كنا نعلل أنفسنا بأنه أمر طارئ وسيستمر عدة أسابيع وتنقضي المحنة ولا يبقى إلا شبح الذكريات، بيد أن الأمور لم تجرِ حسب المتوقع، استمرت إلى يومنا هذا! عن أي شيء أحكي؟! عن الحرب، حرب اليمن. بدأ الأمر باتصال هاتفي من صديقتي في الرابعة فجراً، بدأت حديثها قائلةً: ولاء.. هل تسمعين أصوات رصاص وقذائف؟!
– نعم، يبدو أن المتخاصمين على قطعة الأرض المجاورة لمنزلنا، عادوا للاقتتال عليها. رددت وغفوت قليلاً.
– ردَّت عليّ بحزم: أي قطعة أرض؟! – إنها الحرب، دول التحالف تقصفنا.
استيقظت من النوم وأنا خالية من أي شعور، لا فزع ولا ترقب ولا خوف، مررت على غرف البيت واطمأننت على إخوتي وأشعلت ضوء الغرفة ورددت: "سأكمل مذاكرتي"، الاختبار اقترب موعده.
هكذا كانت البداية، وظللت أعيش رعب الحرب شهراً كاملاً، الكثير ممن حولنا تهدمت أجزاء من منازلهم وهرعوا إلينا، بيتنا كان منيعاً وقوي الأساس لم يتأثر باهتزازات الأرض الناجمة عن القذائف. لم أذهب للجامعة، لم أرَ الطريق، لم أعرف شيئاً في تلك الفترة غير أنباء القتلى، كان الأمر مأساوياً، لم أنم ذلك الشهر سوى سويعات غلبني فيها النعاس، كنت أردد: "لن نتركها، هي أرضنا ليست فندقاً نتركه عندما تسوء الخدمة!". الأمور كانت من سيئ إلى أسوأ، واضطررنا إلى الهروب، جمعنا أهالينا ودعوناهم للغداء.
كانت المرة الأخيرة التي نراهم فيها، كان ندَّعي ونمثل أننا فرحون بذلك الاجتماع، ولكن الأعين كانت تثبت أننا نمثل، لم أُطِل النظر في عين أحد منهم، حرصت على توديع الجميع لآخر نقطة بإمكاني أن أفارقهم فيها، خاطرت للخروج بالسيارة ذلك اليوم حتى أوصلهم. لم أنم، قمت بتنظيف المنزل وترتيبه ورفع الزجاجيات، أمي رددت: "نامي ورانا سفر"، لم أعبأ بكلام أحد، ظللت أرتب كل زاوية في البيت، وأجريت اتصالاً هاتفياً، أخبرت صديقتي بسفري، وقلت لها: "كلها أسبوع ونرجع". الأسبوع تحول إلى شهر، الشهر طال إلى سنة، السنة أصبحت ثلاث سنوات!
المطار قصفته الطائرات، كان السفر براً، وهنا أدركت الحقيقة، حقيقة أن لا أرض تشبه أرضك ولا بيت يشبه بيتك ولا أهل يعوضونك عن أهلك، وصلنا للحدود اليمنية-السعودية، انتظرنا طويلاً هناك من الخامسة فجراً إلى الحادية عشرة صباحاً، الجهة التي كانت تعرقل المعاملة هي الجهة اليمنية، يحاولون ابتزاز الفارِّين ويطلبون مبالغ كبيرة لختم الجوازات، عندها أدركت أن: العدوان والحرب هما في الداخل والعدوان الخارجي ليس إلا نتيجة، لا يمكن أن يتم عدوان خارجي إلا بتمكين داخلي.
ساعات معدودة جعلتني أحس بمعاناة اللاجئ الذي يفر من الموت إلى المجهول، تلك اللحظة ما زالت عالقة في ذهني، كنت واقعة بين الخيال والحقيقة، بين الاعتراف والإنكار، وكانت الولادة الحقيقية، ليست الولادة البيولوجية. يولد المرء عند تلك اللحظة التي تهوي به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق، وعندها اعتقدت أن كل شيء انتهى وسأبقى رهينة اللحظة، لم تكن النهاية؛ بل كانت البداية. أخبرت إخوتي ونحن عالقون على الحدود: "البلد هذه ما عاد فيها خير لنا، إما نقوم على نفسنا ونتعلم ونرجع لها إحنا بالخير، ولا بنجلس متشردين زي الآن". لم أعلم حينها من أين أتيتُ بتلك الكلمات، بدا الأمر أنه خسارة الأوطان وبداية الخذلان. ولكن، ما قد يبدو لك خسارة قد يكون هو بالتحديد الشيء الذي سيصبح فيما بعد مسؤولاً عن إتمام أعظم إنجازات حياتك. لم أجتهد في دراستي كما فعلت بعد الحرب، لم ألتزم بصلواتي -سواء النوافل أو الفروض- كما فعلت بعد الحرب، لم أمعن النظر في أي شيء أفعله كما فعلت بعد الحرب. كنت بلا خطط وبلا هدى، راكنة إلى الأمان اللحظي الذي كنت أعيشه. أما وبعد أن أدركت أن لا شيء يبقى إلا ما تسعى لبقائه.
سعيت وأصبحت أرددها مراراً: "بلدك تستنى، دِينك يحتاجك". نعم، الحرب لعينة، لا يمكن قول شيء جيد عنها، ومع ذلك لديها قدرة غير طبيعية -لم يتعلمها السلام قط- على كشف العظمة في الأشخاص العاديين. الشاهد فيما كتبته، أن الألم ثمرة، والله لا يضع الثمار على غصن خفيف لا يقوى على حملها، ألمُ فقد الأهل والوطن يجعلك تستنفر وتشعر بأنك قادر، قوي، لن تستلم أبداً لسياسات الحكام البائسة، لن تجعل من نفسك الضحية الذي يكتفي بتمتمة أدعية الحسرة ويستمر في إلقاء اللوم. تدرك أنك مسؤول، تنفض عنك غبار الزيف الذي يوهمك بأن كل شيء على ما يرام وتنهض لتشق طريقك وحيداً، مستأنساً بالله فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.