ضربت واحدة من أعتى العواصف التي لم تهب منذ سنوات ولاية أوديشا التي تعد واحدة من أفقر الولايات الهندية حيث يعيش ملايين الناس متجاورين في منطقة ساحلية منبسطة في أكواخ من القش والطين.
لكن السلطات الحكومية في أوديشا، على طول الجهة الشرقية للهند، لم تقف ساكنة. ولتحذير الناس من العاصفة القادمة، استخدمت كل ما لديها: 2.6 مليون رسالة نصية، و43 ألف متطوع، وما يقرب من ألف عامل من عمال الطوارئ، والإعلانات التليفزيونية، وصفارات الإنذار الساحلية، والحافلات، وضباط الشرطة، والمكبرات الصوتية التي ظلت تردد الرسالة نفسها باستمرار، باللغة المحلية، وبعبارات شديدة الوضوح: "الإعصار قادم. اذهبوا إلى الملاجئ"، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
كيف نجحت الطريقة
وعلى ما يبدو أنها نجحت إلى حد كبير. إذ اجتاح الإعصار فاني مدينة أوديشا صباح يوم الجمعة 3 مايو/أيار بقوة هائلة، وكان مصحوباً برياح بلغت سرعتها نحو 193 كيلومتراً في الساعة. واُقتلعت الأشجار من الأرض وتحطمت العديد من الأكواخ الساحلية. وكان من الممكن أن يتحول إلى كارثة.
ولكن في صباح اليوم السبت، تبين أنه لم تسقط أعداد كبيرة من الضحايا. وفي حين أن حجم الدمار الكلي لم يتضح بعد، لم يُبلَّغ إلا عن عدد قليل من الوفيات، فيما بدا علامة على نجاح إجراءات الإنذار المبكر.
وبدا أن هؤلاء المواطنين الأضعف والأفقر تمكنوا من النجاة بحياتهم.
يقول الخبراء إن هذا إنجاز رائع، خاصة في ولاية فقيرة في بلد نامٍ، وهو نتاج خطة إخلاء دقيقة نقلت فيها السلطات، التي تعلمت من كوارث سابقة، مليون شخص إلى مكان آمن، بسرعة كبيرة.
وقال أبهيجيت سينغ، وهو ضابط بحري سابق ورئيس مبادرة السياسة البحرية في مؤسسة أوبزرفر البحثية: "قليلون فقط توقعوا هذا النوع من الكفاءة التنظيمية. إنه نجاح كبير".
وضربت العاصفة أيضاً بنغلاديش المجاورة، ولكنها تفادت سقوط أعداد كبيرة من الضحايا أيضاً عن طريق إجلاء أكثر من مليون شخص إلى الملاجئ.
هذا ما حدث بعد 20 عاماً
ويختلف هذا الحال كلياً عمّا كان عليه قبل 20 عاماً، عندما ضرب إعصار مخيف هذه المنطقة نفسها وأباد قرى بأكملها وتسبب في مقتل الآلاف، وداهم الكثيرين وهم لا يزالون في منازلهم. وعُثر على بعض الجثث مُلقاة على بعد أميال من الأماكن التي عاش أصحابها فيها، بعد أن جرفتها الأمواج العاتية بعيداً.
بعد ذلك، تعهدت سلطات أوديشا بألا تهزمها كارثة كهذه مجدداً.
وقال بيشنوبادا سيثي، مفوض الإغاثة الخاص في الولاية، الذي كان يشرف على العملية: "إننا ملتزمون جدياً بذلك. يجب ألا يكون هناك أي خسائر في الأرواح. وليس هذا نتاج عمل يوم أو شهر بل 20 عاماً".
وكانت إحدى الخطوات الأولى التي اتخذتها السلطات بعد كارثة عام 1999 بناء مئات الملاجئ للاحتماء من الأعاصير على طول الساحل. وشُيّدت الملاجئ على بعد أميال قليلة من شاطئ البحر.
وهي ليست تحفة معمارية، ولكنها عبارة عن مبنى أسمنتي مستطيل الشكل مكون من طابقين يكسوه طلاء متقشر ويعتمد على ركائز تشبه سرطانات البحر. لكن الهياكل، التي صممها أعضاء هيئة التدريس في واحدة من أكبر الجامعات الهندية، I.I.T. Kharagpur، أثبتت صمودها في وجه العواصف، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وكانت السلطات الهندية، خلال الأسبوع الماضي، حتى عندما كان فاني على بعد مئات الأميال، تراقب الوضع عن كثب. إذ رصدت أولاً دوامة كبيرة على شاشات رادار الأرصاد الجوية تنطلق من خط الاستواء، في أعماق المحيط بين سريلانكا وإندونيسيا.
ولم تكن قد تحولت لإعصار بعد، بل ما يدعوه خبراء الأرصاد بالمنخفض الجوي العميق، وهو عبارة عن عاصفة متنامية ذات ضغط منخفض تمتص الهواء الدافئ. وفيما تنطلق العاصفة على طول المياه الدافئة، مثل تلك الموجودة في خليج البنغال، تزداد قوتها.
إعصار جديد اقترب
وبحلول منتصف الأسبوع، تحول فاني إلى إعصار. وتنبأ خبراء الأرصاد الجوية بمساره بدقة. وقالوا منذ أيام إنه سيتجه مباشرة إلى خليج البنغال وسيضرب أوديشا.
يبلغ عدد سكان ولاية أوديشا حوالي 46 مليون نسمة، أي حوالي عدد سكان إسبانيا، لكنها أفقر بكثير. إذ يبلغ متوسط الدخل فيها أقل من 5 دولارات في اليوم. ويعمل أغلب سكانها في الزراعة.
على طول الساحل، يعمل العديد من الرجال على قوارب الصيد الخشبية. ومع اقتراب فاني، صدرت الأوامر بإبقاء قواربهم على اليابسة.
في صباح يوم الخميس 2 مايو/أيار، أصدر المسؤولين في حكومة أوديشا خطة عمل من خمس صفحات. وبدا أنهم لم ينسوا شيئاً. وكان الجزء الأهم هو نقل الناس إلى الملاجئ. ولأن أوديشا تعرضت للعديد من العواصف القاتلة، قال ضباط الطوارئ بالولاية إنهم راجعوا خطط الإجلاء عدة مرات، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وصدرت الأوامر لجميع أفراد الطوارئ بتوزيع أنفسهم على مراكز العمليات. ووضع الموظفون الحكوميون قوائم بأسماء الأشخاص الذين يقطنون منازل معرضة للخطر، ولا سيما كبار السن والأطفال.
ونصحت السياح المقيمين في الفنادق الساحلية بالمغادرة وجهزت كمية هائلة من المعدات للتعامل مع آثار العاصفة، تشمل 300 زورق آلي وطائرتين مروحيتين والعديد من المناشير الجنزيرية لقطع الأشجار المتهاوية.
وفي الوقت نفسه، نقلت الشاحنات طرود الأغذية وزجاجات المياه إلى الملاجئ.
وفيما تحولت مياه البحر إلى زبد ظهر يوم الخميس وبدأ المطر في الهطول، ارتفعت أصوات مكبرات الصوت تهيب بالناس الذهاب إلى أقرب ملجأ في أسرع وقت ممكن.
إجراءات لحماية السكان
ولكن في بعض المناطق، لم يكن هناك خيار. إذ رافق ضباط الشرطة عمال الطوارئ الذين كانوا يتنقلون عبر البلدات الساحلية، ليحثوا الناس على المغادرة. وزأرت محركات الحافلات المكدسة وهي تسير على الطرق المحيطة بقرية بوري، وهي بلدة ساحلية كان يُتوقع أن يضربها الإعصار. وكان كل ملجأ يتسع لعدة مئات من الناس. وقد امتلأت كلها عن آخرها سريعاً.
وقال سباكالي ماسون، وهو رجل في الخمسينات من عمره، احتمى بأحد الملاجئ مع زوجته: "لقد انتقلنا إلى هنا لأنه آمن. كان من الممكن أن ينهار منزلنا".
وبحلول ليلة الخميس، كانت معظم الملاجئ تعج بالبشر، إذ كانت مليئة بالرجال والنساء والأطفال الحائرين قليلاً. وانضم إليهم بعض الناس؛ فيما أقلت الحافلات الحكومية المجانية آخرين. وافترشت العائلات الأرض، وأخذت تتناول الطعام معاً، فيما تنصت إلى رياح فاني التي تهب بسرعة كبيرة.
وحوالي الساعة التاسعة صباح يوم الجمعة، اندفع فاني إلى اليابسة، إلى المنطقة القريبة من بوري، مثلما كان متوقعاً. في بوبانسوار، عاصمة ولاية أوديشا، على بعد حوالي 64 كم إلى الشمال، اقتلعت الرياح فروع بعض الأشجار الضخمة تحت الأمطار الغزيرة. ولم يغامر أحد بالخروج.
في بوري، حطمت الرياح تقريباً كل الأكشاك التي تصطف على جانب الطريق. وقال المسؤولون إن سرعة الرياح بلغت نحو 161 كم/الساعة على الأقل. وقالوا إنهم لن يتمكنوا أبداً من معرفة سرعتها بالضبط لأن الرياح حطمت الآلة التي تقيس سرعة الرياح.
أكثر من 100 إصابة
وقالت سلطات أوديشا إن أكثر من 100 شخص أصيبوا. وذكرت وسائل الإعلام الهندية أن العديد من الأشخاص لقوا حتفهم، ومنهم من قُتل جراء الحطام المتطاير.
وفقد الكثير من الناس مصدر رزقهم، وإن لم يفقدوا أرواحهم.
وقال بيهرا، وهو صاحب كشك شاي محطم في بوبانسوار: "الطبيعة تسرف في عقاب الفقراء وتُبقي على الأثرياء. ماذا بإمكاني أن أفعل؟ إنني عاجز. سأعيد بناء حياتي مرة أخرى خطوة بخطوة".
ولكن فيما هدأت العاصفة، لم يكن هناك أدنى شك في أن المستوى العالي من الاستعداد أنقذ الأرواح.
وقال سينغ، الضابط البحري السابق: "لا تتصرف الحكومة بصورة جيدة عادة في مثل هذه الحالات، لكن التعبئة الشاملة كانت رائعة للغاية. إن إجلاء مليون شخص في ثلاثة أو أربعة أيام وتزويدهم ليس فقط بالمأوى ولكن أيضاً بالطعام يعد إنجازاً كبيراً في مثل هذا الوقت القصير".
وقال كريشان كومار، وهو موظف في حكومة أوديشا بمنطقة خوردا، إن نجاح الحكومة يعكس الحكمة التي تراكمت على مر السنين.
وقال "كل إعصار صغير أو تسونامي يعلمك كيفية التعامل مع الأكبر منها. وإذا لم تتعلم من التجارب السابقة، فستفشل".