"أنا أقضي على الأقل من ثلاث إلى أربع ساعات يومياً في سيارتي، إنها مكان جيد للتركيز وللاتصال بالآخر حيث تجلسان جنباً إلى جنب دون أن يضطر أحدكما إلى النظر في عيني الآخر.. إنكما في هذه الحالة تتواصلان على نحو أفضل.."
المخرج الإيراني عباس كيارستمي (1940-2016).
يعتمد المخرج الإيراني عباس كيارستمي والذي قال عنه الناقد الفرنسي جان جودار "بدأت السينما بجريفيث وانتهت بعباس كيارستمي" بشكل واضح في أفلامه على الحوارات داخل السيارة، ويجعل منها ممثلاً رئيسياً في جل أفلامه.
كيارستمي بأسلوبه البسيط ذي النزعة الوجودية في كتابته لسيناريوهاته يستعمل السيارة كمكان يجسد حبه لكيفية التواصل التي تحدث داخل السيارة، أو كوسيط بين نقطتين تنتقل الشخصيات بينهما، ويقول كيارستمي حول طريقة التصوير هاته بكون الأفلام أعطته فرصة استعمال كاميرا ثابتة في مكان متنقل كالسيارة، مقعدان مريحان وحوار في غاية الحميمية بين شخصين يجلسان بجوار بعضهما وليس قبالة بعضهما.
تكمن أهمية هذا النمط الحواري في حسّ الأمان المتوفر من الطرفين خلال حوارهما، السيارة حسب كيارستمي فضاء قد يثير توترات عاطفية أو عصبية بسبب القرب أو بسبب القلق الناتج عن الزحام، كما أنه لا توجد مساحة لطاقم التصوير ومعداته، التصوير من الخارج يخلق داخل السيارة جواً حميمياً وخاصاً يُمكِّن من خلق أداء عفوي وطبيعي، طريقة التصوير هاته تجعل من المخرج شخصاً مشاهداً فقط يستمتع بالأداء عن بعد لا يستطيع إصدار الأحكام أو التقييم أو الانتقاد أو كما يصفها كيارستمي "لا يستطيع المخرج قول تلك الكلمة المريعة "انتهى(كت)" .
يقول أمين صالح في كتابه "سينما مطرزة بالبراءة": ثمة موقف غير اعتيادي تجاه المكان يحرك اهتمام كيارستمي بالسيارة وبالناس الذين يقودون السيارة في رحلة بحث أو استكشاف أو انتقال من حيز لآخر، إنها تشكل طريقة للوجود في العالم الاجتماعي والخاص في ذات الوقت، ووسيلة للنظر بشكل محايد أو التفاعل معه، السيارة في أفلام عباس كيارستمي مكان للتأمل والتدبر، للرصد والملاحظة، للكلام والحوار وللحركة أيضاً.
طعم الكرز:
طعم الكرز (1997) فيلم لعباس كيارستمي حاز على السعفة الذهبية لمهرجان كان في نفس السنة، تدور جل أحداث هذا الفيلم داخل سيارة السيد بادي الذي يبحث عن شخص يقبل دفنه لأنه يريد الانتحار، في هذا الفيلم بدأ يظهر حب كيارستمي للحوارات داخل السيارة.
يعبر الفيلم عن الحالة النفسية للسيد بادي، الألوان الترابية الطاغية في الفيلم والتصوير في مواقع للبناء تغطيها الأتربة كأن كيارستمي بهذا يصور لنا قبراً كبيراً يردم عليه التراب باستمرار، أيضاً الظهور المستمر للسيد بادي وسط إطار، سواء كان إطار نافذة سيارته أو النوافذ التي يسأل عبرها عن الناس الذين يبحث عنهم، واستغرابه في إحدى اللقطات من ظله الذي ظهر في الأرض كلها إشارات من كيارستمي تبين لنا أن البطل محاصر بنظرته تجاه الحياة بكونها انتهت ولا يتحرر منها سوى في تلك المرات التي يتردد فيها في تفكيره تجاه موته، لأنه لم يكن قد حسم أمر موته بعد.
في الفيلم يدخل بنا كيارستمي لأعماق الذات البشرية عبر شخصيات الفيلم الرئيسية والتي يلتقيها السيد بادي في سيارته، الإصغاء للحوار العميق في الفيلم وشخصية بادي يجعلك تفهم السبب وراء اختيار كيارستمي لمكان تصوير رتيب وممل، فهذا المكان في الأصل هو في الحقيقة صورة الحياة كما يراها بادي، حياة ترابية لا لون لها ولا طعم.
في العادة نتساءل هل تستحق الحياة أن تعاش، لكن بعد الفيلم نتساءل هل الحياة تستحق منا أن نقتل أنفسنا من أجلها، يجب أن يشمل الوعي البشري كلاً من اللذة والالم، والسعي من أجل المتعة فقط واستبعاد الألم هو في الواقع السعي لفقدان الوعي..
هذا ما صوره لنا كيارستمي في حوار السيد بادي مع العجوز الذي قبل أداء المهمة على عكس الآخرين لكنه في نفس الوقت حاول ثنيه عن القيام بها ومن حواره جاء عنوان الفيلم طعم الكرز: "سأخبرك بشيء حدث لي.. لقد حدث مباشرة بعد أن تزوجت كان لدينا كل أنواع المشاكل وبسبب هذا فقد كنت مستاء.. لذا قررت إنهاء كل شيء.. وفي صباح ما، وقبل الفجر وضعت حبلاً في سيارتي وقررت أن أقتل نفسي اتجهت إلى ميانا -كان هذا في عام 1960-: حتى وصلت إلى مزارع لشجر التوت.. توقفت هناك وكان الصبح مازال مظلماً.. رميت الحبل على الشجرة لكنه لم يتمسك بها.. حاولت مرة، مرتين.. لكن بلا جدوى.. لذا فقد تسلقت الشجرة وربطت الحبل بشدة، ثم أحسست بشيء ناعم تحت يدي.. إنه التوت.. التوت حلو ولذيذ.. أكلت واحدة فكانت لذيذة الطعم.. ثم ثانية، وثالثة.. فجأة لاحظت الشمس وهي تشرق على قمة الجبل.. الشمس أشرقت وأضاءت على الخضرة، فجأة سمعت الأطفال وهم ذاهبون للتعلم.. توقفوا للتطلع إلي، ثم طلبوا مني هز الشجرة فسقط التوت وأكلوا.. أحسست بالسعادة.. ثم جمعت بعض التوت لأخذه للبيت.. زوجتي كانت لاتزال نائمة وعندما استيقظت أكلت التوت أيضاً واستمتعت به أيضاً، تركت قتل نفسي وعدت ومعي التوت.. توتة أنقذت حياتي.. توتة أنقذت حياتي".
كيف لمخرج أن يزيل عن الانتحار تلك الهالة السوداوية ويغطيها بالشاعرية باستعمال معدات بسيطة، إن لم يكن فيلسوفاً حقيقياً؟
"حالما تكون في سيارتك فإنك تكون متجمداً في مكانك لا أحد يزعجك،لا هاتف،لا ثلاجة، لا أحد يأتي ليراك، لهذا السبب أعمل عندما أكون خلف مقود السيارة، إنه المكتب الوحيد الذي أملك، المكان الخاص جداً حيث لا يوجد فيه شيء زائد، وعلاوة على ذلك هناك الشاشة الهائلة أمامك التي تقدم سفراً سينيمائياً لا ينتهي".
عباس كيارستمي
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.