تناولت صحيفة The New York Times الأمريكية في تقرير لها واقع كرة السلة في لبنان وكيف تحولت إلى جزء من اللعبة السياسية في البلاد بين الأحزاب التي تمثل 18 طائفة في البلد المقسم طائفياً.
تقول الصحيفة: في الحقيقة، لم يكن فريقهم ليفوز أبداً، لكن ذلك لم يمنع المشجعين المتعصبين في المدرجات من إمطار خصومهم بالشتائم. كانت بعض الإهانات على تنويعات شتم للأم، وبعضها الآخر من النوع الذي وصل إليه اللبنانيون ربما بشكل فريد بين مشجعي كرة السلة في العالم: الإهانة السياسية في هتافات التشجيع.
ما قالوه لا يمكن طباعته، لكنه كان هجاءً قاسياً للرئيس اللبناني ميشال عون، رمز الحزب السياسي الداعم بشكل غير رسمي للفريق المنافس، لتندلع مشاجرة.
أحاطت شرطة مكافحة الشغب بالمدرجات، علا صراخ معلقي التلفاز، وحاول اثنان من مسؤولي كرة السلة إسكات الهتافات فانتهى بهما الأمر في المستشفى.
"كان وضعاً ميؤوساً منه"، يقول أكرم حلبي، رئيس الاتحاد اللبناني لكرة السلة في لبنان، متنهداً، "لقد كانوا يخسرون بفارق 33 نقطة!".
ليست مجرد رياضة.. بل جزء من اللعبة السياسية
في هذه الأيام التي أصبح فيها حق استضافة كأس العالم لكرة القدم مسألة جيوسياسية مثيرة، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يهاجم بانتظام الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية، لم يعد متوقعاً بعد الآن من الرياضة أن تكون مجرد رياضة فقط.
لكن الرياضة لها تمثيل سياسي خاص في لبنان، حيث تعيش 18 طائفة دينية يعترف بها رسمياً، تتبعها أحزاب سياسية، تعمل وتتواصل اجتماعياً مع بعضها البعض، لكنها لا تتوقف أبداً عن السعي لاقتناص المكاسب. إنَّها دولة يتخفى فيها الانتماء للأحزاب وراء كل شيء تقريباً، المدارس والمستشفيات والبنوك ونوادي الشطرنج وتنس الطاولة وحتى فرق الكشافة للفتيات.
ثم تأتي كرة السلة اللبنانية، وهي رياضة شعبية ذات قاعدة جماهيرية شغوفة، لا يشبه موسمها الاحترافي شيئاً أكثر من الانتخابات، لكن مع اختلاف بسيط إذ يقوم مقام النواب فيها لاعبون فارعو القامة بارزو العضلات.
يحصل كل نادٍ لكرة السلة على الجزء الأكبر من تمويله من راعٍ سياسي يرتبط به، في المقابل يحصد ولاء المشجعين، والناخبين كذلك، لحزبه السياسي.
ألوان الأحزاب تزين قمصان اللاعبين. لا تغطى جدران الملاعب بلافتات البطولة فحسب، بل تجاورها الملصقات الضخمة للرعاة السياسيين، مثل الصورة الهائلة لرئيس الوزراء السابق المغتال رفيق الحريري، التي تتصدر الملعب المحلي لأحد الفرق.
المسلمون السنة يشجعون فريقاً يموله المسلمون السنة، ويشجع المسيحيون المارونيون فريقاً مسيحياً مارونياً، والأرمن فريقاً أرمينياً، وهكذا.
"حرب بلا رصاص"
يقول دانييل رايشه، الأستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت، الذي يجري أبحاثاً في السياسة والرياضة في لبنان، إنَّ كرة السلة اللبنانية هي "حرب بلا رصاص".
وأضاف: "أعتقد أنَّه لا ينبغي أن يكون لدينا رؤية رومانسية للرياضة، على أنَّها جيدة دائماً وتجمع الناس دائماً، يمكنها أن تُقسمهم أيضاً".
اختلطت السياسة، المحلية والإقليمية على حد سواء، بكرة السلة في لبنان لسنوات. في عام 2006، وصل المنتخب اللبناني لكرة السلة إلى كأس العالم بعد رحلة شاقة بالحافلة استمرت 13 ساعة، إذ أجبرتهم الحرب التي شنتها إسرائيل على بلدهم تلك السنة على الفرار.
ربما وصلت رياضة كرة السلة في لبنان إلى الحضيض في عام 2013، عندما انهارت التصفيات الوطنية فجأة بعدما أمر وزير الداخلية في البلاد، الذي يبدو أنَّه كان يحاول تعزيز وضع فريقه، بتأجيل مباراة ربع النهائي. فعُلقت عضوية لبنان مؤقتاً من المنافسة الدولية لكرة السلة.
ألقى الجميع باللائمة على السياسيين، بما في ذلك بعض السياسيين أنفسهم. وقتها صرح وزير الشباب والرياضة فيصل كرامي قائلاً: "أنا آسف للغاية لإعلان نهاية كرة السلة اللبنانية، التي أهلكتها السياسة والطائفية"، مضيفاً: "هناك أجواء سياسية قذرة في البلاد دمرت كل شيء".
كان كل ذلك مثيراً لجنون حسن وايتسايد، الذي سيصبح بعدها نجماً لفريق "ميامي هيت"، والذي كان يلعب وقتها في الدوري اللبناني، وغادره على الفور للعب في الصين. منذ ذلك الحين لم يعد لديه سوى أشياء سيئة ليقولها عن لبنان.
بالنظر إلى حجمه (المقارب لحجم ولاية كونيتيكت)، وعدد سكانه (حوالي ستة ملايين)، وسجله في الألعاب الرياضية الأخرى (غير مميز)، يُعتبر لبنان بلداً جيداً في كرة السلة. يتصاعد مستوى فرق الشباب هناك، وفاز منتخبهم الوطني على الصين العام الماضي، رغم فشله في التأهل إلى كأس العالم للعام نفسه.
الطرف الوحيد غير الحزبي في الدوري
يسعد المشجعون وهم يخبرونك بكل شيء عن آخر لاعب لبناني وصل إلى مكانة عالية: روني سيكالي، نجم جامعة سيراكيوز المولود في بيروت، والذي لعب في دوري السلة الأمريكي لأكثر من عقد.
يحلم المسؤولون اللبنانيون بإيصال لبناني آخر إلى الدوري الأمريكي، ويحاول حلبي، رئيس الاتحاد الوطني، عدم تسييس اللعبة وإضفاء الطابع المهني عليها، من خلال إبرام صفقات لبث المباريات وإيجاد رعاة غير سياسيين للفرق.
ويقول إنَّ الاتحاد حقق تقدماً في تطوير فرق الشباب، ورعاية المدربين المحليين، وحظر الشعارات الدينية والسياسية في المباريات، رغم أنَّ الواقع أثبت صعوبة تطبيق ذلك.
أما الطرف الوحيد غير الحزبي في الدوري فربما يكون اللاعبين أنفسهم، وكثير منهم أوروبيون أو أمريكيون يجدون أنفسهم في الحلبة الدولية بعد فشلهم في تنمية مسيرتهم الجامعية عبر الالتحاق بدوري السلة الأمريكي. وبموجب قواعد الاتحاد المصممة لمساعدة اللاعبين اللبنانيين على النمو، يمكن وجود لاعبين أجنبيين فقط مع الفريق داخل الملعب.
يشارك اللاعبون الأجانب واللبنانيون من مختلف الديانات في جميع الفرق، ويجدون مشجعين متحمسين بغض النظر عن خلفيتهم. ويتذكر رايشه الذهاب إلى ملعب نادي الرياضي، حيث كان الجمهور يهتف لمريم العذراء كلما سجل لاعب مسيحي هدفاً.
"مشجعون مجانين!"
ومع المنتخب الوطني، الذي كان لاعبوه يُختارون في وقت ما على أساس دياناتهم، لكنهم يختارون الآن على أساس الجدارة، تمتلئ الملاعب بالأنصار من الطوائف المختلفة، متخطين التقسيمات السياسية.
لكن رغم ذلك، فخارج الألعاب الوطنية، تميل لحظات اللطف إلى أن تكون قصيرة. عند سؤاله عن وصف المشجعين اللبنانيين، كان لدى سلوبودان سوبوتيتش، السلوفيني الذي درب نادي "الرياضي" قبل أن يصبح مدرب المنتخب الوطني اللبناني، ثلاث كلمات: "مجانين! مجانين! مجانين!".
ويضيف سوبوتيتش، الذي لم يعد بإمكانه ممارسة رياضة الجري صباحاً في بيروت دون أن يصادف المعجبين" "لكنني أحب هذا الجو، في بعض الأحيان تحدث أشياء، لكنها ليست خطيرة".
ليس دائماً على أي حال، فهناك سبب لوجود شرطة مكافحة الشغب في المباريات بانتظام.
شهد دانييل فارس، وهو أمريكي من أصل لبناني من نيو مكسيكو، يلعب مع فريق الشانفيل اللبناني، وحصل على جنسية مزدوجة ليلعب مع الفريق الوطني، معارك كافية، بما في ذلك مشاجرة بدأها زملاؤه مع متفرجين متنافسين، تعلم منها أنَّ يتوخى الحذر من الحديث بشكل سيئ عن مشجعي فرق معينة. وقال: "أؤيد فقط من يدفع لي، أنأى بنفسي عن هذا الأمر".
مورست كرة السلة في لبنان منذ أوائل القرن العشرين على الأقل، وانتشرت من الجامعة الأمريكية في بيروت إلى الأندية المحلية.
لكن علاقة اللبنانين بها كانت عابرة حتى منتصف التسعينيات، عندما بدأ رجل الأعمال اللبناني أنطوان شويري في ضخ عشرات الملايين من الدولارات في الدوري اللبناني، مما زاد من أهمية الرياضة وحزبه السياسي المسيحي.
إلى جانب المعارك في المدرجات والأحزان في الملاعب، يمكن لحياة مشجع كرة السلة اللبنانية أن تكون شاقة لسبب آخر: اختفاء وتراجع سخاء الرعاة.
فوفقاً لمسؤولي الاتحاد، يُمكن أن تتضاعف الميزانيات فجأة وقت الانتخابات، فقط لتقع الأندية في الفوضى لاحقاً عندما يقرر الداعمون السياسيون أنَّهم لم يعودوا يتلقون دعماً مفيداً من وراء كرة السلة فينسحبون، كما فعل السيد شويري في النهاية.
وقال توني خليل، اللاعب السابق الذي يشغل الآن منصب أمين عام الاتحاد الوطني: "عندما لا تكون سنة انتخابات فلن تراهم".