هناك بعض المشاهد التي أصبحنا نراها في كل مكان، منها مشهد مجموعةٍ من الأطفال على طاولة بمطعم، أعينهم تحدق في شاشات، تخرج منها أصوات مرتفعة، وآباؤهم غافلون عن أنَّ الآخرين يحاولون الاستمتاع بأمسيتهم؛ أو أبٌ يدفع عربة طفله عبر الشارع بيدٍ واحدة، ويحمل هاتفه باليد الأخرى، مركِّزاً انتباهه على الشاشة.
لذا يبدو كأنَّ "أدوات التواصل" أصبحت تمنع الناس حتى وهُم يجلسون معاً عن التواصل بعضهم مع بعض.
أقل قسوة
بحسب ما نشره موقع Big Think الأمريكي، هناك دراسةٌ جديدة، صادرة عن جامعة روتجرز الأمريكية -منشورة بالدورية الأمريكية لطب الأطفال التنموي والسلوكي أيضاً- في تصحيح ردود الفعل المتوقعة هذه من الآباء، الذين يرون أنَّ الشاشات "هي الطريقة الوحيدة لتهدئة الأطفال". لكنَّ الدراسة ترى أنَّ الحل يبدأ كما تبدأ كثير من رواياتنا العظيمة، بفتح صفحات كتابٍ ما.
فوفقاً للدراسة التي قادها مانويل خيمينيز، الأستاذ المساعد بكلية طب روبرت وود جونسون في جامعة روتجرز الأمريكية، فإن الآباء الذين يقرؤون لأطفالهم يصبحون أقل قسوة، ويصبح أطفالهم أيضاً أقل ميلاً إلى إثارة الفوضى أو النشاط المفرط. وبهذا تفيد القراءة الأطفال وكذلك الآباء.
تعد هذه الاكتشافات جزءاً من بحثٍ طويل حول ضرورة التفاعل الأبوي مع الأطفال. فلأنَّ 80% من نمو العقل يحدث في أثناء السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، وتتكون 700 نقطة اشتباك عصبية في الثانية، يتعلم الأطفال عدد كلماتٍ أكبر ببلوغهم عمر العامين حين يستمعون لآبائهم بمعدلٍ أكبر. وعلى النقيض تماماً، فإنَّ الأطفال الذين يتحدث معهم آباؤهم بمعدلٍ أقل يُظهرون مشاكل في التعلم على مدار السنوات الست التالية.
أصوات الثرثرة ليست عشوائية
وفي حين أنَّه توجد أدلة على أنَّ التواصل مع الجنين داخل الرحم قد يشكل فارقاً (حتى 10 أسابيع قبل الولادة)، فإنَّهم ينتبهون إلى الأصوات الصادرة من آبائهم منذ اليوم الأول. ويطور الأطفال الذين يتحدث إليهم آباؤهم حصيلتهم اللغوية بشكل أسرع. فأصوات الثرثرة التي يصدرونها ليست عشوائية؛ إنَّها طريقتهم في محاولة تقليد آبائهم عن طريق تشكيل أفواههم لإصدار أصوات تشبه تلك التي يسمعونها، وهي المهارة التي تُكتسب أسرع كلما تحدث الآباء مع أطفالهم أكثر.
حتى الأغاني التي يغنيها الآباء، وبالأخص الأمهات، تؤدي دوراً مهماً، فهي تمد المقاطع بطريقة لَحْنيَّة، وهو ما يشد انتباه الأطفال مدةً أطول. فيصبح الطفل قادراً على ضبط النغمات والتعرف إلى المقاطع بصورةٍ أسهل، وهو ما يخلق لديه اللبنات الأولى للغة.
وكما يُظهر البحث، فإنَّ البالغين الذين يقرؤون يصبحون أكثر ذكاءً وتعاطفاً. وإن كانت هذه المهارة تساعد على جعلنا أشخاصاً أفضل، فمن المنطقي أنَّ الأطفال الذين يقرأ لهم آباؤهم أكثر قد يصبحون أقل توتراً وأكثر تواؤماً مع محيطهم. ومن المفهوم أيضاً أن الآباء الذين يقرأون أكثر لأبنائهم يكونون أقل قسوةً في تصرفاتهم معهم، بالنظر إلى أنَّ ردود الفعل الأبوية التي تنتج بعد السأم من تصرفات الأطفال تنمُّ عن عجزٍ عن التحكم في المشاعر.
استعرض خيمينيز وفريقه في الدراسة 2165 زوجاً من الأطفال وأمهاتهم عبر الولايات المتحدة الأمريكية. أُجريت المقابلات مع الأمهات مرةً واحدة، للنظر فيما يتعلق بعادات القراءة لأطفالهن (من 1-3 سنوات). وأُجريت مقابلة أخرى للمتابعة بعد سنتين.
إعداد الأطفال للنجاح في المستقبل
كلما قرأ الآباء أكثر، أصبحوا أقل قسوةً، في حين يصبح الأطفال أقل إثارةً للفوضى، بغضّ النظر عن المدى العمري المذكور أعلاه. وأشار خيمينيز إلى أنَّ هذا البحث ربما يساعد الآباء ومقدمي الرعاية في الأحياء الفقيرة والمحرومة على إقامة علاقاتٍ أفضل مع أطفالهم، بالإضافة إلى إعدادهم للنجاح في المستقبل.
ويشرح خيمينيز: "بالنسبة للآباء، فإنَّ الروتين اليومي للقراءة لطفلك يمده ليس فقط بالفوائد الدراسية، بل العاطفية أيضاً، وهذه تستطيع أن تدعم نجاح الطفل في المدرسة وخارجها".
وأشار بحثٌ سابق إلى أنَّ الآباء في الأحياء الأفقر يميلون إلى التحدث أقل إلى أطفالهم، وعندما يفعلون ذلك، فإنَّهم يميلون إلى صيغة الأمر أكثر من الحوار، كأن يطلبوا من أطفالهم مثلاً ترك شيءٍ ما. ويأمل فريق جامعة روتجرز أن يصل هذا البحث إلى تلك الأماكن، ليوفر خطةً سهلة التنفيذ تخدم كلاً من الأب والطفل.
وهذه الرابطة مفيدة لكل الأسرة بالتأكيد، بغض النظر عن مكان معيشتك.