قبل 3 أعوام كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تراهن بمستقبلها السياسي عندما اعتمدت سياسة الباب المفتوح مع اللاجئين من المناطق المشتعلة مثل سوريا، وها هي الآن تجني ثمار هذه التجربة بعد انخراط عدد كبير من اللاجئين في شركات صناعية كبرى في ألمانيا.
ومن بين اللاجئين الذين دخلوا ألمانيا بسبب هذه السياسة الشاب محمد قاسم الذي كان يعمل في بلده بسوريا كهربائياً، ولكن لأنه تعلَّم هذه الحرفة خارج الإطار الرسمي، فقد كانت تنقصه أوراق الاعتماد لممارستها.
وبحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية، فإنه الآن، في وطنه الجديد، يتلقى قاسم (30 عاماً) التدريب الذي لم يحصل عليه أبداً، وهو يتقاضى راتباً مقابل ذلك من شركة وعدته بوظيفة يمكن أن ترفعه من لاجئ كادح إلى أحد أفراد الطبقة الوسطى الألمانية.
لم يكن البرنامج الذي يساعد عشرات الآلاف من اللاجئين مصمماً خصيصاً للوافدين الجدد الذين اتفقوا على اللجوء لألمانيا هرباً من الحرب والقمع والفقر.
كلمة السر في نظام التدريب المهني
ولكن نظام التدريب المهني في ألمانيا يمثل إحدى ركائز الاقتصاد، وتعود جذوره إلى العصور الوسطى، ولكن مع وصول معدل البطالة الوطني إلى أدنى نسبة منذ 30 عاماً، فقدَ الشباب الألمان رغبتهم في التدريب المهني، وتواجه الشركات نقصاً في العمال المهرة، مما قد يُعرقل نموها في النهاية.
وقال غونتر هيرث، وهو خبير اقتصادي في الغرفة التجارية في مدينة هانوفر بوسط ألمانيا: "لدينا أسباب قوية -وليس مجرد أسباب واهية تتعلق بالمشاعر- لمساعدة اللاجئين ودفعهم إلى التدريب المهني.. الاقتصاد الألماني يحتاج إلى عمال مؤهلين".
وتتوقف إمكانية عثور الاقتصاد على هؤلاء العمال بين اللاجئين على إجابة اثنين من أصعب الأسئلة التي تؤرق البلاد: هل يمكن أن تنجح ألمانيا في دمج الأعداد الهائلة من طالبي اللجوء إليها؟ وهل يمكن لاقتصادها أن يستمر في الانكماش مع تقدُّم سكانها الأصليين في العمر؟ بحسب الصحيفة الأمريكية.
في كلا الأمرين، كانت المؤشرات المبكرة واعدة، وإن لم تكن حاسمة.
ميركل تجني ثمار سياستها
بعد حوالي أربع سنوات من قرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بفتح حدود البلاد أمام التدفق الهائل لطالبي اللجوء إلى أوروبا، ظل السواد الأعظم من حوالي 1.5 مليون شخص وصلوا منذ ذلك الحين خارج القوى العاملة، وكان الكثير منهم يحضرون دورات الاندماج واللغة المطلوبة، وسُجل حوالي 200 ألف شخص عاطلين عن العمل، بحسب الصحيفة الأمريكية.
لكن بعد إنفاق المليارات لاستيعاب القادمين الجدد، بدأت ألمانيا تجني بعض المكاسب؛ إذ ارتفعت أعداد الذين يعملون أو يشاركون في برنامج التدريب على العمل، ووصل عددهم إلى أكثر من 400 ألف بنهاية عام 2018. ومن بين هؤلاء، سجل 44 ألف شخص في التدريب المهني، وفقاً للشركات الألمانية.
ويتوافق ذلك مع ما توقعه العديد من الخبراء بل ويفوقه قليلاً.
وقال هيرث، الذي استشهد بنموذج دمج اللاجئين من يوغوسلافيا سابقاً في التسعينيات: "لدينا معيار نحدد به كيفية تطويره، وبعد ثلاث سنوات ونصف، نحن على المسار الصحيح". وقال إنه في هذه الحالة، سيتمكن حوالي 80% من الراشدين الذين بلغوا سن العمل من الحصول على وظائف بعد ثماني سنوات.
وقال هيرث إن الجيل الحالي من اللاجئين يستفيد من حقيقة أن ألمانيا تتمتع بـ "بيئة اقتصادية مثالية"، حيث يقل معدل البطالة عن 5%.
وفي الوقت نفسه تستفيد ألمانيا من التركيبة الديموغرافية للوافدين الجدد، إذ كان حوالي 60% منهم في عُمر الـ 25 عاماً أو أقل.
وقال: "لم يكن كبار السن هم مَن فرّوا، بل الشباب، وهذا رائع بالنسبة لنا".
ومع تقلُّص عدد السكان الألمان الأصليين، فإن ألمانيا بحاجة ماسة إلى هؤلاء الشباب.
وقال وولفغانغ كاشوبا، المدير السابق لمعهد برلين للاندماج التجريبي وأبحاث الهجرة: "إذا أراد الألمان الحفاظ على رخاء اقتصادهم، فإننا نحتاج إلى حوالي نصف مليون مهاجر سنوياً. إذ إننا بحاجة إلى ضمان بقاء مجتمعنا شاباً، لأنه يتقدم في السن بصورة كبيرة".
معوقات أمام اللاجئين
ولم يكن إدخال الوافدين الجدد إلى القوى العاملة أمراً سهلاً؛ إذ كان السواد الأعظم منهم لا يتحدثون الألمانية -وهي لغة تشتهر بصعوبتها- ولا يتمتعون بالمهارات اللازمة التي تسعى إليها الشركات الألمانية.
وكان الكثيرون من العاملين منهم يعملون في وظائف منخفضة الأجر في المطاعم أو في المستودعات أو في الوظائف المؤقتة، أي يعملون عند الطلب، بحسب الصحيفة الأمريكية.
ويحاول سيغمار والبريشت، الذي يدير مشاريع دمج القوى العاملة في مجلس هانوفر للاجئين، إقناع اللاجئين الذين يقابلهم بأنه من الأفضل لهم التدرب على وظيفة تتطلب مهارات أعلى، حتى لو كان أجرها أقل في الوقت الحالي، لكن جاذبية الراتب السريع قوية.
وقال: "إنهم يعانون ضغوطاً؛ إذ يتعين عليهم إرسال الأموال لعائلاتهم في الوطن، وربما لمهربيهم وهم يريدون الحصول على شقق خاصة بهم. من الصعب أن نوضح لهم أنه من الأفضل لهم على المدى الطويل أن يلتحقوا بالتدريب المهني".
وتمتد جذور نظام التدريب المهني الألماني إلى العصور الوسطى ويعتبر نموذجاً عالمياً، ويقسّم المتدربون وقتهم بين المدرسة المهنية والتدريب العملي، وغالباً ما يقضون ثلاث سنوات أو أكثر وهم يتدربون على مهنتهم، وهناك شركة تمولهم وترعاهم وتستثمر في مهاراتهم وتوظفهم عادةً فور انتهاء برنامج التدريب.
خريجون بالآلاف سنوياً
يتخرج في البرنامج كل عام مئات الآلاف من الحرفيين البارعين وغيرهم من المحترفين الذين اجتازوا اختبارات صارمة تديرها الدولة. ويقول الخبراء إن النظام، ومعاييره الصارمة، كان عاملاً رئيسياً في جعل ألمانيا قوة صناعية.
لكن العديد من الشباب الألمان يفضلون تجنب هذا المسار التقليدي لحياة الطبقة الوسطى ويفضلون مسار الشهادات الجامعية. في العام الماضي، قالت ثلث الشركات الألمانية إن لديها وظائف تدريب لم يشغلها أحد فيما بلغت الوظائف الشاغرة أعلى مستوى لها منذ 20 عاماً، بحسب الصحيفة الأمريكية.
قالت ميلاني فليج، التي تشرف على تدريب كلاريوس Clarios، وهي إحدى أكبر الشركات المصنعة لبطاريات السيارات في العالم.: "إنها حرب على المواهب. الكل يريد الذهاب إلى الجامعة وجني الكثير من المال. لا أحد يريد أن يعمل في المهن الحرفية".
لكن آلان رمضان يفعل، إذ يأتي اللاجئ السوري البالغ من العمر 32 عاماً الساعة 6:45 صباح كل يوم إلى منشأة الإنتاج الفسيحة الخاصة بالشركة في هانوفر. ويتعلم طرق اللحام والحفر.
يقول رمضان الذي فر من الحرب في سوريا: "في وطني، كنت أحب إصلاح الأشياء بنفسي. كانت هواية بالنسبة لي. وقلت في نفسي: لم لا أجعلها وظيفتي؟".
وقد أظهر آلان موهبة كبيرة جعلتهم يضعونه في برنامج يتضمن عدة سنوات إضافية من التدريب، ومكافأة أعلى عندما ينتهي.
وقالت ميلاني: "من لاجئ إلى مهندس ألماني. هذا هو الهدف".
ويعترف رمضان، الذي يعمل متطوعاً في مطافئ هانوفر في الوقت الذي لا يكون فيه منشغلاً بتحسين مهارته في إحدى اللغات الخمس التي يجيدها أو بتعليم نفسه الرياضيات أو الفيزياء عبر الإنترنت، بأنه يتميز عن بقية اللاجئين. فعدم إتقان اللغة الألمانية يمنع الكثيرين من التأهل للتدريب المهني.
وتعلم الألمانية العامية ليس كافياً، بل يلزم تعلُّم المفردات الألمانية التقنية الخاصة بمجال العمل.
وقال: "هم يريدون الالتحاق بالبرنامج. لكن اللغة غاية في الصعوبة".
القلق من الترحيل
ومن بين العوامل الأخرى التي تقلل معدلات المشاركة احتمالية تعرض طالب اللجوء للترحيل. ولا ترغب الكثير من الشركات في الاستثمار في عامل قد يُرفض طلب اللجوء الذي قدمه.
ولكن الحكومة الألمانية بذلت بعض الجهود لتخفيف هذا القلق، وابتكرت ما يُعرف بقاعدة "3+2": أي يمكن لطالبي اللجوء المرفوضين الاستمرار في التدريب لمدة ثلاث سنوات والعمل لمدة سنتين على الأقل دون الخوف من الترحيل. وبعدها يمكن للكفاءة العالية وسجل العمل أن يمنحا طالب اللجوء ميزة عند إعادة تقديمه الطلب للبقاء، بحسب الصحيفة الأمريكية.
يأمل شيراز شودري (19 عاماً) الذي التحق بمدرسة فنية في ضاحية غاربسن في هانوفر، أن يكون نجاحه في التدريب على مهنة الكهربائي كافياً لإبقائه في ألمانيا. ومن المؤكد أن خدماته مطلوبة، إذ إن البلاد تعاني نقصاً حاداً في الفنيين الكهربائيين لدرجة أن الزبائن قد ينتظرون أسابيع ليجدوا واحداً.
في السنوات الأربع التي انقضت منذ وصوله من مسقط رأسه باكستان، تعلم شودري التحدث بالألمانية بطلاقة، واتخذ أصدقاء ألمانيين، وإلى جانب زميله قاسم، كان تلميذاً نابغاً بالنسبة لمدربه الكهربائي الألماني.
إذ قال هارالد كون (59 عاماً) الذي عمل كهربائياً في جميع أنحاء أوروبا، بعد أن تخرج في برنامج تدريب مهني ألماني منذ عقود: "لقد لاحظت لهفتهما للمعرفة. وفي هذه المهن، هذا ما نحتاجه بالضبط".