جلس صبيٌّ أفغاني، يبلغ من العمر قرابة الثماني سنوات، على مقصورة إحدى الشاحنات صائحاً بأعلى صوته: "هيا يا جون سينا، هيا، اضربه، ليتني أستطيع تحمُّل كل ألمك بدلاً منك".
لكنَّه لم يكن يتحدث عن المصارع الأمريكي المحترف، إذ إنَّ جون سينا هو كلبٌ أجرب من سلالة الراعي الألماني (جيرمان شيبرد)، وكان رأسه في تلك اللحظة عالقاً بين فكَّي أحد الكلاب المنافسة في معركةٍ دموية. وكان جون سينا واحداً من بين 13 كلباً محتجزاً داخل أحد الملاعب أواخر شهر مارس/آذار الماضي، في إطار احتفالات عيد النوروز أو رأس السنة الفارسية، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وتمكَّن جون سينا من تحرير رأسه بالفعل ثم اندفع مهاجماً خصمه، الذي كان يُدعى جيرمان، إلى أن أعلن الحكم عن الفائز، ثم سحب الساسة الكلاب من الملعب.
مصارعة بعلم الدولة
وأُقيمت هذه المباريات علانيةً ودون خوفٍ من الملاحقة القضائية، بعكس مصارعة الكلاب في معظم البلدان الأخرى. وفي الواقع، تواجد شُرطيٌ يُدعى أحمد فؤاد في الملعب أثناء خدمته، وكان يحمل عصا كبيرة في محاولاتٍ لم تنجح دائماً لإبقاء الحيوانات تحت السيطرة.
وكان مكان القتال ملعباً عاماً في الهواء الطلق وسط مدينة مزار الشريف، التي تقع في شمال أفغانستان، وبلغت قيمة التذكرة الواحدة 50 أفغانياً، أي أقل من دولار واحد. وحضر الآلاف تلك الفعالية.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هناك أنواعاً كثيرة من الرياضات الأفغانية الدموية التي تجري بلا حسيبٍ أو رقيب، رغم معارضة الملالي الذين ينتقدونها بحُجَّة أنَّها آثام، ورغم الانتقادات المتزايدة الموجهة إليها من جيلٍ شاب مثقف يرى فيها أرضاً خصبة كريهة لأمراء الحرب وأتباعهم المسلحين.
ويبدو أنَّ الأفغان ينظِّمون عراكاتٍ بين جميع أنواع الحيوانات تقريباً: الكلاب والديكة والجِمال وطيور الكناري والعصافير والسِمَّان والحمام. وصحيحٌ أنَّ مصارعة الطيور والكلاب غير قانونية نظرياً، لكنَّ الغرامات متواضعة ولا تتجاوز الـ150 دولاراً، وهو جزءٌ صغير من إجمالي قيمة الرهانات التي تُدفَع عادةً.
وصحيحٌ أنَّ الخيول المستخدمة في مباريات لعبة البوزكاشي الأكثر شعبيةً لا تصارع بعضها، لكنَّها تتعرَّض لإصاباتٍ بالغة في ظل تعرُّضها للعض وكثرة انتصابها على قدميها الخلفيتين والركل، بينما يضربها أصحابها ويضرب بعضهم بعضاً بالسياط، في رياضةٍ تُعَد نسخةً وحشية للغاية من لعبة البولو.
وتُمارس العديد من هذه الأنشطة بكثرة في أثناء عيد النوروز، وتُعَد تلك الفترة هي نهاية موسم مباريات مصارعة الكلاب. إذ تُقام معظم المباريات في فصل الشتاء، لأنَّ أصحاب الكلاب يعتقدون أنَّ البرد يحمي حيواناتهم من تلوث الجروح العديدة التي تصيبهم.
ويقولون إنَّ القتال في الحرارة المرتفعة سيكون عملاً غير إنساني.
المباريات لها معجبون!
وجذبت المباراة التي أقيمت على الملعب في مدينة مزار الشريف بعض أصحاب الكلاب من جميع أنحاء أفغانستان، إذ تراوحت الجوائز المالية بين 65 دولاراً وأكثر من 20 ألف دولار. ويدفع الخاسر للفائز مبلغاً متفقاً عليه بين أصحاب الكلاب بحُكم العادة. ويضع المتفرِّجون الرهانات الجانبية، التي تكون كبيرةً عادةً.
وأقام الصبية الصغار مناوشاتٍ تدريبية قصيرة بين الكلاب على هامش المباريات، إبان تجمُّع الحشود، إذ تُساعد الكلاب الضعيفة في تهيئة الكلاب القوية للقتال. وكانت معظمُ الكلاب المشاركة كلاباً كبيرة من سلالات مُهجَّنة، وكان بعضها شديد القوة لدرجة أنَّها احتاجت إلى رسنٍ وسلسلة ورَجُلين لكبح جماحها.
وتجوَّل الباعة حاملين أطباقاً من السمبوسة والمعجنات على رؤوسهم، في حين تعالت أصوات النباح الشديد من كل زاوية.
وغسل الساسة الكلاب التي كانت على وشك القتال، لضمان خُلو أجسادها من المبيدات الحشرية أو مساحيق الفلفل الحار التي تحول دون تعرُّضها للعض.
لكنَّ حشود النوروز وأموال الرهانات لا تجتذب أصحاب الكلاب فقط.
إذ دخل رجلٌ يُدعى ويس قصب إلى ساحة الملعب برفقة جماله الخمسة المُصارِعة، بما في ذلك جملٌ أسود ضخم -طوله حوالي مترين ونصف- قال إنَّه بطله، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وذكر أنَّه يجعل جماله ضخمةً بتهجين ذكور الفوالج (الجمال ذات السنامين) مع إناث الجمال العربية (ذات السنام الواحد). وأضاف أنَّ ذكور الفوالج أكثر عدوانية، في حين تُعَدُّ الجمال العربية أكبر حجماً.
وعرض مقاطع فيديو على هاتفه المحمول لمبارياتٍ سابقة تُظهِر الجمال تتصارع بأعناقها الطويلة حتى يستسلم أحدها بالفرار.
وقال قصب: "يمكن أن تصل قيمة الجمل المُصارِع الجيد إلى 200 ألف دولار".
لكنَّ قصب لم يُشارك في أي مباراة، لأنَّ خصمه المتوقع لم يحضر في ذلك اليوم.
تحفيز
ومع ذلك، كان هناك الكثير من مباريات مصارعة الكلاب التي يُشارك خلالها أصحاب الكلاب في القتال بأنفسهم. إذ كانوا يصفعون مؤخرات كلابهم ويدفعونها مرةً أخرى إلى المعركة، وهم يهتفون بعبارات التشجيع.
وتنتهي المباريات حين يُقرِّر الحُكَّام أنَّ أحد الكلبين أظهر سلوكاً استسلامياً، ونادراً ما يتركونها تقاتل حتى الموت. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ الكلاب الرابحة تكون ذات قيمةٍ كبيرة، لذا لا يتركونها تتعرَّض لإصاباتٍ بالغة، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وطوفان ساتاري، الذي يبلغ من العمر 18 عاماً، هو واحدٌ من أصحاب أوائل الكلاب التي قاتلت في ذلك اليوم. وفاز كلبه الذي يُدعى شيراز في مباراته الخامسة، وكان جسده يحمل الكثير من الندوب.
ويمتلك الكلب غرفةً خاصة في منزل ساتاري، ولا يلعب مع الأطفال أبداً. وفسَّر ساتاري ذلك قائلاً: "لن تكون فكرة جيدة".
ثم نشب عراكٌ في الملعب بين رجلين. إذ كان كلباهما قد انتهيا من القتال وأعلن الحُكَّام أن أحد الكلبين فاز على الآخر، لكنَّ أكبر، صاحب الكلب الخاسر، رفض دفع الأموال المتفق عليها، وتعرَّض لسخرية الحشود. ثم هاجمه جاويد مسجدي، صاحب الكلب الفائز الذي يُدعى بي، وتبادلا اللكمات.
"مصارعات غير إنسانية"
ثم اندلعت مشاجرة جماعية شارك فيها المئات. وقال أحد المتفرجين: "الكلاب ليست الحيوانات الوحيدة هنا". ورفض المُتفرِّج ذكر اسمه، لكنَّه قال إنَّه طالبٌ جامعي وإنَّ هذه هي أول وآخر مباراة مصارعة كلاب يحضرها.
وأعرب بعض المواطنين الآخرين عن اشمئزازهم أيضاً؛ إذ ذكر عزيز الإبراهيمي، أحد بائعي الكتب في الجامع الأزرق بالمدينة، أنَّه لم يحضر قط مصارعة كلاب أو مباراة بوزكاشي، وقال إنَّها "غير إنسانية، ووحشية ومؤذية للحيوانات. نحن نصف أنفسنا بالدولة الإسلامية. لكنَّ الإسلام يرفض ذلك. والأشخاص الذين يدعمون مثل هذه الرياضة هم في الغالب فقراء وأُمِّيون، أو أناس أثرياء حصلوا على أموالهم بطُرقٍ مُلتوية، مثل مقاتلي الميليشيات".
وذكر عصمت أفغان، وهو طالبٌ عمره 21 عاماً، أنَّه يُفضِّل الذهاب إلى مركز لعب البولينغ المحلي على حضور مباريات البوزكاشي. وقال: "ليس من الصواب إيذاء الحيوانات بهذه الطريقة. أنا لا أحب ذلك ولا أشاهده".
وعلى الجانب الآخر، يتخذ أصحاب الكلاب المُتصارعة موقفاً دفاعياً بشأن هوايتهم رغم إفلاتهم الواضح من العقاب؛ إذ رفض العديد منهم السماح للغرباء بالتقاط الصور أو تصوير مقاطع الفيديو، مع أنَّهم كانوا يلتقطون الكثير من الصور بأنفسهم.
وقال محمد عليم (30 عاماً) الذي جاء من مدينة قندوز لمشاهدة مباريات مصارعة الكلاب: "أنتم أيها الصحفيون تُصوِّرون المباريات ثم تعرضون الصور على التلفزيون، وهذا سيؤدي إلى إيقاف تلك الألعاب مُستقبلاً".
وكان كلب جاويد مسجدي (33 عاماً) يعرج بشدة بعد مباراته. وذكر مسجدي أنَّ كلبه يحب القتال ويحظى بمعاملةٍ جيدة، إذ يتناول كمية بروتين في نظامه الغذائي أكبر من تلك التي يتناولها مسجدي وعائلته. ويعمل مسجدي في مزرعة، حيث يتغذى الكلب على فضلات المجزر، ولترٍ من الحليب يومياً، ونصف دزينة من البيض، ويتمثل تدريبه اليومي في المشي لمدة أربع ساعات. وقال مسجدي: "الملالي يشتكون كثيراً من ذلك، ويعتبرونه إثماً. لذا نُقيم المباريات في أماكن خفية عن الأعين".
وفي السياق نفسه، قال الملا عبد البصير البحراوي، إنَّه لا يوجد أدنى شك في أنَّ الإسلام يُحرِّم أي لعبة تتسبب في إصابة الحيوانات أو موتها، وخاصةً مُصارعة الكلاب.
لكنَّه تساءل متعجباً عما إذا كانت المباريات المليئة الإصابات، مثل البوزكاشي، أسوأ من القتال الذي يجري داخل الأقفاص أو مصارعة المحترفين في أمريكا؟ وقال: "كُسِرَت العديد من القواعد هنا، بعد 40 عاماً من الحرب".