طالعت منذ فترة مقالاً على فيسبوك لإحدى الكاتبات تقول فيه ما معناه أن البنات والسيدات يهتممن بتطوير أنفسهن بدرجة تفوق الشباب بكثير، وأن هذا خلق فجوةً معرفيةً وإدراكيةً بين الشباب والبنات يتعذر معها رضاهن بهؤلاء الشباب كأزواج.
وعرضَ المقال في سياق الدليل إقبال معظم البنات على محاضرات وندوات تطوير الذات وفهم النفس البشرية وعزوف معظم الشباب عنها بشهادة أحد الأطباء النفسيين المشهورين.
وكما هو متوقع، لاقى المقال استحساناً كبيراً من البنات والسيدات وسُخطاً مستحقاً من الشباب والرجال.
لفتَ المقالُ نظري وقررت البحث قليلاً وراء موضوعه وما قيل فيه من طرح.
– هل حقاً الشباب جهلة بذواتهم ولا يسعون للتطوير؟
– هل بصفة عامة الشباب متأخرون معرفياً وإدراكياً عن البنات حالياً؟
– هل إذا خرجنا من عباءة علم النفس والعلاقات والزواج، سنجد نفس الإقبال من البنات والعزوف نفسه من الشباب؟
– هل دورات الكومبيوتر والهندسة والعلوم التطبيقية المختلفة تحظى بنفس الاهتمام من البنات ونفس العزوف من الشباب؟
أم أن اهتمام البنات والسيدات يميل أكثر للعلاقات الإنسانية نظراً لطبيعتهن التي تميل -بنسبة أكثر من الرجال- إلى العاطفية؟
وفي رحلة بحثي عن إجابات لهذه الأسئلة وجدت دراسة منشورة في واحدة من أرقى المجلات العلمية عن نظريتين وعلاقتهما باضطراب التوحد:
النظرية الأولى هي:
Empathizing-Systemizing
(التعاطف – التحليل)
والنظرية الثانية هي:
Extreme Male Brain
(العقل الذكوري المتطرف)
قام الباحثون في الدراسة باستقراء نتائج استبيانات لعددٍ مهول من البشر يتجاوز النصف مليون من الرجال والنساء (منهم نحو 40 ألفاً ممن لديهم أعراض توحّد) وقامت الاستبيانات بقياس عدة قيم مثل التعاطف مع الآخرين والذكاء العاطفي والحساسية في استقبال أحداث الحياة مقابل الميل إلى التحليل المنطقي والميل إلى الأمور التقنية (كعلوم الحاسب والهندسة والرياضيات والتكنولوجيا).
وكانت النتائج كالتالي:
يميل أغلب الرجال (الطبيعيين) في الدراسة إلى تحليل الأمور منطقياً وإلى التقنية والعلوم التطبيقية بصفة عامة، وتميل أغلب السيدات (الطبيعيات) إلى الذكاء العاطفي في العلاقات والحساسية في استقبال الأحداث الاجتماعية.
ووجدت الدراسة أيضاً أن مَن لديهم أعراض توحّد -سواء رجال أو سيدات- يميلون أكثر لما يدعى (العقل الذكوري المتطرف) من ناحية قلة التعاطف مع الآخرين.
الدراسة رائعة وتفسّر العديد من شكاوى النساء من الرجال وشكاوى الرجال من النساء.
ولكنها بكل حال تدحض وتهدم فكرة الفجوة "المعرفية" أو "الإدراكية" بين الرجال والنساء.
الفجوة الحقيقية هي في عدم فهم كل جنس للجنس الآخر.. وعدم تصالح كلٍ منهما مع طبيعة كلٍ منهما.
قد يقول قائل: لقد تمت هذه الدراسة في الغرب (في جامعة كامبردج بإنجلترا) وقد تنطبق نتائجُها على رجال ونساء الغرب.. أما الرجال العرب الشرقيين فلا تنطبق عليهم!
بغض النظر عن أن الدراسة لم تفحص الخلفيات الاجتماعية والثقافية للشعوب من شرقي وغربي وأبيض وأسود، وكان تركيزها على الفروقات البيولوجية، إلا أنني سأردّ فأقول:
بنظرة عادية غير بحثية في كليات الحاسبات والكليات الهندسية بمختلف فروعها ومجالات العمل التقنية عموماً في مصر على سبيل المثال، سنجد أن عدد الذكور أعلى نسبياً من الإناث (لم أقم بدراسة)، وأيضاً بالنظر في اهتمامات الشباب من الجنسين، نجد أن هناك ميلاً من الذكور ناحية التقنية والعلوم التطبيقية بالفعل.
ونجد أيضاً ميلاً من الفتيات إلى العلوم الإنسانية والعلاقات والفنون.
ليس كلامي بأي حال تعميماً أو إطلاقاً من أي نوع.. فهناك من الفتيات من تفوقت في المجالات التقنية، كما أن هناك مَن الرجال من تفوق في المجالات الإنسانية والفنية.
مقالي هذا محاولة لتقريب الفجوة في إدراك الفروقات العامة بين متوسط الرجال ومتوسط النساء بصورة صحيحة مبنية على علم مُحقَق وليس على انطباعات خاطئة وتشوّهات معرفية وتعميمات دفاعية لكسب تعاطف جمهور النساء العظيم الذي يشكل النسبة الأكبر باكتساح لأي كتاب أو دورة أو ندوة تتكلم عن العلاقات.
نعم اهتمام النساء أكبر بالعلاقات ولكن هذا لا يعني "جهل" أو "غباء" أو "نقص" معرفي وإدراكي عند الرجل.. معناه فقط أن السيدات تهتم أكثر بما يهمهن، ويهتم الرجال أكثر بما يهمهم.
وقد تكون الدعوة أكثر منطقية واستحقاقاً -بدلاً من الاتهام بالتأخر المعرفي والإدراكي- لو طالبت النساءُ الرجالَ بالاهتمام بالعلاقات الانسانية بين الذكور والإناث بصورة أكبر من الموجودة حالياً بما يعود بالنفع عليهما معاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.