأضاف: "يُعَدُّ دور المجتمع الدولي في هذا المنعطف، مهماً للغاية".
السير في ذات الدرب المظلم
تقول واشنطن بوست، إنه في حال أخَّر القادة العسكريون السودانيون الإصلاحات بالفعل، فهُم سيتبعون بذلك السيناريو الذي سارت عليه بلدان الربيع العربي الأخرى، والذي تمكن فيه بعض أركان النظام من التشبُّث بالسلطة، وتعطيل محاولات الإصلاح الديمقراطي في بعض الحالات.
إذ أسفرت الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك في فبراير/شباط عام 2011 عن انتخابات حرة ونزيهة أُجريت عام 2012، وأدَّت إلى تولِّي الرئيس الإسلامي الراحل محمد مرسي. وفي العام التالي، قاد الجيش انقلاباً على مرسي وزجَّ به في السجن، وتُوفِّي مُرسي في وقت سابق من هذا العام.
وقاد عبدالفتاح السيسي الجيش المصري في وقت الانقلاب، إذ كان يشغل منصب مدير الاستخبارات العسكرية في عهد مبارك. وأصبح السيسي فيما بعد رئيساً لمصر في الانتخابات التي شابها إقصاءٌ لخصومه، ويقول منتقدوه إنَّه فرض نظاماً قمعياً أسوأ من نظام مبارك.
وفي النزاعات الفوضوية التي أعقبت الربيع العربي في ليبيا واليمن، كان بعض المُوالين للنظام لا يزالون يتمتعون بالسلطة: إذ كان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح قوةً لا يُستهان بها في الحرب الأهلية التي ألحقت الدمار بالبلاد، حتى اغتياله في ديسمبر/كانون الأول عام 2017، إبان مُعارضته الحكومة الجديدة التي كان يترأَّسها نائبه السابق، عبدربه منصور هادي.
وحتى في تونس، التي تُعتبر القصة الناجحة الوحيدة للديمقراطية في الربيع العربي، توقَّفت الجهود المبذولة لإبعاد النظام السابق عن السياسة.
وبعد ثورة 2011 بفترةٍ وجيزة، حلّت تونس حزب الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي، وهو حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي". وأقرَّت الحكومة المؤقتة قانوناً في ذلك الربيع يحظر على أعضاء حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الترشُّح في انتخابات 2011، وهي الانتخابات التي أوصلت الحزب الإسلامي "حركة النهضة" في تونس إلى السلطة وسط حكومةٍ ائتلافية.
وفي السنوات التي تلت الثورة، بذلت الحكومة التونسية الجديدة قصارى جهدها لتنفيذ عدة مقترحات متفرِّقة لمنع أولئك المرتبطين بالنظام السابق من المشاركة في السياسة. ولكن قانون الانتخابات، الذي كان يحكم انتخابات تونس عام 2014، لم يتضمن بنوداً تمنع المنتسبين للنظام السابق من الترشُّح.
المستبدّون هم أصحاب اليد العليا
ويقول إتش إيه هيلر، وهو باحث مُشارك بارز في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن والمجلس الأطلسي في واشنطن، إنَّه على الرغم من أنَّ العديد من العوامل السياسية والاجتماعية الأساسية التي أشعلت ثورات 2011 لا تزال قائمة، لكن الحركات المؤيدة للديمقراطية تفشل عادةً في الخروج بحجةٍ مُقنعة لتفسير ضرورة إشرافها على الإصلاح.
وأضاف هيلر: "من السهل أن نرى السبب وراء احتفاظ المستبدين باليد العليا في الوقت الحالي، لأنَّهم يتمتَّعون بدعم هذه القوة الكبيرة تحديداً. ولستُ واثقاً من أنَّها وصفةٌ ناجحة على المدى الطويل".