لا يمرّ أي شيء بسهولة في هذه "الزواريب" الضيقة، حتى عربة المسنة الفلسطينية العاجزة "أم عزيز" التي تقطن في مخيم برج البراجنة بلبنان منذ عشرات السنين.
ممرات المخيم المزدحمة بأسلاك الكهرباء المتدلية من كل مكان، وأنابيب المياه التي تآكلت من الملوحة والمرصوصة في كلا الاتجاهين، والطرقات غير المعبّدة بكل تأكيد، والتي تشعرك بالغثيان كلّما مشيت فوقها، كلّها اعتادت عليها "أم عزيز".
لا مشكلة لديها في كل هذا، فلم تكن بحاجة لأحد يساعدها، حتى حين فقدت أربعة من أبنائها في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. وقفت بكل جبروت لعقود تفعل كل شيء بنفسها.
لكنّها اليوم، وبعدما ضعفت صحتها قبل أعوام، جاهزة لأي يد تخرجها من منزلها، وتذهب بها حيث المسيرة التي سمعت عنها من أقاربها وجاراتها، الرافضة لمؤتمر البحرين وصفقة القرن.
لم تكن الحاجة الثمانينية وحدها هناك، فكانت نساء غيرها ورجال كُثر، قد سبقوها للمسيرة، ينتظرون كأطفال صغار، ارتدوا لباس الكشاف، أن يبدأ أحد الشباب بالهتاف، حتى يرددوا بحناجرهم الضعيفة ما يقوون عليه نصرة لفلسطين.
أو ربما يكتفون بالتلويح بأعلام بلد حُرموا منه، ويتحسّرون اليوم على " القادم الأسوأ" في إشارة إلى ورشة العمل الاقتصادية التي تستضيفها البحرين، الثلاثاء 25 يونيو/حزيران، لمناقشة أولى مراحل خطة دونالد ترامب، لإحياء عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
"أي صفقة قرن يتحدثون عنها ونحن لسنا فيها؟" يقول السبعيني "أبو أحمد" الذي خرج من فلسطين على يد والدته المتوفاة وهو في عامه الأول.
لا جيل "أم عزيز" التي تعي مغادرتها فلسطين، ولا جيل "أبو أحمد" الذي لم يعش فيها، يقبلون بأي صفقة لا تضمن عودتهم للأرض التي غادروها كارهين.
لكن ماذا عن جيل الشباب الذي لم يسمع عن فلسطين إلا من أجداده؟
عندما بدأت خيوط حبكة "صفقة القرن" تتكشف رويداً رويداً، على مدار عامين منذ أن طرحتها الإدارة الأمريكية، كانت القيادات الفلسطينية مجتمعة من الرافضين، على اعتبار أنها منحازة لإسرائيل على حساب فلسطينيي الداخل والخارج.
حتى اختيار اليوم الموعود لعقد مؤتمر البحرين لم يكن موفقاً، فقد سبقه قبل 5 أيام يوم اللاجئ الذي يصادف العشرين من يونيو/حزيران من كل عام.
وفي هذا اليوم، نُظم في العاصمة اللبنانية بيروت ماراثون العودة، شارك فيه شباب وأطفال فلسطينيون للتنديد بالمؤتمر.
هؤلاء وُلدوا وتربوا وتعلموا في أرض غير أرضهم، لكن فلسطين كانت بمثابة حلم رضعوه مع حليب أمهاتهم، وما كان لهم أن يتخلوا عن الحلم. فقد كان صوتهم واحداً: لا نريد وطناً بديلاً عن فلسطين.
وعن الأطفال الذين لا يعيشون في المخيمات أساساً؟
ياسر قدورة الطفل ذو التسعة أعوام، هو الآخر لا يريد غير فلسطين.
لا تذكر والدته اللبنانية أنها حدّثته عن بلده كما يفعل والده الفلسطيني في بعض الأحيان.
فكلّ همّهما منذ سنتين وحتى اللحظة، أن يؤمّنا لطفلهما الوحيد علاجاً فيزيائياً -عجزت عنه وكالة الأونروا- يساعده على الحركة مجدداً بعدما غرق عام 2017 في بركة مائية بمدينة صيدا، وفقد القدرة على المشي نهائياً.
يتلعثم ياسر في الكلام قليلاً- بسبب حادثة الغرق ذاتها- وهو يخبر والده بغضب بأن علم فلسطين الذي رسمه على حقيبته الدراسية القديمة "اختفى فجأة" بعدما غسلتها والدته.
لكّنها وعدته بأنها ستخيط العلم على حقيبته هذه المرة، بمجرد قبوله في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة مع بداية العام الدراسي المقبل.
ينتظر ياسر المدرسة الجديدة، مع رفاق جدد يخبرهم فيها عن فلسطين الذي يعده والده بالعودة إليها يوماً ما، وعن قصة العلم "الذي اختفى فجأة" ولم يعد.
الجواب واحد: فلسطين مش للبيع
من المسيرة عادت "أم عزيز" إلى منزلها، حيث تعتلي جدرانه صور أبنائها الأربعة "عزيز، منصور، إبراهيم، وأحمد" الذين قتلتهم المجموعات الانعزالية اللبنانية المتمثلة بحزب الكتائب وجيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي، في أحداث مذبحة صبرا وشاتيلا.
تتفقد الصور وكأنها تلقي السلام عليهم واحداً تلو الآخر، ثم تجلس على أريكتها بعد يوم طويل مُرهق.
"فلسطين مش للبيع، فلسطين لنا، اليهود احتلوها وأخذوها" تؤكد مجدداً لماذا شاركت في المسيرة، وكيف ترفض صفقة القرن، والمؤتمر الذي يُعقد في البحرين أو غيره، وفكرة التوطين أيضاً.
وحل التوطين لم يُفصح عنه بعد بشكل علني ضمن الخطة السياسية لصفقة القرن التي لم يُكشف عن أي من تفاصيلها بعد.
فكلّ ما يُثار الكلام عنه الآن هو الشق الاقتصادي فقط.
لكنّه حلّ قد يصبح واقعاً في أي لحظة، لذا بحثنا قليلاً عن أعداد اللاجئين حول العالم.
تقول وكالة الأناضول، إن جل الفلسطينيين، البالغ عددهم نحو 13 مليوناً حول العالم؛ يعيشون في حالة هجرة ولجوء، ويقطن أغلبهم في مخيمات بالضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان، في ظروف إنسانية قاسية، إلا أن إسرائيل تواصل اعتبارهم "تهديداً وجودياً".
لكن حسب وكالة الغوث (الأونروا)، فإن أعدادهم تُقدّر على الشكل التالي:
- عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها في عام 2017 نحو 5.9 مليون لاجئ.
- شكل اللاجئون الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية ما نسبته 17.0% مقابل 24.4% في قطاع غزة المحاصر.
- بلغت نسبة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن 39.0%.
- بلغت النسبة في لبنان 9.1% وفي سوريا 10.5%.
حتى اللاجئين الذين هاجروا إلى دول أوروبية..
لكن حتى الذين هاجروا إلى بلاد أوروبية أو يعملون في دول عربية، لا تزال العودة إلى فلسطين على رأس أولوياتهم.
هل يقبلون بحل التوطين الذي يُطرح بشكل غير علني بين الفينة والأخرى؟ وماذا لو طرحنا عليهم سؤالاً كالتالي:
"هل تقبلون العودة لفلسطين، لأراضٍ هُجرت عائلاتكم منها عام 1948 ولكن بجنسيات إسرائيلية كما هو حال عرب الداخل الآن؟".
اللاجئ الفلسطيني "أركان.أ" الذي هاجر من لبنان إلى ألمانيا قبل سنوات، هرباً من بلد مُنهك اقتصادياً وسياسياً، ولا يقدر أن يقدّم له أكثر من معيشة تفتقر لأبسط حقوق الإنسان حسبما يقول، عجز عن الإجابة في البداية.
"سؤال صعب"، فكّر به أركان قليلاً قبل أن يكمل: "ممكن أقول لك برجع وبعدين بعمل مع الشباب الفلسطيني على تأسيس مقاومة عشان استرجاع الأرض، يعني على مبدأ الكحل ولا العمى، بس بعيداً عن خطط المستقبل غير المضمونة جوابي البسيط، لا أقبل".
يرفضون التوطين.. لا نقبل
"أركان" يرفض التوطين أيضاً. يفضّل الحصول على جنسية أجنبية وأن يبقى لاجئاً فلسطينياً وقضيته حاضرة دائماً.
أما "محمود العسيلي" اللاجئ الفلسطيني من سوريا، والذي يعيش حالياً في تركيا منذ اندلاع الحرب هناك قبل سنوات، فيرفض هو الآخر التوطين، لكنّه يقبل بجنسية إسرائيلية ترجعه إلى بلده "على الأقل" حسب قوله.
حل الجنسية الإسرائيلية غير مطروح أساساً، وما هو إلا سؤال يصعّب على أي لاجئ أن يجيب عليه.
بالأمس، كان الحديث عن سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أساس حل الدولتين.
وكان كثير من اللاجئين يرفضونه "لا نقبل".
اليوم، الحديث عن صفقة قرن، لا يرى فيها هؤلاء أي مصير لنكبتهم. ومجدداً جوابهم واحد: لا نقبل.