كانت إنكلترا تتوقع أن تستقبلها روسيا في نهائيات كأس العالم بأجواءٍ باردة للغاية، بسبب التوتر الدبلوماسي بين البلدين. حتى إن المدرب غاريث ساوثغيت اعترف قائلاً: "لا أعتقد أنَّنا سنكون الأكثر شعبية هناك".
إلا أنه بعد حديثه هذا بـ3 أشهر، وجد المدرب أنَّ الروس يحتفون به في مدينة ريبينو تماماً كأنَّه قادم في زيارةٍ ملكية، حاملين الكرافاي بين أيديهم، وهو رغيف مستدير من الخبز المملح، تعبيراً عن تقدير السكان المحليين له.
وكانت الفوضى قد عمَّت مارسيليا أثناء بطولة أمم أوروبا لكرة القدم عام 2016، عندما طارد عصابات المشاغبين الروس خصومهم البريطانيين عبر ميناء مارسيليا القديم. وعادة ما تكون أعمال الشغب الإنكليزية بقذف الكراسي أو قلب الدراجات، فإنَّ الألتراس الروس جماعة أكثر وحشية، تستخدم السكاكين لقطع أوتار العرقوب لدى الضحايا لمنعهم من الفرار.
لكن رغم حوادث الفوضى السابقة بين الألتراس الروسي والبريطاني، هناك سبب واحد وراء إمكانية أن يسود السلام والتناغم خلال الأسابيع القليلة القادمة بينهما، وهو سبب قوي وغير معروف كثيراً، وهو أنَّ الإنكليز هم من أدخلوا لعبة كرة القدم إلى روسيا.
وإليك قصتها بحسب ما روته The Telegraph..
كانت كرة القدم في روسيا بمثابة هواية فوضوية وغريبة. وعندما أُقيمت أول مباراة مسجلة في مدينة سانت بطرسبرغ، في 2 سبتمبر/أيلول عام 1893، كتبت الصحف في ارتباك: "كان الرياضيون الذين يرتدون الملابس البيضاء يركضون وأحياناً يقعون في الوحل، وسرعان ما تحوَّل لونهم إلى الأسود، كأنَّهم عمال تنظيف المداخن. وأثناء كل ذلك، أمكن سماع الضحكات تتردد بين الجمهور".
ومع ذلك، تراجع الشعور بالغرابة تجاه كرة القدم سريعاً في مدينة أوريخوفو-زويفو، وهي مدينة تقع على بعد حوالي 50 ميلاً (80.4 كم تقريباً) شرقي موسكو، لأنَّ هاري تشارنوك، الرئيس التنفيذي لمصنع Nikolskoye Textile Factory المهاجر من مدينة تشورلي بمقاطعة لانكشر، اعتزم إقامة دوري صغير لمنح عماله الروس منفذاً اجتماعياً بعيداً عن حفلات الفودكا الصاخبة.
كان تشارنوك من أشد معجبي فريق بلاكبيرن روفرز، واصطدم بعداوة عائلة موروزوف، العائلة الحاكمة البيوريتانية التي تملك المصنع، ورفضت فكرة أن تكون ساقي اللاعبين عاريةً حتى أوراكهم. لكنَّ المقاومة أثبتت فشلها. إذ تخطى عدد الحشود المجتمعة من أجل تلك التجربة البسيطة والقوية نحو 10 آلاف شخص، في حين نمت الرياضة بدرجة كبيرة في موسكو وسانت بطرسبرغ بمجرد ترجمة قوانينها إلى اللغة الروسية.
وفي النهاية، وجَّه تشارنوك نداء شخصياً إلى المحافظ الإقليمي لإنشاء نادٍ رياضي دائم في أوريخوفو. وسادت المحادثة الغرابة والتوتر، على الأقل حتى أخرج نسخةً من المجلة الألمانية المتحفظة Die Woche، التي ظهر فيها فيلهيلم، ولي العهد، مرتدياً حذاء كرة القدم الخاص به. وقالت زوجة المحافظ: "لا بد أن تلك الرياضة مفيدة للغاية للصحة. يجب أن تمارسوها".
في تلك الأثناء، أتت بنات أفكار تشارنوك بثمارها. إذ تمكن فريقه موروزوفيتسي من السيطرة على دوري موسكو، عن طريق اكتساب مكانة أكبر بتعيين روبرت بروس لوكهارت، الذي كان نائب القنصل البريطاني آنذاك، لاعباً في خط الوسط. كان الأمر صدفةً مذهلة، اتضح أنَّ لوكهارت، وهو لاعب متواضع يلعب في الساحات على أفضل الأحوال، اختيرَ بالخطأ بدلاً من أخيه هارولد، الذي كان لاعباً في فريق الرغبي لجامعة كامبريدج، الذي يرتدي اللون اللبني. مع ذلك، هدأ التزامه الواضح من أي شكوك مثارة حول قدرته، إلى جانب أنَّ يومياته لم تدع مجالاً للشك بأنَّ المباريات كانت ضروريةً لتجربته الروسية. وفي إحدى المواجهات ضد نادٍ ألماني، تلاشت تماماً سلوكياته المهذبة المزروعة فيه منذ دراسته. إذ كتب في يومياته: "لقد خاطبتُ الحكم بلغةٍ اعترف أنَّه ما كان يجب علي أبداً أن استخدمها في إنكلترا. وقال لي: احذر، لقد سمعت بالضبط ما قلته".
بعدها، أُنتِجَ فيلم British Agent بناءً على مذكرات لوكهارت، بعدما سُجِنَ وحُكم عليه بالإعدام لدوره المشتبه به في المؤامرة التي دُبِّرَت عام 1918 لقتل لينين. استطاع الإفلات من العقاب بعد مبادلته بسجناء روس، ثم أصبح بعد ذلك ضابطاً في الاستخبارات أثناء الحرب العالمية الثانية، ينسق الدعاية البريطانية ضد دول المحور.
لا يمكن لقصة انتشار كرة القدم في روسيا أن تكون أكثر إثارة، فهي تمزج بين صراعٍ ضد قيم المسيحية الأرثوذوكسية ومؤامرات تقع خارج الملعب.
بالنظر إلى ذلك التاريخ، من المدهش أنَّ عدداً قليلاً من اللاعبين الإنكليز اقتنعوا باتباع نفس المسار باتجاه الشرق. وتصور الرسوم الكاريكاتيرية الشهيرة كرة القدم في هذه الأرض الواسعة على أنَّها مخيفة وغريبة على إدراك الإنكليز.
يجدر بأكثر المشككين عناداً تذكر هاري تشارنوك، الأب المؤسس لكرة القدم في روسيا. ظل تشارنوك مخلصاً للقضية لبقية حياته، وقاد فريق دينامو موسكو في إنكلترا عام 1946، عندما قُدِّمَ كنائب رئيس دوري موسكو. ولولا كدحه في الترويج للرياضة، على الأرجح ما كانت ستنتشر بهذه السرعة في روسيا. ورغم كل الخلافات الشديدة بين إنكلترا وروسيا على الساحة الجيوسياسية، يجب على الدولتين التفكير في التاريخ المشترك بينهما، على الأقل في كرة القدم.