على الرغم من الوضع المتقلب في غزة خلال العام الماضي، والقصف المتبادل بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية على رأسها حركة حماس، إلا أن كلا الجانبين أصبحا يستكشفان ويطوران صيغة وقف إطلاق النار، بدلاً من التصعيد إلى صراع رابع كبير خلال عقد. إذ يرى محللون أن حالة من أشكال "الردع المتبادل" تطور بين الطرفين، وأنه بات يمكّنهما ويشجعهما على تجنب الحرب الشاملة.
حول ذلك، يقول العميد رام يافني، القائد السابق لشعبة الاستراتيجيات في الجيش الإسرائيلي، في مقالة نشرت له في مجلة National Interest الأمريكية بتاريخ ٢٧ أبريل/نيسان ٢٠١٩، أنه بالرغم من ذلك، فإن هذا الردع يقدم قدراً "ضئيلاً" من الأمل في الاستقرار، ويمكن لهذا "التوازن الهزيل" بين الطرفين أن ينهار في المستقبل القريب، بسبب الوضع الإنساني في غزة، والإمكانات المحتملة دائماً لسوء التقدير بين الخصوم، بحسب تعبيره.
الإسرائيليون يعترفون بقدرة حماس على ردع أي عدوان عسكري
ويرى الجنرال يافني أن الحافز الحالي لحد كلا الجانبين من "العنف" ناتج عن عوامل عسكرية وسياسية مختلفة في السنوات الأخيرة. معترفاً بأن "شبكة الأنفاق" المعقدة التابعة لحماس داخل غزة على سبيل المثال، تساعد على ردع أي تصعيد عسكري إسرائيلي على الأرض.
مضيفاً: "كما كان واضحاً في حرب عام 2014، تمنح هذه الأنفاق حماس وغيرها من الجماعات المسلحة مرونة تشغيلية ومفاجأة تكتيكية تُكبد الهجوم البري للجيش الإسرائيلي تكاليف وتأخيرات جسيمة، حتى ولو كانت محدودة، في المناطق الحضرية كثيفة السكان في غزة".
لكن رداً على ذلك، يقول الباحث الفلسطيني المتخصص في الشأن الإسرائيلي محمود مرداوي لـ "عربي بوست"، إن "شبكة الأنفاق جزء من هذا الردع ولكنها ليست الأقوى، إذ إن منظومة الصواريخ تعد أبرز، وتستطيع التأثير بشكل مباشر على إسرائيل وتكبدها خسائر هائلة، لا يمكن أن يكون هناك أي إنجاز عسكري مردوده يوازي ذلك".
المخاوف الاستراتيجية لإسرائيل
ويرى مرداوي أن منظومة "الردع المتبادل" موجودة بين تل أبيب وغزة، لكنها لا تعد متوازنة من جميع النواحي بشكل حقيقي، إلا أن هناك حالة من "تبادل الخوف"، كلا الطرفين له القدرة على تخويف الآخر، وإلحاق الأذى به، وبالتالي نستطيع أن نقول إن حالة عدم تحمّل تكلفة الأذى متقاربة بين الطرفين.
ويردف مرداوي بالقول إن هذا النوع من الردع فعّال، لأن إسرائيل أدركت أخيراً أن الفلسطينيين في غزة يمكن التفاهم معهم ضمن "قواعد الاشتباك" واحترامها بشكل يسمح لها أن تجازف بقرارات الهدن، أمام جمهورها وفي المنطقة.
إذ كانت إسرائيل سابقاً تعتقد أن أي توافق هو تهدئة لن يصمد وسيسقط عند أي اختبار، لكن الفلسطينيين أثبتوا عند الكثير من الاختبارات والمنعطفات أنهم قادرون على التعامل بنديّة ولعب هذا الدور كاملاً، يضيف مرداوي.
على الطرف الآخر، يعتبر الجنرال الإسرائيلي يافني أن "المخاوف الاستراتيجية" تساعد أيضاً في إثناء إسرائيل عن التصعيد في غزة، حتى مع استمرار حماس في شن هجماتها "العشوائية". فمن شأن حرب أخرى على الجبهة الجنوبية لإسرائيل أن تشتت انتباهها عن قلقها الأساسي، أو التهديد الأكبر: حزب الله وإيران على حدودها الشمالية. إضافة إلى أن "غزة رغم تشكيلها تهديداً أقل، لكن حرباً أخرى فيها يُمكن أن تخلق أعباءً اقتصادية حقيقية على إسرائيل".
إسرائيل لا ترغب في احتلال غزة ولا تستطيع
وبحسب يافني، فإن "احتلال الجيش الإسرائيلي الشامل لغزة سيلقي على إسرائيل مسؤولية غير مرغوب فيها، تتمثل في الإشراف على منطقة تواجه أزمة إنسانية".
مضيفاً: "حتى عام 2014، عندما لم يكن الوضع الإنساني سيئاً كما هو الحال اليوم، بدا أن احتمال تصعيد الحرب للقضاء على حماس، بما في ذلك إعادة احتلال غزة، ينطوي على تكاليف عسكرية وسياسية أكثر مما كانت القيادة الإسرائيلية مستعدة لتحمله.
ويقول يافني: "الإبقاء على حماس كما هي باعتبارها طرفاً يمكن لإسرائيل أن تلقي عليه بمسؤولية الهجمات للهجمات، سيجعل لدى حماس ما تخسره إذا تصاعدت الهجمات من غزة بشكل ملحوظ".
لكن الباحث مرداوي يرى أن "إسرائيل وصلت لحالة، إن لم تستطع أن تقدم فيها ما تخسره ويزيد، ستكون أسيرة للمغامرات وللمجازفات"، مشيراً إلى أن الفلسطينيين أصبحوا قادرين على تطبيق وتنفيذ تهديداتهم بشكل دقيق وفي الوقت الذي يروه مناسباً دون قدرة إسرائيل على منع ذلك.
مضيفاً أن "ذلك جعل إسرائيل تحسب حساباً كبيراً لهم، وأصبحت مضطرة للتعامل معهم ضمن شروطهم، ولا يمكن لها اليوم أن تضمن حالة الاستقرار في الجنوب لديها إلا برضا الطرف الفلسطيني المؤرق لها، والذي بات يهدد أمنها وهيبتها".
واصفاً أن "الجيش الذي لا يقهر تم قهره مراراً وتكراراً ولا يجرؤ اليوم على دخول غزة، ولا يستطيع إلا أن يتحول للهدن المتكررة".
حماس لعبت دور "الندّ" الحقيقي لإسرائيل ضمن "قواعد الاشتباك"
في السياق، يقول د. ناجي الظاظا، الباحث الفلسطيني، لـ "عربي بوست" إن المقاومة الفلسطينية عملت على تحسين أوراقها التفاوضية مع إسرائيل باعتبار أن هناك حقوقاً للشعب الفلسطيني يجب أن يستجيب لها الاحتلال، وليس كما كانت الحالة في السابق، كانت هناك من "الاستجداء" للاحتلال بحيث توافق تل أبيب على ما تريد وترفض ما لا تريد.
مشيراً إلى أن "تجارب السنوات الأخيرة حولت المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، إلى حالة من الندية في التفاوض تحت النار، وقواعد الاشتباك التي يتم تطويرها كل فترة تصبُّ في صالح المقاومة الفلسطينية على حساب قدرة العدو على الضغط على غزة، مع استحضار أنه لا يمكن للقوة العسكرية والاستخباراتية أن تتوازى بين المقاومة والاحتلال".
ويتفق الظاظا مع مرداوي بأنه يمكن توصيف الحالة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال بأنها نوع من "توازن الردع"، باعتبار ما شهدناه من إطلاق صواريخ من غزة تصيب تل أبيب وأهداف حساسة، ويسقط جرحى داخل الاحتلال، وفي المقابل كان هناك عدوان عنيف على قطاع غزة إلا أن ذلك لم يصل بالحالة إلى نشوب مواجهة واسعة أو حرب كبيرة كالحروب السابقة.
بالعودة إلى ما قاله الجنرال تافاني، فإنه "بات من المفيد أيضاً أن إسرائيل وحماس بدأتا في التحدث مع بعضهما البعض بشكل بناء أكثر. تسمح خطوط الاتصال غير المباشرة، من خلال مصر وقطر غالباً، للجانبين بأن يكون بينهما نزاعات على الملأ، مع الاستمرار في نقل الشروط التي يمكن في ظلها تجنب التصعيد".
حماس استطاعت "تدريج استخدامها للعنف" بنجاح
ويرى تافاني أنه انطلاقاً من إدراك حماس بأن "إسرائيل لا تحتاج أو تريد أن تبدأ حرباً، فإن حماس تتمتع بحرية التصرف تحت الخط الذي لن يكون للقيادة الإسرائيلية عنده خيار سوى الدفاع عن النفس".
معتبراً أن هذه الظروف التشغيلية والأوضاع الاستراتيجية تضافرت لترسيخ بعض مظاهر "الاستقرار الأساسية"، لكن دون "سلام صريح". مقارنةً بالانتظام النسبي للحروب الكبرى بين عامي 2008 و2014، فقد تظل المناوشات منخفضة المستوى واحدة بواحدة المستمرة والضربات المحدودة هي القاعدة، "لأن كل جانب يفتقر إلى أي حافز حقيقي للتصعيد إلى حرب شاملة".
في الوقت نفسه، يعترف الجنرال تافني أن "القيادة الإسرائيلية الحالية مدركة أنها مترددة في الذهاب إلى حرب مع غزة، مع بقائها مستعدة للاستجابة بقدر متناسب مع الاستفزازات الأصغر"، مضيفاً أن "حماس استطاعت تدريج استخدامها للعنف، سعياً وراء قدر أكبر من الاهتمام والتنازلات الدولية لتعزيز موقعها في غزة".
في النهاية، يعتبر الجنرال تيفاني أن "الردع المتبادل" القائم بأي حال من الأحوال، ليس حلاً مثالياً طويل الأجل للفلسطينيين أو الإسرائيليين، لكنه يظل أفضل من التكرار السابق للحروب الشاملة. ومع ذلك، "إذا لم يتوقف انهيار غزة الذي يلوح في الأفق، يمكن أن تتجه حماس وإسرائيل نحو رابع صراع كبير منذ عام 2008، بغض النظر عما إذا كان أي من الطرفين يريد ذلك"، حسب تعبيره.