تابع الجمهور العربي بمختلف فئاته العمرية والفكرية خلال الأسبوع الماضي نهاية المسلسل التركي "قيامة أرطغرل"، والمسلسل العالمي "صراع العروش Game of Thrones" بعد رحلة طويلة من المتابعة والإقبال الشديد والتأثير في وعي المشاهد، وزرع الكثير من الأفكار، والتسويق للعديد من القيم والدول والمنتجات، والشد والجذب في الأوساط الشعبية ومواقع التواصل الاجتماعي وحالة من الـ "trend" تدشنه كل حلقة بما يتلوها من التعليقات والتحليلات بين أخذٍ ورد، بما يطرح في الأذهان التساؤلات: ما هو السلاح الأقوى؟ الرصاصة أم الكاميرا؟ كيف تستعمر القارات بالجيوش والدبابات؟ أم بالفن والأدب والروايات؟ كيف تتوسع وتسيطر هنا وهناك؟ بالحملات العسكرية والغزوات الحربية؟ أم لم يعد هناك حاجة لذلك..
نستعرض في هذا المقال كيف تخوض الأمم معاركها الجديدة بمسلسل تلفزيوني، كيف تنشر ظلها على العالم بمنتج تجاري، كيف تسمع العالم كله اسمها وكلمتها بلاعب كرة قدم أو فرقة غنائية، كيف تجذب آلاف السياح إليها دون إنفاق المليارات في الإعلانات، سنسلط الضوء على هذين المثالين من جوانب مختلفة لنستشف الأثر الكبير الذي تركوه والذي سيدوم عقوداً وعقوداً، سنثبت في ثنايا هذا المقال أن النصر دوماً للقوة الناعمة، وأن الفوز يؤول دوماً للذي يغزو بفكره لا بعضلاته! النصر الذي يعطيك زمام الأمور في المعركة دون أن تضطر لخوضها من الأساس!
الرصاصة الأولى في الحرب: فتِّش في التاريخ
يبذل الكيان الصهيوني مجهودات ضخمة، وينفق ملايين الدولارات سنوياً في التنقيب عن آثار يهودية محتملة في فلسطين المحتلة، أو صناعتها وتزويرها رغبة في خلق حضارة وترسيخ تاريخ؛ لأنه يدرك أن قوة حاضرك تأتي بالمقام الأول من عراقة ماضيك الضارب بجذوره في ذاكرة البشرية، وهذا السر الأول في التأثير الكبير الذي أحدثه المسلسل التركي وبدرجة أقل تركيزاً على الناحية التاريخية مسلسل صراع العروش.
استند محمد بوزداغ، كاتب "القيامة"، على الفترة التاريخية التي سبقت قيام الدولة العثمانية مسلطاً الضوء على الشخصية التي صنعت الحدث أرطغرل والد عثمان الغازي مؤسس الإمبراطورية، وتجاوز الشكل التأريخي الضيق لقصة درامية مليئة بالتشويق والتفاصيل. نجح بوزداغ من خلال سير القصة وبامتياز في رسم صورة مشرقة لأجداد العثمانيين الأوائل، والتركيز على ارتباط الأمة التركية بدينها الإسلامي، وإبراز قيم خلافة الله في الأرض ونشر الإسلام وإقامة العدل ودحر الظلم والإعداد الحربي والعلمي، والذكاء السياسي والحربي الخُططي الهائل.
ولم يكتفِ بوزداغ بذلك، بل أعاد إحياء رموز المذهب الصوفي الذي يلقى رواجاً شديداً بين الأتراك منذ القدم، وساهم في محو الصورة النمطية التي ترسخت لدى المشاهد العربي عن الصوفي الدرويش الذي يعيش على العالة وتمتلئ حياته بالشركيات والخرافات من خلال شخصيات لمعت في التراث الصوفي مثل ابن عربي وجلال الدين الرومي.
الجمهور العربي يتفاعل بحماس ويدرس التاريخ السلجوقي والعثماني!
عندما تخترع لغة من الصفر..
مسلسل صراع العروش هو الأخر مستقى من أحداث حرب الوردتين الحرب الأهلية الإنجليزية التي بنى الكاتب مارتن سلسلة رواياته "أغنية الجليد والنار" عليها، والتي حُوِّلت بدورها إلى المسلسل العظيم. بذل القائمون على الفيلم جهوداً جبارة في تهيئة بيئة الفيلم التاريخية، ولجأوا للتصوير في أكثر من 10 دول، بل واخترعوا لغة جديدة وهي لغة الدوثراكي للتواصل بها في المسلسل وبلغت مفرداتها حوالي 3700 كلمة!
وعلى غرار القيامة، ساهم المسلسل في زيادة خيالية في مبيعات سلسلسة الروايات "أغنية الجليد والنار"، وإعجاب مختلف شعوب العالم الهائل بالفترة التاريخية التي يصورها المسلسل، بل وصل الأمر إلى انتشار أسماء مثل كاليسي بين المواليد الأمريكان الجدد تأسياً بملكة التنانين إحدى شخصيات المسلسل الرئيسية.
اختلفا في اللغة والمنشأ، واتفقا على تحطيم الأرقام القياسية!
يختلف العملان الفنيان الضخمان في الكثير من الأمور، والعديد من الأفكار، ولكن اتفقا في الانتشار العظيم؛ حيث يصنف الكثير من النقاد مسلسل صراع العروش بأنه صاحب أعلى نسب مشاهدة على مر التاريخ، فعلى سبيل المثال حققت الحلقة الأولى في الموسم الخامس 18.6 مليون مشاهدة في الولايات المتحدة عند العرض الأول فقط، وعُرض في مختلف دول العالم وتُرجم لأكثر من 40 لغة، وبالمثل حقق مسلسل قيامة أرطغرل نسب مشاهدة تاريخية، وتصدر السباق الدرامي التركي طيلة الخمس سنوات، وعُرض في أكثر من 85 دولة وتُرجم لأكثر من 25 لغة.
ميزانية ضخمة، وإيرادات تتجاوز الناتج القومي لبعض الدول!
كما اتفقا كذلك في الاهتمام بكل التفاصيل، والإتقان الشديد في الإخراج والتصوير والمؤثرات الصوتية والملابس وتصميم المعارك وغيرها، حيث تبلغ تكلفة إنتاج الحلقة الواحدة من القيامة حوالي 300 ألف دولار أمريكي، وتم اختيار أماكن التصوير بعناية فائقة حتى تناسب أحداث المسلسل وبيئته، فجرى التصوير في أكثر من ست مدن تركية مثل بيكوز وكبادوكيا. بينما كانت تكاليف إنتاج مسلسل صراع العروش خيالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فحسب موقع ماشابل الإخباري الروسي تبلغ تكلفة الحلقة الواحدة من الموسم الثامن حوالي 15 مليون دولار أمريكي، وبلغ طاقم التمثيل فقط في بعض المواسم رقماً هائلاً يعد العدد الأكبر من الممثلين الذي يشترك في عمل تلفزيوني وهو 257 ممثلاً، وتعددت أماكن التصوير لتشمل ما يقارب العشر دول، بداية ببلفاست الاستوديو الرئيسي مروراً باسكتلندا والولايات المتحدة وإسبانيا ومالطا وايسلندا وأخيراً وليس آخراً مدينة الصويرة أو استابور ومواقع أخرى بالمغرب الحبيب.
الغالي ثمنه فيه..
وكما يقول المصريون "الغالي ثمنه فيه"، فكما كان الإنفاق، تجاوزت الإيرادات حقوق المعقول. لا توجد أرقام رسمية وموثقة تخبرنا بالإيرادات الفعلية لمسلسل قيامة أرطغرل، لكن من خلال متابعتي للصحافة التركية فبعض النقاد يقدرونها بثلاثة مليارات ليرة تركية للمواسم الخمسة، وحدِّث ولا حرج عن إيرادات GOT، فعلى سبيل المثال حققت الحلقتان الأخيرتان من الموسم الرابع اللتان تم عرضهما في السينما حاجز المليون ونصف المليون دولار في اليوم الأول فقط في الولايات المتحدة الأمريكية!
المسلسل ينعش السياحة، ويُحيي مدناً من العدم!
أرباح المسلسلين تجاوزت الإيرادات المباشرة على الشباك أو من الإعلانات، وظهر ذلك في رفع مستوى السياحة في المدن التى جرى فيها التصوير وباتت من المقاصد السياحية التي يشد إليها المسافرون الترحال من مختلف أنحاء العالم، وزاد إقبال الجمهور العربي بشكل غير مسبوق على تعلُّم اللغة التركية، فعلى سبيل المثال زاد عدد المتقدمين من مصر فقط لمنحة يونس إمرة لدراسة اللغة التركية بإسطنبول بين عامَي 2016 و2017 زيادة تقدر بـ 300% حسب ما ذكر فرع المركز بالقاهرة.
أين نحن؟ كلمة لصناع الثقافة!
إن العالم يتجه لعصر المعرفة، ومَن يمتلك الفن الجيد هو صاحب الانتشار الأوسع، ودعوني أستشهد بإحدى أسرع القوى صعوداً في عالمنا وهي الهند، لم تكتفِ الهند بتطوير جامعاتها وإرساء ديمقراطيتها والاهتمام بصناعاتها بل صبت جام تركيزها على صناعة السينما والتلفزيون حتى رأينا بوليوود تناطح هوليوود كفاءة وقوة وجودة، ودخلت السينما الهندية كل بيت، فلكي تفرض اسمك كقوة عالمية لا بد من آلة إعلامية قوية تدعم أفكارك وتنشر ثقافتك، ادخل بالسينما بيوت الناس وسيشتري الناس منتوجاتك ومصنوعاتك دون الحاجة للذهاب إليهم! فمتى يستجمع صناع الثقافة العرب قواهم ويوحدون جهودهم من أجل إنتاج أعمال عالمية هادفة ترسخ ثقافتنا وتنشر هويتنا بين الأمم..
حلم هل يظل حلماً أم يكون غير ذلك؟ هذا ما ستجيب عليه السنين القادمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.