لم يتردَّد المسؤولون الحكوميون الأمريكيون ذوو "الذكاء الإعلامي"، والنشطاء السياسيون، والمشرعون وموظفوهم من جميع الأحزاب السياسية ومن كافة الانتماءات الأيديولوجية، طوال التاريخ الأمريكي، في إغراء الصحفيين المنصفين "غير الحاذقين" لكتابة تقارير "مثيرة" يسرّبون من خلالها معلومة إلى الرأي العام دون أن يَظهروا.
هذه هي الطريقة التي استخدمتها إدارة بوش إلى حد كبير لإقناع الشعب الأمريكي بغزو العراق: تزويد الصحفيين عن عمد بمعلومات زائفة أو غير مدعومة بأدلة حول برامج أسلحة الدمار الشامل (التي ليس لها وجود) في العراق، فينشرها الصحفيون على أنها حقائق دون تدقيقها.
كيف حُبكت قصة العراق أول مرة؟
يقول الباحث الأمريكي في الأمن القومي بِن أرمبروستر، في مقالة نشرها بموقع LobeLog الأمريكي، إنه "ورغم الدروس التي تعلمناها من تلك الكارثة (غزو العراق)، فهي تحدث الآن مرة أخرى في ما يتعلَّق بخطوات إدارة ترامب نحو الحرب مع إيران".
ففي إحدى الحوادث، التي صارت الآن شائنة، خلال الأشهر التي سبقت بدء الحرب على العراق، أجرى ديك تشيني نائب الرئيس آنذاك مقابلة مع برنامج "Meet the Press" على قناة NBC الأمريكية وأطلق تحذيراً حاداً. كان الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين يحاول "من خلال شبكة مشترياته غير المشروعة أن يحصل على المعدات التي يحتاجها لتخصيب اليورانيوم لصنع القنابل.. خاصة أنابيب الألومنيوم".
لكن تشيني حرص على إيضاح أنه لم يُدلِ بهذا التصريح من فراغ (أو أنه يُفشي أسراراً) ولكنه في الواقع أتى بهذا الادعاء من التقارير، حسبما ذكرت صحيفة The New York Times الأمريكية.
كان تقرير The New York Times هو الدافع وراء التصريح الشائن لكونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأمريكي آنذاك: "لا نريد أن تتحول الأدلة الدامغة إلى سحابة هشَّة".
بولتون يعيد نفس السيناريو اليوم مع إيران
يضيف الكاتب أرمبروستر: "علمنا منذ ذلك الحين أن مسؤولي إدارة بوش تعمدوا تسريب القصة إلى جوديث ميلر، المراسلة السابقة لصحيفة The New York Times الأمريكية في العراق إبان الغزو -التي شاركت في كتابة السبق الصحفي الذي احتل الصفحة الأولى مع زميلها مايكل غوردن- لحبك قصة أن صدام كان يصنع قنابل نووية. ثم عدلت الصحيفة بعد ذلك عن التقرير، قائلة إن هناك بعض الخلافات الداخلية حول الغرض من الأنابيب (وفي الحقيقة، تبين أن الأنابيب لم تصنع بغرض صنع أسلحة نووية).
لقد رأينا مسرحية مثيرة مماثلة هذا الأسبوع، وإن كانت على نطاق أقل، بعد أن أدلى جون بولتون مستشار الأمن القومي لدونالد ترامب بتصريح غير عادي مساء الأحد الماضي 5 مايو/أيار معلناً أن الولايات المتحدة سترسل حاملة طائرات وقاذفات قنابل إلى الشرق الأوسط لمواجهة تهديدات إيرانية غير مُحدَّدة.
وبدلاً من التشكيك في هذا التصريح من شخص لطالما كان يحرض على الحرب مع إيران منذ ما يقرب من عقدين، ومن إدارة كانت تفعل الشيء نفسه طوال العامين ونصف الماضيين، كانت تقارير معظم الوسائل الإعلامية الأمريكية تؤدي بشكل أساسي دور "إدارة علاقات عامة"، إذ كانت تنقل تصريح بولتون فقط مع القليل من التدقيق عبر وسائل متعددة. فمثلاً كان العنوان الرئيسي على موقع شبكة CNN الأمريكية في اليوم التالي: "الولايات المتحدة تنشر حاملة طائرات وقاذفات قنابل رداً على تصرفات إيران "المثيرة للقلق".
ونقلت حرفياً في جزء كبير من متن التقرير مزاعم الإدارة حول التهديد الإيراني المزعوم. ولم يوضح التقرير إلا في الفقرة 24 أن عمليات النشر هذه "روتينية" وأن حاملة الطائرات المشار إليها، وهي قوة حاملة الطائرات "لينكولن"، قد نُشِرت بالفعل في "منطقة القيادة المركزية"، حسبما ذكر بولتون في بيانه.
وإذا كانت قوة لينكولن قد نُشِرت بالفعل، فهل كان بولتون، الذي أعلن قبل ذلك أنه يريد الحرب مع إيران، يستغل هذا الحدث الروتيني لدفع إيران إلى نوع من الصراع؟ ولكن CNN لم تطرح مثل هذه الأسئلة.
وماذا أيضاً عن المعلومات الاستخباراتية نفسها. هل هي دقيقة؟ وهل كان جون بولتون -الذي يمتلئ تاريخه الموثق بالتلاعب بالمعلومات الاستخباراتية حسب أهوائه السياسية- يتلاعب بالحقائق بِطَيش؟
معلومات خاطئة وفادحة قد تشعل حرباً
وفي هذه القضية أيضاً ينقل الصحفيون الأمريكيون حرفياً مزاعم إدارة ترامب حول التهديد الإيراني المثير للقلق. فمثلاً غردت باربرا ستار، الصحفية لدى CNN، على موقع تويتر، في اليوم التالي: "ورد للتو: أخبرني مسؤولون أمريكيون بأن التهديدات الإيرانية وفقاً لمعلومات استخباراتية (محددة وموثوقة) تتضمن استهداف القوات الإيرانية وحلفاؤها القوات الأمريكية بسوريا والعراق وفي البحر. وأضاف المسؤولون أن هناك كثيراً من المعلومات الاستخباراتية بشأن مواقع متعددة".
وتبين أن هذه المعلومات خاطئة أو على الأقل مضللة. فقد ذكرت تقارير إخبارية فيما بعد، أن المعلومات الاستخباراتية التي كان بولتون يعمل بموجبها "غير واضحة".
ونقلت تقارير أخرى عن مسؤولين أمريكيين -لم تذكر أسماءهم- قولهم إن هناك "تحضيراتٍ محتملة" تشير إلى "شن هجمات محتملة"، وإن الولايات المتحدة "لا تتوقع أي هجوم إيراني وشيك". ولذا بعبارة أخرى، ليس هناك أي تحرُّك ملموس أو محدَّد أو خطر يدعو إلى تسليط الضوء على إرسال قوة حاملة طائرات بأكملها وقاذفات بي-52 إلى الشرق الأوسط.
وفي وقت لاحق من هذا الأسبوع، خُدعت ستار مرة أخرى (مثل كثير من الصحفيين الآخرين) قائلةً استناداً إلى مصادر مجهولة: "إن المعلومات الاستخباراتية التي أشارت إلى أن إيران من المرجح أن ترسل صواريخ باليستية قصيرة المدى على متن قوارب في الخليج، كانت ضمن الأسباب الرئيسة التي جعلت الولايات المتحدة تقرر إرسال قوة حاملة الطائرات وقاذفات بي-52 إلى المنطقة". لكن NBC أصدرت تقريراً في وقت لاحق، قلل من أهمية هذا الادعاء، موضحاً أن مسؤولين أمريكيين "اتهموا إيران بنقل صواريخ ومكوناتها عبر الممرات المائية في المنطقة منذ سنوات".
ورغم ذلك، كان تقرير NBC أيضاً معيباً، بسبب نقل مزاعم دون تدقيقها، لمسؤولين لم يكشف عن هوياتهم، بشأن معلومات استخباراتية عن إيران، مؤكداً أن السبب الفعلي للحشد العسكري الأمريكي في المنطقة كان بسبب "دعوة (من قادة إيران) لاستنهاض وتنشيط" الحلفاء الإيرانيين في العراق.
تهديدات مبالَغ فيها.. وسائل الإعلام تبتلع الطُّعم
لكن ما معنى هذا؟ هل هذا النوع من "التهديد" يستلزم مثل هذا الرد العسكري الضخم؟ أوليس من الممكن أن تكون الحملة التي سُميت "الحد الأقصى من الضغط" والتي أطلقتها إدارة ترامب ضد إيران، واستثارة التهديدات (مثل تصنيف الحرس الثوري الإيراني جماعة إرهابية)- ربما تسببت في أن يتأهب الإيرانيون إلى الحالة القصوى؟
وورد في نهاية تقرير NBC تصريح لمصدر ديمقراطي في الكونغرس اطلع على المعلومات الاستخباراتية نفسها، قائلاً إن ردَّ فعل ترامب وبولتون على الأمر "يبدو غير متكافئ إلى حد بعيد". ولذا كنا نعتقد أن الصحفي سيستنتج من تلقاء نفسه/نفسها أن التهديد كان مُبالَغاً فيه بسؤال: (هل تتسبب دعوة إلى الحلفاء حقاً في مثل هذا الرد العسكري الضخم؟!).
وهذا بالضبط ما وُصِفَت به هذه المعلومات الاستخباراتية: مُبالَغ فيها. فقد نقلت صحيفة The Daily Beast الأمريكية هذا الأسبوع، عن "مصادر متنوعة مطلعة على الوضع" قولها إن بولتون وفريق ترامب كشفوا المعلومات الاستخباراتية عن إيران "بلا تناسُب، وبالغوا في وصف التهديد بأكثر مما هو عليه في الواقع".
إلا أنه لسوء الحظ حدث الضرر بالفعل. فقد تناقل الصحفيون غير الحاذقين والبرامج الإخبارية التلفزيونية مزاعم إدارة ترامب حول هذا التهديد الإيراني المزعوم، على نطاق واسع. وعلى أي حال، فقد كان هذا هو الهدف، إذ أدرك بولتون ومساعدوه أن وسائل الإعلام ستبتلع الطُّعم عدة أيام (الحديث عن الحرب والصراع في نهاية الأمر)، وأنه بحلول الوقت الذي تُكشَف فيه الحقيقة، فإن الرواية حول التهديدات الإيرانية الشنيعة الوخيمة -التي استقرت بالفعل داخل الوجدان الأمريكي على أي حال- ستتمثل في القول الذي يُنسب بالخطأ دائماً إلى وينستون تشرشل أو مارك توين "يمكن أن تصل الكذبة إلى منتصف الأرض، في حين لا تزال الحقيقة ترتدي حذاءها استعداداً للانطلاق".