"أثر الفراشة لا يُرى، أثر الفراشة لا يزول"، كلمات الشاعر محمود درويش، تبدو الوصف الأمثل لتأثير إعلانات الموسم الرمضاني لعام 2019.
فأثر الإعلانات قد يكون غير واضح للعيان، ولكنه في الحقيقة مثل أثر الفراشة لا يمكن رؤيته، بل فقط نشعر به مع تكراره مرة تلو الأخرى، ولكن وقتها يكون صعباً التخلص منها، فذاك الأثر يكون قد غُرس بلا هوادة في عقل المجتمع وقلبه.
فماراثون الإعلانات الرمضاني، الذي صار الجمهور ينتظره بنفس درجة اللهفة والشوق لانتظاره مسلسلات رمضان، رغبةً في الاستمتاع بوجبة ترفيهية خفيفة تمزج بين الأغاني والكوميديا وفن التمثيل، كان مخيباً للآمال بدرجة كبيرة، والسبب القيم التي صدَّرتها تلك الإعلانات، والتي كانت في جزء غير قليل سلبيةً.
وقد لاحظ مرتادو "السوشيال ميديا" تلك الرسائل السلبية، وعبَّروا عن رفضهم لها عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بشكل واضح، وكأنهم دون وعي يدركون كلمات درويش الأدبية، التي يمكن أن تتحول إلى جرس إنذار حول تأثير الرسائل الإعلانية، فإذا استمرت بنفس الشكل فضررها إذا وقع لا يزول، لأنه ضرر في بنية المجتمع نفسه وبنائه، ومن تلك الرسائل:
1– صدمة المشاهد والابتزاز العاطفي
"سامية زعلانة يوماتي مني علشان ضفيرة شعرها مش بحلاوة ضفيرتك".
جملة سمعتها في أحد إعلانات رمضان الكثيرة واللانهائية، الخاصة بالتبرع لإحدى الجمعيات الخيرية، وجدت نفسي بعدَها لا إراديا أدخل في هيستيريا من البكاء لساعة كاملة من دون توقف، فقد أعاد لي الإعلان تفاصيلَ تلك الذكرى مع أمي، التي لا أستطيع نسيانها.
لقد شعرت وكأنه سكين حاد غرس في قلبي من دون سابق إنذار، لأسأل نفسي: "ماذا فعلت لصناع الإعلان لكي يتم اختيار الألم والحزن واستعادة الذكريات السيئة كطريقة للتأثير فيَّ وفي غيري لكي نتبرَّع؟"، أو "ألا يعلم هؤلاء الصناع أن هناك تأثيراً نفسياً للإعلان، وتكراره يجعل هذا التأثير يترسَّخ في اللاوعي، ويتحول إلى سلوك عام في المجتمع".
2– الواسطة والمحسوبية
"أصله شريك في…"
هذا الإعلان الخاص بإحدى الشركات العقارية، التي كانت حملتها قائمة على أن شخصاً قد لا يلاقي القبول في مقابلة للحصول على وظيفة، أو مقابلة خاصة بالزواج، أو بل قد يتعرَّض للتنمّر بين أصدقائه، ويكون مفتاح قبوله هو أنه فقط شريك في تلك الشركة العقارية.
أدهشتني فكرة "الواسطة" التي يكرِّس لها الإعلان بشكل صريح، دون مواربة حتى، دون اعتبار لقيم المجتمع وأخلاقياته، التي يجب على الأقل إن لم نكن ندافع عنها، فلا نسعى لهدمها، وكأن الواسطة شيء عادي ومقبول، أن نحصل على ما لا نستحقه فقط لأننا نملك المال أو النفوذ.
خِفت كثيراً وأنا أشاهد هذا الإعلان، شعرتُ أنه سكين آخر لا يقتلني أنا شخصياً، بل يقتل كل فكرة السعي والأحلام عند أي شخص يسعى ويتمنَّى تحقيقها في يوم من الأيام، فأنا لا أملك أي "واسطة" في حياتي، فماذا لو أصبحت رسالة هذا الإعلان مبدأً يعتنقه البعض، بحجة أنَّ الأمرَ عادي، فقد ظهر على التلفزيون، وأبدى الجميع إعجابهم به، وتقدَّمت أنا أو غيري لشغل وظيفة في شركاتهم؟
وحتى لو كانت "الواسطة" موجودة -وهي بالفعل كذلك في العالم كله- فكيف أروج لها باعتبارهاً فعلاً عادياً مقبولاً، بينما هو فعل مشين ينتصر لمبدأ عدم الكفاءة والكسل والتراخي.
لم يُدرك صانعُ الإعلان أن رسالته التي ظهرت بشكل كوميدي لطيف، قد تكون من نتائجها المستقبلية الطبقية البغيضة، لم يدرك بالطبع لأنه لم يفكر، فقد كان كل ما يسيطر عليه هو تحقيق الانتشار لمنتجه بغضِّ النظر عن النتائج.
3- اللامبالاة وعدم تحمل المسؤولية المجتمعية
"الحمد لله مش عربيتي"
ثم كانت هناك الحملة الإعلانية المؤلمة جداً في مضمونها، والخالية من كل معاني الإنسانية، الخاصة بإحدى شركات تأجير السيارات، وتدور حول حوادث تقع لأبطال الإعلان، فلا يهتم المحيطون بهم لسرعة نجدتهم أو تقديم يد العون لهم، بل يكون اهتمامهم الأول هو حال السيارة، والتأكد من سلامتها، بل ويبدي جميع أبطال الإعلان سعادتهم بأن الحادث لم يكن في سياراتهم، تحت عنوان "الحمد لله مش عربيتي"
الإعلان يثير الخوف، فهو ينشر فكرة الأنانية بمنتهى السهولة، أن ترى الآخر وهو في أزمة ويطلب منك العون فتردُّ باللامبالاة والابتسام، بينما كل ما يهمك هو الاطمئنان على نفسك وأملاكك.
والحملة الإعلانية التي لا تثير الضحك حتى، يستحق القائمون عليها المحاسبة، فهو يسحق قيمة المسؤولية الاجتماعية، وما تنادي به الأديان من أهمية مراعاة مَن حولنا، والخوف كل الخوف من تأثيره على الصغار.
4– التحرش
"القوة بتبتدي من جواه"
أو "الطفل يرى، ثم يقلد ويفعل".
أما القيمة السلبية الأخرى فهي الجمل التي تضمنتها تلك الإعلانات، والتي تحمل تلميحات جنسية، لا تتناسب مع القيم الأخلاقية في المجتمع.
5- العنصرية "أنت غير جيد كفاية إلا إذا اشتريت أو فعلت هذا".
نسبة لا بأس بها من الإعلانات حاولت رسم صورة نمطية للصورة السعيدة التي يجب أن تمتلك أجهزة منزلية أو ملابس، أو حتى مستلزمات تجميل، أو عقارات، وإلا تصبح غير مناسبة للتطور الذي يشهده المجتمع. تعتبر تلك الرسالة على الأخص من أصعب الرسائل الإعلانية على الإطلاق، لأنها تتضمن بعض العنصرية، وجود فئات وطبقات في المجتمع لا تمتلك الآليات أو الأدوات أو حتى المال اللازم لمجاراة حالة السعار في الشراء التي تروج لها تلك الإعلانات، وبالتالي يشعر المشاهد بأنه غير كفء، أو حتى تصيبه بحالة من الحزن وعدم الرضا عن حاله.
في النهاية تبدو المفارقة جلية، وهي أنَّ بعض الفواصل الإعلانية في رمضان لم تعد فناً ترفيهياً يُقبل عليه المشاهد، بل أصبح يخشاها ويهرب منها بكل شكل ممكن، بعد أن تحولت إلى سكاكين حادة مرعبة ومخيفة، تطارده برسائل سلبية تدمر قِيمه وتسيء لمعنى حياته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.