كان علاء عبدالفتَّاح مبرمج حاسوبٍ بارعاً. وكان يحلم مثله مثل الملايين من الشباب المصريين بتحقيق الديمقراطية في بلده. في 2005، أنشأ مدونةً أسماها "منال وعلاء" لتحمل اسمه واسم زوجته. وقد شجَّعا على إنهاء ديكتاتورية حسني مبارك. كان علاء يعمل مبرمجاً في جنوب إفريقيا حين اندلعت الثورة في 2011، فعاد على الفور ليشارك في الانتفاضة الشعبية.
لاحقاً، انضم عبدالفتاح لملايين المصريين في مظاهرات يونيو/حزيران 2013 التي دعت إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. وبعد ذلك في أغسطس/آب 2013، استنكر المذبحة التي ارتكبها نظام عبدالفتاح السيسي ضد الإسلاميين، وهو وزير الدفاع الذي استولى على السلطة وأصبح رئيساً. وأخيراً في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، شارك عبدالفتاح في احتجاجٍ سلمي على مثول المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
وكانت تلك نهاية نشاط عبدالفتاح. فسرعان ما ألقى المسؤولون الرسميون القبض عليه، وحُكِمَ عليه بخمسة سنوات في السجن، بالإضافة إلى خمس سنوات أخرى من إطلاق السراح المشروط. وهو ما يعني أنه على الرغم من خروجه من السجن في مارس/آذار، يتحتم عليه بيات كل ليلة -من الساعة السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً- في زنزانة مغلقة في إحدى أقسام الشرطة بالقاهرة. لقد أُهدِرَت 10 سنوات من حياة شاب مصري لأنه وقف لدقائق للتعبير عن رأيه بسلمية.
إن القانون المصري المناهض للتظاهر الذي أصدره السيسي، والذي أُلقِيَ بموجبه القبض على عبد الفتاح، يجعل منه مسجوناً سياسياً ضمن 60 ألف مسجون سياسي آخر في مصر، حسبما أعلنت منظمة هيومان رايتس ووتش. تلقي السلطات المصرية القبض على أيِّ شخصٍ ينتقد السيسي، سواء من خلال مقال أو عمل فني، أو في لقاء، أو عبر منصات التواصل الاجتماعي. وقد أُلقِيَ القبض على محمود محمد حسين، البالغ من العمر 18 عاماً، وقضى في السجن عامين دون محاكمة لارتدائه قميصاً يحمل شعار "وطن بلا تعذيب". وأنا أيضاً مُعرَّضٌ للخطر لكتابتي هذا المقال، رغم أنني أؤمن أن من واجبات الكاتب أن يدافع عن الحرية.
لقد قارب المعارضون في سجون مصر على أن يصبحوا شعباً في حدِّ ذاته. وقد حاولتُ وصف هذا العالم في روايتي "عمارة يعقوبيان". فمن ضمن الشخصيات الرئيسية فيها، الشاب "طه الشاذلي" الذي حلم بأن يصبح شرطياً. وقد عمل بجدٍ وحصل على درجاتٍ مذهلة؛ لكنه لم يُقبَل في كلية الشرطة بسبب خلفيته الاجتماعية الفقيرة كونه ابن حارس عقار. ومع امتلائه بالغضب والإحباط، بحث عن ملاذٍ آمن في المسجد، ووَقَعَ صيداً لرجل دين إسلامي مُتشدِّد. لذلك، ألقت الشرطة القبض على "طه" بشبهة الإرهاب ووقع ضحية التعذيب والاغتصاب. بعد إطلاق سراحه، جنَّدَته مليشيا إسلامية، وشجَّعَته على الثأر من النظام الذي عذَّبه، ومن المجتمع الذي غضَّ الطرف عن هذه الانتهاكات. ووفقاً للقصة الحقيقية التي أعرفها، فإن طريق التشدُّد الذي سلكه "طه" يعكس آلاف الشباب المصري.
لا يُبدي نظام السيسي أيَّ احترامٍ للحقوق المدنية. أفاد تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2017-2018 عن مصر بأن: "السلطات استخدمت التعذيب وسوء المعاملة، وأجبرت مئات الأشخاص على الاختفاء، وأعدمت العشرات خارج إطار القانون دون خوف من المساءلة القانونية". لقد اعتادت وزارة الداخلية المصرية على الإعلان عن مقتل عددٍ من "الأعداء" في صداماتٍ مُسلَّحة بين قوات الأمن وإرهابيين، مع إرفاق صور لجثثهم مع بياناتها الرسمي. وقد أكَّدَ تحقيقٌ أجرته وكالة Reuters البريطانية مؤخراً أن عدداً كبيراً من القتلى كان يمكن تجنُّب مقتلهم في المعارك بالأسلحة النارية؛ لكنهم أعدموا خارج نطاق القانون بدلاً عن ذلك. فبحسب عائلة خالد إمام (37 عاماً)، مدرب رفع أثقال، فقد ألقت السلطات القبض عليه في يونيو/حزيران 2017. لكن بعدها بأربعة أشهر، أعلنت وزارة الداخلية اسم اثنين من أصدقائه ضمن ثلاثة رجال قُتِلوا في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة. وقد أقرَّت مصادر أمنية أنه هو الضحية الثالثة، واستطاع أقاربه التعرُّف على جثته التي حملت آثار تعذيب في المشرحة. كذلك، ظهرت جثة محمد أبو أمير (37 عاماً) الذي كان يعمل بستانياً، وبحسب عائلته ألقت الشرطة القبض عليه في فبراير/شباط 2018. بعدها بخمسة أشهر، ظهرت صورة لجثمانه مع بيان لوزارة الداخلية يدَّعي أنه سقط في تبادلٍ لإطلاق النار.
وقد وثَّقَت جماعاتٌ حقوقية مئاتٍ من حالات الاختفاء القسري. إذ يختفي المعارضون السياسيون، ليظهروا في بعض الأحيان مرةً أخرى بعد أيامٍ أو أسابيع ليمثلوا أمام المحكمة على خلفية اعترافات انتُزِعَت منهم تحت التعذيب، أو يختفوا تماماً في أحيانٍ أخرى مثلما حدث مع البرلماني السابق مصطفى النجار الذي أعلنت زوجته أنها تلقَّت في الخريف الماضي مكالمةً تليفونية من مجهولٍ أبلغها بإلقاء القبض على زوجها. ولم تتلقَّ أيَّ معلومةٍ أخرى عنه منذ ذلك الحين.
لقد ماتت حرية الرأي في عصر السيسي. يسيطر النظام على الصحف، والقنوات التلفزيونية، والأفلام، وشركات الإنتاج التلفزيوني، التي تحوَّلت جميعها إلى أبواق للإشادة بالسيسي. ولننظر لما حدث لي؛ فمع وصول السيسي إلى الرئاسة، مُنِعتُ من الظهور على التلفزيون أو الكتابة في الصحف المصرية (أبلغني مقدِّم برنامجٍ تلفزيوني كان من المخطط أن يستضيفني في برنامجه أنني أصبحت ممنوعاً من الظهور على التلفزيون). ثم مُنِعَ الصالون الثقافي الأسبوعي الذي نظمته على مدار عقدين من الزمن هو الآخر. أما روايتي الأخيرة، "جمهورية كأن"، فقد رأت النور من لبنان؛ لأن الناشرين المصريين خشوا نشرها. وفي مارس/آذار، أقام المدعي العام العسكري قضيةً ضدي أمام المحكمة العسكرية بسبب روايتي والأعمدة التي كتبتها ونُشِرَت على الموقع العربي لإذاعة Deutsche Welle الألمانية.
يقول السيسي إن الإجراءات تهدف لـ"محاربة الإرهاب". ومن الصحيح أن إزاحة جماعة الإخوان المسلمين من السلطة في 2013 -وهي ضربة موجعة للتيارات الإسلامية حول العالم- أدى إلى شنِّ الإسلاميين المتشددين هجماتٍ إرهابية أدَّت إلى سقوط مئات الضحايا من أفراد الجيش والشرطة، ومن المدنيين.
إلا أن السيسي يبدو أنه يعتقد أن أيِّ تشبُّث بالسلطة أمرٌ مُبرَّرٌ بسبب هذه الهجمات، وهو يستخدمها ذريعةً لآلة القمع ضد المعارضين السياسيين أكثر من الإرهابيين. ومؤخراً، أقام السيسي استفتاءً دستورياً يسمح له بمدِّ فترة حكمه حتى 2030، ويمكِّنه من السيطرة على القضاء، ويضع الجيش فوق العملية السياسية. ووفقاً للنتائج "الرسمية" فقد وافق 89% من المُصوِّتين على هذه التعديلات (اعتادت السلطات المصرية تزوير الانتخابات منذ 1952، حينما استولى الجيش على السلطة لأول مرة).
لقد استطاعت آلة القمع إسكات الأصوات المعارضة حتى الآن؛ لكنها لم تتمكَّن من القضاء على الضغوط السياسية التي يبدو أنها لا تزال مخيفة بالنسبة للرئيس. ولكن التاريخ يعلِّمنا أن القمع لا يُزيل الإرهاب وإنما يزيد من ضراوته. فما الذي نتوقَّعه من شخصٍ يتعرَّض للتعذيب والإهانة وسلب الإنسانية؟ فمن الممكن أن يتحوَّل كلُّ مَن تعرَّض لمثل هذا القمع في بلده إلى إرهابي محلي. ومع تعرُّض المعارضين للتعذيب والسجن لسنواتٍ طويلة، وإقرار أحكام الإعدام عليهم، سيقتنع الآلاف من الشباب اليائس أن العنف هو الحل الوحيد لإحداث التغيير. لن ينتهي الإرهاب إلا بالعدالة، ولا يمكن تحقيق العدالة إلا من خلال سيادة القانون، وسيادة القانون غير ممكنة إلا في الدول الديمقراطية، ولا توجد ديمقراطية في مصر.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.