الكتابة على الورق تُضمن بقائمة الإنجازات وما أخطه الآن هو نِتاج كتابة نادرة لي على الورق، في عام 2016 شارك أستاذي محمد أبوريان مقالاً لأحد الكتاب الأمريكيين بعنوان لماذا أكتب؟! للكاتب جيمس فيري، إنه كاتب يحب المال، يكتب أفلاماً رديئة بأسماء مستعارة ليكسب المال.
ما استفدته من فيري وقتها أن هذا الرجل يكتب بغزارة، يكتب كي يعيش، هو لا شيء على الإطلاق سوى أنه كاتب يغرق في الكتابة.
ومن مقال جيمس فيري انتقلت مباشرة إلى قراء رواية مدار السرطان التي ذكرها فيري بمقاله لصاحبها الأمريكي هو الآخر هنري ميلر.
هنري سوداوي، جائع، متسول في باريس، نقاد لكل شيء، مولع بالتفاصيل، وملحد في المطلق، يرى في بقايا الكتابات وما حذف من الكتب عظمة الكتابة، وأن تلك المحذوفات والفوارغ هي كيان مكتمل في الأدب والفلسفة والحياة برمتها.
اكتئابه الفوضوي يذكرني بإيميل سيوران، هذا الروماني الذي يعتبر أباً للكآبة في هذا الكون، صاحب المقولة الشهيرة "ملعون من يدق الباب"، "كل زيارة هي اعتداء"، وله كتاب يدفع للانتحار والضحك معاً من فرط الكآبة بعنوان "الحياة كلها بلون الغرق".
لا أعرف إن كان لارتباك الأديان في عائلة سيوران ما بين المسيحية واليهودية وازع في هذه النزعة التشاؤمية أم لا، لكن رأي كاتبة سيناريو محترفة في سيوران، حينما أخبرتها عنه ذات صباح، بأنه حيات لابد أن تصبح فيلماً من أفلام السير الذاتية الرائعة، أنا أثق بها ومؤمن تماماً بالأوراق التي تكتب عليها سيناريوهاتها الحِرفية، وأعلم أنها من الممكن أن تخلق سيناريو أسطورياً عن سيوران واكتئابه وكتبه.
بالعودة لهنري، اطلعت على روايته مدار السرطان،
هي ليست رواية مكتملة، إنها عبارة عن مذكرات غاضبة من الإبداع يؤرخ فيها حياته ككاتب في باريس، بعدما انتقل من أمريكا تاركاً زوجته.
هنري فوضوي، غاضب لا يمل من النقد للجوع، الأديان، اليهودية، الكُتاب من حوله، صاحب المنزل، المستأجرين الجدد، النساء، الشوارع، وحتى رائحة المني في مجاري الصرف.
هنري يسرد التفاصيل بغزارة تجعلك ترسم السيناريوهات في عقلك مباشرة لكل شيء، لست بحاجة لتلفاز كي ترى التفاصيل، إنه يأخذ بعينيك وروحك لمتابعة كل شيء على الورق، إنه محترف سرد، أظنه نجح في روايته مدار السرطان بالغضب، الغضب كان أستاذه الذي أخذ بيديه للإبداع، ربما يمر عليها قارئ فيراها نمطية، لكن مدار السرطان تستوقف الغاضبين.
أحب هذا النوع من الغضب الذي يشرح التفاصيل كاملة بلا هوادة، تفاصيل بلا رحمة، هنري فعل هذا تماماً، حتى في تعريفه للثورة كان بسيطاً وغاضباً
حين قال: "الثورات تدهس وهي براعم أو تنجح بسرعة مشكوك فيها".
هذا كاتب يتألم من انكباب ثورة على أحلامها وحريتها
هنري غاضب مبدع، طوى الغضب مشكلاً به أسطورة أدبية هي مدار السرطان.
أري نفسي في غضب هنري ومدار السرطان، في تعريفه للحياة، وكيف ينهش تفاصيل الحياة الدقيقة سرطان من لا شيء.
حاولت مراراً أن أكتب بالسرد الطويل الغني بالصورة والغضب، ولم أصل لمبتغاي الكامل إلى الآن، في 2016 في حديث مطول لي مع أستاذي أبو ريان قال لي: "أنت تحمل بداخلك تجربة حياتية قوية ستمكنك يوماً ما من كتابة نصوص مكتملة الحكاية، الألم، التفاصيل والنجاح الأخير.
لم أفهم الحديث حينها، لكن ربما كان يجرني باتجاه الغضب كي أكتب، لكنني لم أفعل.
بعد سنوات عِدة ربما فهمت مغزى ما كان يرنو إليه.
هنري أعطاني الرسالة مكتملة رغم أنني لم أكمل الكتابة في نصوصي الأدبية الآن وأذرُها معلقة، عليّ أن أحتضن الغضب كي أكتب، كي أسرد بلا توقف، كي أنهش التفاصيل كما السرطان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.