عندما تدخل إلى مركز كينيدي للفضاء في ولاية فلوريدا، تستقبلك مجسمات لصواريخ ومكوكات فضائية ينبهر زائرو المركز بحجمها، ويسارع الأولاد للوقوف أمامها، ليبدو الفرق الشاسع بين حجم الإنسان العادي وهذه الآليات النموذجية فقط لما تعمل عليه وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في أرض الواقع.
تكتشف لاحقاً أن هذه النماذج الكبيرة هي نسخة مصغرة للحجم الحقيقي للصواريخ التي خاضت بها ناسا غمار الفضاء.
مقابل 60 دولاراً أمريكياً، (أقل قليلاً للأطفال) يمكن التجول في مركز كينيدي يوما كاملا؛ على الأرجح لن يكون كافياً لتغطية سائر النشاطات والأفلام والاستعراضات والمتاحف التي يقدمها المركز.
بل يمكن شراء تذكرة سنوية تخول لك زيارة المركز قدر ما تشاء طوال أيام السنة (96 دولاراً للكبار و78 للصغار).
"عربي بوست" زار المركز، الذي أثبت أنه مشروع ترويجي ناجح ورابح، بل مُلهم، لكن من يثير فضوله الفضاء؟
وأضافت ناسا عام 2007 رحلة تحاكي إطلاق الصاروخ الحقيقي بسرعة 17500 ميل في الساعة، تعد أكثر تجربة واقعية لعملية إطلاق صواريخ وفق وصف أكثر من رائد فضاء.
وبالطبع تتضمن الزيارة رحلة مع دليل سياحي بباص إلى منصة إطلاق الصواريخ، يتلوها غذاء مع رواد فضاء وزيارة لمركز ناسا القديم حيث الكمبيوترات ومراكز التحكم التي تغيرت كلياً بفضل التكنولوجيا.
وبالطبع تنتهي الزيارة عند متجر التذكارات التي تتمحور حول المريخ وزيارة القمر، وبالطبع لم ينسوا مغلفات من الآيس كريم التي يتناولها رواد الفضاء في المحطة الدولية للفضاء.
هذا المشروع الذي يتيح للأمريكيين والسياح تذوُّق الطموح الأمريكي إلى الفضاء، جزء من الخطة الترويجية التي تعمل عليها ناسا منذ انطلاقها، لإقناع الأمريكيين بضخ مليارات الضرائب في تمويل مشاريعها، ويبدو أنها نجحت في ذلك حتى الآن.
السفر إلى الفضاء بدأ بشعلة منافسة مع روسيا
ففي أحد أيام الجمعة من أكتوبر/تشرين الأول لعام 1957، اكتشف الأمريكيون، في حين كانوا منهمكين في وضع الخطط لعطلة نهاية الأسبوع، أن بلادهم أصبحت بمثابة السلحفاة بالمقارنة بالأرنب السوفييتي.
في هذا اليوم، أطلق العلماء السوفييت أول قمر صناعي إلى مداره حول الأرض، وكان عبارة عن كرة معدنية تصدر صفيراً ولا يتعدى قطرها القدمين تقريباً، وكان يدور حول الأرض دورة كاملة كل ساعة ونصف الساعة بسرعة 18 ألف ميل/ساعة.
وكان يطلق عليه سبوتنيك أي "رفيق السفر" باللغة الروسية.
كانت الصدمة والفزع والخوف هي المشاعر السائدة آنذاك بالنسبة للأمريكيين. وتساءلوا كيف تخلفوا بهذا الشكل المروع عن عدوّهم في الحرب الباردة بهذا المجال الجديد من الصراع، سباق الفضاء؟
شعر قادتهم السياسيون بأن عليهم أخذ خطوات متعجلة.
وبعد 9 أشهر من إطلاق سبوتنيك، ظهرت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (NASA)، تبعها في وقت قصير، برنامج الرحلات البشرية للفضاء المعروف باسم "مشروع ميركوري".
وبعد 4 سنوات، في عام 1962، تعهد الرئيس الشاب جون كينيدي بجرأة بأنه قبل انتهاء العقد، سترسل الولايات المتحدة رجالاً إلى القمر.
وقد كان.
ثابرت السلحفاة حتى تجاوزت الأرنب، وتأكدت هيمنتها في الـ 20 من يوليو/تموز عام 1969، عندما وضع رواد الفضاء من رحلة أبولو 11 قدماً على سطح القمر.
الأمريكيون يشككون في حكمة الوصول للنجوم
كانت لحظة للابتهاج الأمريكي والافتتان العالمي، شاهدها على التلفزيون أكثر من نصف مليار شخص، أي ما يمثل سُبع سكان الكوكب، وفق ما نشرته صحيفة New York Times.
ولكن ثبت أن هذه كانت مجرد لحظة براقة. فقد ساورت الشكوك نفوس الأمريكيين، من قبل أبولو 11 وبالتأكيد بعدها أيضاً، حول حكمة الوصول إلى النجوم في حين تضخمت المشاكل على الأرض.
وبحلول يوليو/تموز 1969، كانت المعارضة الأمريكية لحرب فيتنام قد وصلت إلى الكتلة الحرجة، وثارت أعمال الشغب في مدينة أمريكية تلو الأخرى، وبدا أن القيم التقليدية أصبحت عرضة للانتقاد والمهاجمة على جبهات متعددة.
على الرغم من كل المجد الذي أحاط بالهبوط على القمر، فإن بعض الناس رأوا الأمر كرفاهية فارغة.
خفت الاهتمام الشعبي ببرنامج الفضاء بسرعة؛ وتحولت الدهشة إلى حالة من الملل.
وألُغيت ثلاث رحلات قمرية مجدولة. وكانت آخر مرة مشى فيها إنسان على سطح القمر في عام 1972، عندما كان "The Godfather" هو الفيلم الأكثر تحقيقاً للإيرادات.
أمريكا تقرر تسويق فكرة زيارة الفضاء
تهتم Retro Report، وهي مؤسسة إخبارية غير هادفة للربح تنتج أفلاماً وثائقية مصغرة، بدراسة كيفية استمرار الأخبار الرئيسية بالماضي في تشكيل فهمنا للحاضر.
ومع حلول الذكرى الـ50 لأول هبوط على سطح القمر، ركزت الحلقة، التي أُنتجت بشكل مشترك مع برنامج "American Experience" الذي يعرض على قناة PBS، على تسويق استكشاف أمريكا للفضاء.
نعم، لقد كان التغلب على القيود الأرضية واستكشاف الفضاء، في حد ذاته، هدفاً مسلياً.
لكن إدارة ناسا أدركت في وقت مبكر، أنه إذا كان دافعو الضرائب سيقبلون ضخ مليارات الدولارات من أموالهم في المشروع، فستكون هناك حاجة إلى بعض مهارات التسويق الماكرة.
وهكذا، أصبحت المجموعات الصحفية التابعة لـ "ناسا" لها أهمية رقائق الكمبيوتر نفسُها.
وجرى الدفع برواد الفضاء وزوجاتهم أمام الجمهور بكل حماسة عبر وكلاء هوليوود.
ووصفت مهاجمة الروس بأنها ضرورة قومية. كما أن الجهود المبذولة للحصول على دعم شخصية بارزة مثل والتر كرونكايت، الذي كان يوصف بشكل معتاد في ذلك الوقت بأنه الرجل الأكثر ثقة في أمريكا، لن تكون ضارة.
إعلام ناسا لا يقل أهمية عن إنجازاتها التكنولوجية
كل هذه العناصر مجتمعة أسهمت في تحقيق قفزة عملاقة للعلاقات العامة.
يقول ديفيد ميرمان سكوت، مؤلف عديد من الكتب عن التسويق، لـ "Retro Report": "أعتقد أن الجانب التسويقي لأبولو كان على القدر نفسه من الأهمية بالنسبة للمركبة الفضائية، وأنا مؤمن بذلك تماماً. إن الترابط بين كل من الأهمية العلمية والصورة الساحرة كان ضرورياً للغاية، لكي نكون قادرين على تنفيذ هذا البرنامج".
ومع ذلك، كان الافتتان بالمشروع هشاً، كما يتضح في بعض أفلام تلك الحقبة. فقبل عام واحد من رحلة أبولو 11، أظهر فيلم "2001: A Space Odyssey"، من إخراج ستانلي كوبريك، رواد فضاء وهم في حالة صراع مع جهاز كمبيوتر كان قد خرج عن السيطرة بشكل قاتل.
وفي وقت لاحق، في عام 1977، كان بإمكان المشككين في مشاريع سبر الفضاء الاستمتاع بـ "Capricorn One"، وهو فيلم عن مهمة مزيفة إلى المريخ.
يقول البروفيسور تريب: "إذا نظرنا إلى السياق الثقافي الأوسع، فسنرى حقبة بدأت شكوك الأمريكيين تتنامى فيها قليلاً تجاه نوع التكنولوجيا التي يمثلها أبولو".
إيلون ماسك وجيف بيزوس يقرران التربح من الفضاء
بعد أول هبوط للقمر، أصبح تسويق البرنامج أكثر صعوبة. وأطلقت الانفجارات المميتة، لمكوكي الفضاء تشالنجر في عام 1986 وكولومبيا في عام 2003، حالة من الحداد الوطني ولكنها لم تجدد العزيمة تجاه قهر الفضاء.
وبدأت الشركات الناشئة التي أسسها أمثال إيلون ماسك وجيفري ب. بيزوس، اللذين يتطلعان إلى استغلال أي إمكانات تجارية قد تأتي من الكون، إلى تنحية وكالة الفضاء الحكومية جانباً.
لكن ناسا، التي ربما لا ترغب في أن تتفوق عليها الشركات التجارية بالكامل، أعلنت هذا الشهر أنها ستسمح للمواطنين العاديين بزيارة محطة الفضاء الدولية، مقابل رسوم باهظة بالتأكيد.
لكن في النهاية، فإن روح المغامرة الشديدة، التي استُشعرت على نطاق واسع في يوليو/تموز 1969، لم تختفِ بالكامل. يظهر ذلك أيضاً بالثقافة الشعبية، سواء كان ذلك في كتاب وفيلم "The Right Stuff"، أو رواية وفيلم "Contact" أو فيلم المغامرة "The Martian".
وترامب يعيد إشعال السباق تيمناً بكينيدي
ويبدو أن إدارة ترامب تمثل هذه الثقافة بشكل جيد. فقد وعدت بإرسال رواد فضاء إلى القمر في وقت مبكر من عام 2024، وذلك على الرغم من أن عديداً من الخبراء يعتبرون التاريخ المستهدَف طموح للغاية.
إذا كان الماضي بمثابة التمهيد، فقد يحتاج جمهور وقتنا الحالى أن تسوّق له الفكرة، تماماً كما حدث قبل نصف قرن.
يقول سكوت لـ "Retro Report": "الأمر دائماً متعلق بسرد القصص، إن أفضل المسوقين على هذا الكوكب قادرون على سرد القصص. وهذا هو المطلوب للمضي قدماً في أمر الرحلات الفضائية".
يضيف: "نحن بحاجة إلى إعادة إحياء خيالنا، نحن بحاجة إلى سرد قصة لماذا يجب أن نستثمر في هذا. لا تزال هناك إمكانية لسرد هذا النوع من القصص".