عندما انفجر المفاعل رقم 4، ونشر السحُب المشعة في جميع أنحاء النصف الشمالي من الكرة الأرضية (من تشيكوسلوفاكيا إلى اليابان)، وأطلق ما يعادل 500 قنبلة هيروشيما في الغلاف الجوي، حاول الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السيطرة على المعلومات ونشر روايته الخاصة عن حقيقة ما حدث.
في حديثها مع BBC Mundo، أخبرت الصحفية إيرينا تارانيوك من الخدمة الأوكرانية لهيئة الإذاعة البريطانية: "لقد أخفوا كل المعلومات التي تؤكد خطورة الحادث منذ البداية ورفضوا إخلاء كييف (العاصمة الأوكرانية الحالية)".
كانت إيرينا طالبةً حينها، تعيش في المنطقة الغربية من الاتحاد السوفييتي السابق، وتروي كيف عاشت مشاعر الخوف والارتباك عندما انتشرت الأنباء.
أخبار تسربت بسرعة
لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من احتواء الأخبار لفترة طويلة، لم يكن من الممكن التستر على شيء كبير بهذا الحجم، لذلك بدأت الأخبار في التسرّب.
وبعد ثلاثة عقود، تخبرنا شهادات ومعلومات وقصص الناجين، بالإضافة إلى جهود الباحثين، بتفاصيل اليوم الذي حدثت فيه الكارثة، وفي هذا التقرير، نعرض عليكم وقائع ما حدث في 26 أبريل /نيسان 1986، وكيف حاول الاتحاد السوفييتي السابق حجب الحقيقة الكارثية عن العالم؟
من الإنكار إلى انعدام المسؤولية
كانت الساعة الخامسة صباحاً عندما تلقى ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، مكالمة هاتفية بحدوث انفجار في محطة تشيرنوبل النووية. ولكن، على ما يبدو، كان المفاعل سليماً.
وقال غورباتشوف فيما بعد: "في الساعات الأولى وحتى اليوم التالي للحادث لم يكن من المعروف أن المفاعل قد انفجر وأنه كان هناك انبعاث نووي ضخم في الغلاف الجوي".
لم يرَ الرجل الأقوى في الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت ضرورةً لإيقاظ الزعماء السياسيين الآخرين أو قطع عطلته لنهاية الأسبوع بجلسة طارئة، كما يوضح المؤرخ الأوكراني سيرجي بلوخي في كتابه Chernobyl: the history of a nuclear catastrophe (تشيرنوبل: تاريخ كارثة نووية، 2018).
فقد اكتفى بإنشاء لجنةً حكومية برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء بوريس شربينا، للتحقيق في أسباب الانفجار، وفي الوقت نفسه، كان المواطنون في خطر، لكن لم يجرؤ أحد على طلب الإخلاء.
أظهر أول اقتراب لطائرة هليكوبتر بعد حوالي 24 ساعة من الانفجار، حجم الكارثة، إذ يقول بلوخي، الذي يدير معهد الأبحاث الأوكراني في جامعة هارفارد في حديثه مع BBC Mundo: "في البداية، كانوا في حالة من الصدمة والإنكار، ولم يريدوا قبول ما حدث، وبعد ذلك حاولوا التنكر من تحمل المسؤولية، فقد استغرق الأمر 18 يوماً بأكلمها حتى تستطيع الدولة الحديث عن الأزمة في وسائل الإعلام الرسمية"
ويبدو أن هناك شبه إجماع في الشهادات على حالة الإنكار التي اتبعها الاتحاد السوفييتي، ففي حديثه مع BBC Mundo، قال الصحفي آدم هيجينبوثام، مؤلف كتاب Midnight in Chernobyl (منتصف الليل في تشيرنوبل، 2019)، وهو من أكثر الكتب مبيعاً لصحيفة New York Times التي تجمع شهادات عن الواقعة، كان رد الفعل المفاجئ أنهم أخفوا حقيقة الانفجار عن الناس، وبعد الإخفاء حاولوا الإنكار.
كان الحدث كارثياً للغاية وكان حجم الكارثة كبيراً لدرجة أنه حتى المتخصصين المدربين جيداً، والذين كرسوا حياتهم لدراسة الطاقة النووية لم يستطيعوا استيعاب ما رأوه.
من يتحمّل مسؤولية طلب الإخلاء؟
لم يرد أحد القادة تحمل مسؤولية إخلاء المدينة "كييف"، حاولوا جميعاً التنصل لكن الناس شعروا بأن الخطر أكبر من استيعابهم فبدأوا بالمغادرة.
لم يقتصر الأمر على عدم نشر الأخبار وعدم إصدار أمر بالإخلاء، لقد قطعوا شبكات الهاتف، وحظروا على المهندسين والعاملين في المحطة النووية مشاركة الأخبار حول ما حدث لأصدقائهم وعائلاتهم نتيجة الانفجار.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها الاتحاد السوفييتي هذا النوع من الحوادث، كانت هناك كارثة نووية أخرى (أصغر كثيراً) في سبتمبر/أيلول 1957 في كيشيتيم، بجبال الأورال في روسيا، عندما انفجرت المواد المشعة، ولم ينشر عنها أية معلومات أيضاً وبدا أن الصمت كان بروتوكولاً مُوحَّداً في الاتحاد السوفيتي.
وجد الأمريكيون بعض الدلائل على وجود انفجار وتلوث نتيجة للكارثة الأولى، لكنهم لم يفصحوا عنها لأنهم كانوا بصدد تطوير خطط نووية كبيرة ولا يرغبون في إطلاق التحذيرات.
كيف اكتشف العالم ما حدث؟
يقول بلوخي: "كان السويديون هم أول من اكتشفوا أن هناك خطأ ما، تلاهم بعض البريطانيين الذين كانوا يعملون في محطة نووية أخرى".
بدأ السويديون يسألون السلطات السوفييتية عما إذا كان هناك حادث نووي، إذ إنه تم اكتشاف مستويات عالية من الإشعاع في الأيام التي تلت الحادث وهو ما لم يجدوا له تفسير.
حذر الناس في أوروبا من الإشعاعات التي اكتشفوها، حينها بدأ الاتحاد السوفييتي نشر معلوماته، تحت ضغط الغرب.
استغرق الأمر سنوات حتى بدأت الحقيقة في الظهور تدريجياً، ما عزز من ذلك أن الاتحاد السوفييتي احتجز مراسلين أجانب كانوا يقيمون في موسكو ومنعوهم من مغادرة المدينة أو الاقتراب من منطقة الحادث، ما دفعهم لنشر كل المعلومات التي تلقوها، حتى لو كانت شائعات.
قالت صحيفة New York Post الأمريكية إن 15 ألف شخص لقوا حتفهم، ويقول شهود عيان إن الحكومة لم تعطِ السكان فرصة لأخذ احتياطاتهم، لقد عرفوا بالحادث من الإعلام الغربي.
سقوط إمبراطورية
يقول بلوخي: "ارتبطت كارثة تشرنوبيل في كثير من الأحيان بالتغيرات الاستراتيجية في الاتحاد السوفييتي وبداية السياسة المُنفتحة، ويشير إلى أنه أراد أن يكتب عن المأساة لأنها جزء من تاريخه الشخصي، وأن ما دونه أوصله إلى استنتاج مهم، وهو أن هناك صلة مباشرة بين تشيرنوبل وسقوط الاتحاد السوفييتي".
من ناحية أخرى، يرى مؤرخون أنها كانت لحظة فارقة في تاريخ تفكك الاتحاد السوفييتي، ليس فقط بسبب التكلفة الاقتصادية أو عدم الثقة المتزايد في المؤسسات السوفييتية، ولكن أيضاً بسبب كيفية تغير غورباتشوف نفسه ليكون آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، ويرون أن الحادث كشف أن غورباتشوف قد أفسد الإمبراطورية التي ورثها.