بعد نجاح الحملة الصليبية الأولى على العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر الميلادي، وتأسيس ممالك الصليبيين في المشرق، برز على وجه الأحداث العديد من الدول والدويلات والإمارات الإسلامية في هذا العالم الإسلاميّ المفكك، انشغل بعضها على الأغلب بحروبٍ داخلية وصراعاتٍ إسلاميةٍ – إسلامية، لكنّ البعض الآخر حاول جاهداً إخراج الصليبيين من العالم الإسلامي رافعاً راية الجهاد محاولاً ألا يدخل هذا الصراع العجيب بين أمراء وسلاطين العالم الإسلامي الواحد، كان أحد أهم هؤلاء الأمراء: نور الدين زنكي.
صعود نور الدين زنكي في عالم من الصراعات
ترجع أصول السلطان محمود نور الدين زنكي إلى السلاجقة الأتراك، فجده كان في خدمة ملكشاه بن ألب أرسلان -ألب أرسلان هو المؤسس الحقيقي لدولة السلاجقة– وأرسله ملكشاه والياً على حلب، لكن بعد وفاة ملكشاه هاجم أخوه حلب واستولى عليها وقتل جدّ نور الدين زنكي أق سنقر.
بعد وفاة آق سنقر، ذهب ابنه عماد الدين زنكي إلى الموصل، وكان صبياً.
كان لآق سنقر شعبية كبيرة ومكانة لدى التركمان، فحافظ والي الموصل على عماد الدين زنكي، وما لبث زنكي أن دخل في الخدمة، وقد ساعد زنكي السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه في قمع تمردٍ عليه فأعطاه مدينة الموصل، ومنها انطلق عماد الدين زنكي من جديد إلى حلب وما بعدها.
ومن هنا بدأت من جديد عودة آل زنكي لحلب والشام، بدأ عماد الدين زنكي مشواره على جبهتين، الأولى: السيطرة على أكبر قدرٍ ممكن من القلاع والحصون في الشام، والثانية: محاربة الصليبيين ورفع راية الجهاد.
قتل عماد الدين عند قلعة جعبر سنة 541 هـ – 1146 م، وكان معه ولده الثاني نور الدين محمود، فأخذ ختم والده وعاد إلى حلب وسيطر عليها. كان أخوه الأكبر سيف الدين غازي متواجداً نواحي الموصل، فأخذها هي وحمص وما حولهما، وأصبحت بهذا الدولة الزنكية مقسّمة بين نور الدين وأخيه الأكبر، واستمال كلّ واحدٍ منهما أخاً آخر، إذ كان أولاد عماد الدين زنكي أربعة.
وعلى عكس السائد في هذه الفترة من صراع الإخوة على ما في أيديهم من المدن والقلاع والإمارات لم يتصارع الأخوان، وظلّا على علاقةٍ جيدة، بل إنهما تعاونا في الحروب ضد الصليبيين.
الحملة الصليبية الثانية وتوطيد أركان حكمه
بعد نجاح الحملة الصليبية الأولى (1096–1099م) على العالم الإسلامي، تأسست ثلاث ممالك صليبية في المشرق هي: مملكة بيت المقدس، ومملكة الرها، ومملكة أنطاكية.
كانت الحملة الصليبية الأولى بدعوة من البابا أوربانوس، الذي جمع قادة العالم المسيحي ودعى لتدشين حملةٍ صليبيةٍ باتجاه المشرق الإسلامي، وكان من حديث البابا أنه يجب تحويل مشاكل النبلاء وصراعهم على السلطة في أوروبا إلى خدمة الرب بافتتاح أراضٍ جديدة لحكمها في المشرق.
بالطبع آتت هذه الدعوة أكلها جيداً، فقد دشّن الصليبيون حملتهم واستطاعوا تأسيس ثلاث ممالك، استمرت في المشرق الإسلامي قرابة القرنين من الزمان. كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت متشظياً غارقاً في صراعاته الداخلية، ولم يستطع أن يواجه الهجوم الصليبيّ، لكنّ أمراء مثل نور الدين زنكي استطاعوا أن يخوضوا قتالاً دائماً ومتواصلاً مع الصليبيين، واستطاعوا أيضاً أن يهزموهم في العديد من المعارك والمواقع.
بدأ نور الدين محمود في توسعة نشاطاته وبالتالي توسعة رقعة الأرض التي يحكمها، فاستطاع بمهارات دبلوماسية عالية -بالإضافة للقوة العسكرية المتنامية لجيشه- أن يسيطر على دمشق بعدما تزوج ابنة أميرها، كما سيطر على إمارة الرها الصليبية وحرّان وبعلبك انتهاءً بالموصل التي حكمها ابن أخيه بعد وفاة أخيه، لكنّ صراعاً حدث بين الإخوة جعله يتدخل للسيطرة على الوضع وعدم خروج الموصل عن الدولة الزنكية، فأقرّ أحد الولدين على الموصل وجعلها تابعةً له.
فشلت الحملة الصليبية الثانية عام 543 هـ – 1148 م، بعدما حاصرت دمشق أربعة أيام، وخوفاً من مجابهة جيش الدولة الزنكية الذي بدأ التحرُّك لدمشق، ثمّ خوفاً من بعض الانسحابات التي حدثت في جيش الحملة الصليبية الثانية، فشلت الحملة تماماً، واستطاع نور الدين محمود بعد فشلها أن يوسّع رقعة دولته من جديد.
الصراع على مصر مع الصليبيين
بعدما فشلت الحملة الصليبية الثانية، استطاع نور الدين محمود مناوشة وقتال الصليبيين في المشرق، فناوش إمارة أنطاكية واستطاع الانتصار على أميرها بلدوين الثاني وقتله في معركة أنب، وزحف حتى حاز العديد من القلاع والحصون، لكنّ أنطاكية نفسها استعصت عليه، وحارب أيضاً إمارة مملكة بين المقدس التي كان له صراعٌ طويلٌ معها على أرض مصر والشام معاً.
كان يحكم مصر العاضد لدين الله الفاطميّ، وهو آخر الفاطميين، تولّى الحكم وهو في سن التاسعة من عمره، واستبدّ وزيراه بالأمر والحكم من دونه: شاور وضرغام، وبدآ في معركتهما باستمالة كلّ واحدٍ منهما لأحد جيشين كبيرين: جيش نور الدين محمود من حلب، وجيش الملك عموري الأول ملك مملكة القدس.
ظلّت المعارك سجالاً بين شاور ونور الدين محمود من ناحية وضرغام وعموري الأول من ناحية، إلى أن قتل ضرغام، وأصبحت الأمور مستتبةً لشاور، لكنّ شاور لم يكن أفضل حالاً من ضرغام فقد تلاعب بالجيشين معاً، تارةً يناور عموري الأول بجيش نور الدين زنكي، وتارةً يناور نور الدين زنكي بجيش عموري الأول.
في النهاية استتبّ الأمر لجيش نور الدين زنكي بقيادة أسد الدين شيركوه الذي اصطحب معه في جيشه شاباً طموحاً لقّب لاحقاً بـ "صلاح الدين الأيوبي". أصبح أسد الدين شيركوه وزيراً للعاضد بالله الفاطميّ، وبعد وفاته انتقلت الوزارة لصلاح الدين، الذي -وبضغطٍ من نور الدين زنكي- أقام الخطبة للخليفة العباسيّ في بغداد بدلاً من الخليفة الفاطمي الذي توفي بعدها بشهور في سنّ الواحدة والعشرين.
بهذا انتهت الدولة الفاطمية من مصر وانتهى أيضاً نفوذ مملكة بيت المقدس الصليبية في مصر، وتوطد حكم نور الدين محمود، لكنّ خلافاً بينه وبين صلاح الدين سيُخرج مصر من تحت إمرة الزنكيين بعد وفاته لتتأسس بذلك الدولة الأيوبية ومؤسسها صلاح الدين في مصر.
توفي نور الدين زنكي أوائل شوال عام 569هـ – 1174 م، بالذبحة الصدرية، ودفن في بيته بقلعة دمشق، ثمّ نقل جثمانه إلى المدرسة النوريَّة التي أسسها في دمشق. وقد كان نور الدين محمود رجلاً صالحاً، حارب الصليبيين وحلم بتحرير القدس، فقد بنى منبراً عام 563 هـ – 1168م، ليضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره، وقد نُقل هذا المنبر بالفعل للمسجد الأقصى بعدما حررها صلاح الدين الأيوبيّ لاحقاً.
كان نور الدين محمود محباً للعلماء، ومتواضعاً، واعتبر بعض الباحثين والدارسين أنه كان على علاقةٍ وطيدةٍ مع الشيخ عبدالقادر الجيلاني الحنبليّ الصوفيّ، مؤسس الطريقة القادرية، فقد كان الشيخ بوعظه وتربيته لمريديه يحثهم على الجهاد ما جعلهم وقوداً لحروب نور الدين زنكي مع الصليبيين.
ويمكن اعتبار أن جهود نور الدين هي التي مهدت للمسلمين تحرير بيت المقدس من الصليبيين لاحقاً، على يد صلاح الدين الأيوبيّ، رغم الخلاف الذي كان قد بدر بينهما في أواخر حياة نور الدين زنكي.
يقول عنه المؤرخ والإمام ابن عساكر: "بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرّ، ويحمي منهزمهم عند الفرّ، ويتعرّض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة"، وقال عنه ابن كثير أيضاً: "وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس أشجع ولا أثبت منه".