حضر الأردن، الثلاثاء 25 يونيو/حزيران 2019، مؤتمر البحرين الاقتصادي الذي ترعاه الولايات المتحدة، بضغط من إسرائيل والسعودية وإدارة ترامب. ويفعل الأردن ذلك على مضض، لأنَّ من شأن هذا الحضور أن يكون بداية لأزمة وجودية سوف تقلب استقرار البلاد رأساً على عقب في السنوات القادمة، بحسب وصف صحيفة the Washington Post الأمريكية.
لماذا لا يمكن شراء هوية الأردن؟
على الرغم من عدم إرسال كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية وفوداً رسمية، فإنَّ هذه القمة متعددة الأطراف تُمثل الانطلاقة الاقتصادية لـ "صفقة القرن".
وتتعهد القمة بتقديم عشرات المليارات من الدولارات للأراضي الفلسطينية والجيران العرب، وضمن ذلك الأردن، لتكون حوافز لقبول خطة من شأنها أن تمنع قيام الدولة الفلسطينية. ولما كان الأردن يعاني أزمة مالية، فمن المفترض عادة أن يكون متحمساً لأي مساعدة خارجية، بعد تساوى الدين الأجنبي تقريباً مع كل الإنتاج الاقتصادي، ووصول البطالة إلى قرابة 20%.
ومع ذلك، تتعلق المشكلة بالهوية القومية، أو بالأحرى عدم وجودها، وليس بإمكان مزيد من المساعدات أن تشتري هوية للأردن. إذ يخشى الأردنيون من أنَّ صفقة القرن تعني أن تصبح مملكتهم "وطناً بديلاً" للفلسطينيين، الذين سوف يدخلون من خلال إعادة التوطين الجماعي، أو من خلال نظام كونفدرالي مع أي جزء من الضفة الغربية لا تريده إسرائيل.
وكان هذا المقترح بأن يصير الأردن وطناً للفلسطينيين نشأ بين اليمين الأمريكي والإسرائيلي في الثمانينيات بمنطقٍ يبالغ في التبسيط: إذا كانت إسرائيل لا تريد الفلسطينيين، فلنعطهم للأردن. وهذا أيضاً هو الكابوس الذي يوحد الأردنيين في مقاومة جماعية، ذلك أنَّ سؤالاً مطروحاً يقول: "من هو الأردني؟" لطالما صعُبت الإجابة عنه، بالنظر إلى تاريخ المملكة القصير، وتنوعها المجتمعي وانفتاحها على اللاجئين. ولكن بينما قد يختلف الأردنيون حول سؤال "ما هو الأردن؟"، فإنهم يعرفون تحديداً أنَّ الأراضي الفلسطينية ليست داخلة فيه.
أزمة هوية
في ظل تدفق اللاجئين الفلسطينيين من الحروب العربية الإسرائيلية، فإنَّ أغلبية الأردنيين اليوم ينحدرون من أصول فلسطينية. غير أنهم يدركون أنَّ الاعتراف بسيناريو الوطن البديل يعني تدمير حق العودة، فضلاً عن التنازل عن حلم الدولة الفلسطينية. ويخشى الأردنيون من أبناء القبائل الذين تعود أصولهم إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن، وهم قاعدة الدعم التاريخية للنظام الملكي الحاكم، من أن يُقلص هذا درجتهم إلى مجرد طبقة ديموغرافية شائخة، مع مفاقمة التوترات التي خلفتها حرب (أيلول الأسود) عام 1970 والتي لا تزال موضوعاً محظوراً.
ترفض الأسرة الهاشمية الحاكمة هذا الخيار بإصرار، لأنه سوف يثير الاضطرابات ويلحق الضرر الشديد بالاقتصاد وينهي وصايتها الرمزية على الأماكن المقدسة بالقدس. وفي مملكة ليست غريبة عن الاحتجاجات، فإنَّ مثل هذا الإجماع المذهل يثبت صحة ما يعرفه كثير من أساتذة العلوم السياسية، وهو أنَّ الهوية ليست أمراً مادياً، وهو ما يعني أنَّ الأفكار والقواعد التي تبني تصوراً قومياً للذات تستغرق وقتاً طويلاً لكي تتطور، ولا يمكن ببساطةٍ فرضها أو شراؤها.
مخاوف حادة حول مستقبل المملكة
ثمة ثلاثة مؤشرات على حدّة الأزمة:
أولاً، أثارت وسائل الإعلام الدولية، وضمن ذلك حتى المنصات الإعلامية الإسرائيلية، مخاوف حادة حول مستقبل الأردن بقلق لم يُعهد منذ الربيع العربي.
ثانياً، كان الخطاب الوطني الأردني مشبَّعاً بمواطنين يستدعون شعوراً يكاد يكون متكلفاً بالولاء الوطني، مع ارتفاع شعبية الملك عبدالله حتى بين المنتقدين الاعتياديين.
ثالثاً، إضافة إلى أنَّ القراءة المتأنية لوسائل الإعلام المحلية تُظهر أيضاً خوفاً لدى جميع الأطراف، وهو خوف النخب الأردنية القبلية من فقدان "أراضيها"، وخوف الفلسطينيين الأردنيين من معاناة الصراع الأهلي، وخوف الملكية من الكوارث الجيوسياسية.
وحسبما حذر أحد المسؤولين: إذا تزعزع استقرار الأردن، وهو الحليف الغربي الاستراتيجي وشريك السلام لإسرائيل، فربما يؤدي هذا إلى إحراق المنطقة.
وتبنى النظام الملكي الحاكم أسس أزمنة الحرب لوجهة نظره للأمور، وهو ما عزز الطريقة التي تعكس بها السياسات المحلية والعلاقات الخارجية بعضها بعضاً في نضال الأردن من أجل بقاء النظام.
إذ شهد الأردن الصيف الماضي مظاهرات جماهيرية ضد إجراءات التقشف، أدت إلى تنصيب رئيس الوزراء الحالي، عمر الرزاز. وفي شهر مارس/آذار، بينما تصاعدت الضغوط الدولية والشكوك الداخلية، استخدم النظام القمع، فنصَّب قيادة جديدة لجهاز المخابرات، وأقال عشرات الضباط الذين يُعتقد أنهم عملوا خارج نطاق اختصاصهم. وأجرى النظام تعديلات وزارية في حكومة الرزاز، ورقى إحدى الشخصيات المحافظة المشهورة ليكون وزيراً للداخلية، فألقى القبض بعدوانية أكبر على كثير من القادة الشباب من نشطاء الحراك الأردني. فكانت الرسالة التي أراد إيصالها: في وقت تمر فيه البلاد بأزمة غير مسبوقة، فإنَّ الأولوية للأمن الداخلي.
صفقة مدمرة للأردن
في غضون ذلك، نوّع الأردن سياسته الخارجية. ففي الشهور الأخيرة، عرض الأردن مبادرات، حظيت بتغطية كبيرة، وكانت مع تركيا والعراق وإيران وروسيا وقطر، وكلها دول خارج المحور الإسرائيلي السعودي الأمريكي الذي يدعم "صفقة القرن".
ويبدو هذا البحث عن تحالفات جديدة ردَّ فعلٍ منطقياً لبلد صغير مثل الأردن لم يعد يشعر بالأمن بالاعتماد على رعاته الخارجيين التقليديين. فالسعودية، على سبيل المثال، أصبحت مساعداتها مشروطة على نحو متزايد بالأهداف الجيوسياسية. إذ عرضت في شهر أبريل/نيسان 2019، مليار دولار لو وافق الأردن على تصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، ولمحت مؤخراً إلى أنَّ الدعم المستقبلي سوف يتطلب "الإذعان لصفقة السلام"، بحسب "الواشنطن بوست".
ويشعر الأردن أيضاً بتعرُّضه للخيانة من راعيه التاريخي، الولايات المتحدة (على الرغم من زيارات الملك عبدالله السبع لواشنطن منذ عام 2017). إذ يرى الأردن خطوات إدارة ترامب أحادية الجانب ضد الدولة الفلسطينية منذ عام 2018 -مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإغلاق سفارة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وقطع المساعدات عن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والسلطة الفلسطينية- بوصفها خطوات غير مسبوقة.
وعلى نحو براغماتي، برر المسؤولون الأردنيون للجمهور حضورهم محادثات البحرين؛ قائلين إن الأفضل أن يكونوا داخل الغرفة التي تُتخذ فيها القرارات، حيث يكون بإمكانهم تعطيل العملية وتعزيز المصالح الفلسطينية.
أما في السر، فإنهم يصفونه بتعرضهم لابتزاز ضخم من الأنصار الأساسيين لصفقة السلام، بدءاً من صهر الرئيس ترامب ومستشاره غاريد كوشنر ووصولاً إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. يوافق هؤلاء على مضض، في ظل حاجة الأردن اليوم للمعونة الأمريكية والخليجية، للحفاظ على قطاعه العام الضخم وجيشه باهظ التكلفة، وتكلفة استيعاب قرابة مليون لاجئ سوري.
وتختم الصحيفة الأمريكية تقريرها بالقول إنه ما دام سيناريو الوطن البديل يبدو نتيجة محتملة لما يحدث الثلاثاء والأربعاء 25 و26 يونيو/حزيران 2019، فقد تواجه المملكة الهاشمية أزمة وجودية للهوية الوطنية. ومن ثم ربما تؤدي "صفقة القرن" في نهاية المطاف، إلى تدمير دولتين: الأراضي الفلسطينية والأردن.