يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحين فرصة وجود أي فراغ سياسي حول العالم ناتج عن السياسات المتغيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كي ينقض ويثبت وجوده، ويظل السؤال هل يقوم بوتين بذلك في إطار استراتيجية سياسية محددة الأهداف أم ماذا؟
الإجابة على هذا السؤال جاءت في تقرير كتبه ناثان هودج مدير مكتب شبكة سي إن إن الأمريكية بموسكو، رصد خلاله حالة التوهج الدبلوماسي لبوتين منذ جاء ترامب للبيت الأبيض.
أسبوع دبلوماسي حافل
توَّج بوتين أسبوعاً من الدبلوماسية رفيعة المستوى أمس الجمعة 26 أبريل/نيسان، حين ظهر في منتدى الحزام والطريق في بكين، وتلقَّى استقبالاً حاراً للغاية من الرئيس الصيني شي جين بينغ، حيث قال شي: "الرئيس الروسي صديقٌ رائع وصديقٌ قديم للشعب الصيني".
كانت الصداقة كذلك حاضرةً على جدول أعمال بوتين في لقاء القمة الذي انعقد أول أمس الخميس 25 أبريل/نيسان في مدينة فلاديفوستوك الروسية مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وهناك وضع بوتين نفسه في موضع الوسيط الضروري لحل الأزمة في شبه الجزيرة الكورية، وموضع الفاعل البارز على الساحة الدولية.
وأثناء حديثه للصحفيين بعد القمة، قال بوتين إنَّه سينقل نتائج القمة إلى الرئيس شي، وكذلك إلى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
"بالطبع، سأتحدث غداً في بكين مع قيادة جمهورية الصين الشعبية، لكنَّني سأناقش لقاء اليوم بانفتاح وصراحة كذلك مع القيادة الأمريكية. لا توجد أسرار هنا، الموقف الروسي دائماً شفاف، ولا توجد مؤامرات".
ما بين السطور
لكن ما لم يقله هو حقيقة أنَّ ترامب فشل مؤخراً في محاولته للحصول على اتفاق نزع السلاح النووي الذي يريده من كيم، ففي فبراير/شباط الماضي، اختصر ترامب لقاء قمة مع الزعيم الكوري الشمالي بعدما أصرَّ كيم على رفع كافة العقوبات الأمريكية عن بلاده، وقال ترامب: "أحياناً عليك أن ترحل".
وهنا يكمن لب القضية، فحيثما رحلت الولايات المتحدة، يرى بوتين غالباً فرصةً سانحة.
مقتل خاشقجي
ولنأخذ مثلاً مقتل الصحفي جمال خاشقجي، الذي أزعج واشنطن وهدَّد جدياً بتقويض العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، فوسط الغضب الدولي على خلفية مقتل خاشقجي، كان من اللافت صمت الكرملين بشأن القضية.
وقال مسؤولون أمريكيون إنَّ مهمة إقناع خاشقجي بالعودة من إسطنبول إلى السعودية –بما في ذلك إرسال 15 رجلاً من العاصمة السعودية الرياض- ما كان يمكن أن تتم دون تفويض ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للبلاد، الأمير محمد بن سلمان. واستمرت السعودية في القول إنَّ ولي العهد أو أباه، الملك سلمان، لم يعرفا شيئاً بشأن عملية استهداف خاشقجي.
أما بوتين فقد كان موقفه وقتها واضحاً: "كيف يمكننا، نحن روسيا، أن نبدأ إفساد علاقتنا مع السعودية دون معرفة ما حدث هناك بالفعل؟".
الفلبين وفنزويلا
الفلبين مثال آخر، وهي الحليف التقليدي (والمستعمرة السابقة) للولايات المتحدة، ففي عام 2017، أجرى الرئيس الفلبيني رودريغو ديوتيرتي، وهو أحد المعجبين ببوتين، زيارة رسمية إلى موسكو، وكانت تلك لحظة مهمة؛ إذ كانت الحكومة الروسية تفتح أبوابها أمام ديوتيرتي بالتزامن مع انتقاداتٍ أمريكية كبيرة له على خلفية انتهاكاتٍ مزعومة لحقوق الإنسان شابت حرب المخدرات التي يقودها في الفلبين.
ثُمَّ هناك الأزمة في فنزويلا، حيث يُلقي الكرملين بدعمه خلف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، إذ أشار بوتين، عبر بادرات استفزازية لكن منخفضة التكلفة مثل إرسال قاذفات روسية قادرة على حمل أسلحة نووية إلى فنزويلا العام الماضي، إلى أنَّه يمكنه المناورة في نصف الكرة الغربي، الذي يُعَد الفناء الخلفي للولايات المتحدة.
لاعب شطرنج سياسي؟
ويبدو أنَّ بوتين يتدخَّل في أي مكانٍ يظهر فيه تراجع القوة الأمريكية. إذاً هل يعني هذا أنَّ بوتين أستاذ بصورةٍ ما في الشطرنج الجيوسياسي يُحرِّك قِطَعه ببراعة في كل مواجهة تجري حول العالم؟
الإجابة، كما يقول معظم المراقبين عن كثب للشأن الروسي، هي لا، فسياسة بوتين الخارجية لا تُحرِّكها أيديولوجيا تبشيرية تخليصية من نوع ما، مثلما فعل الاتحاد السوفيتي بالشيوعية أثناء الحرب الباردة، بل ربما يُحدِّد بوتين مواقفه باستمرار بما يتعارض مع مواقف واشنطن –مُصوِّراً نفسه باعتباره مُدافِعاً شرساً عن سيادة الدول في مواجهة مساعي الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول الأخرى- لكنَّ سياساته يمكن أيضاً أن تكون ظرفية ومرتجلة.
وفي هذا الصدد يبرز السودان كنموذج واضح، فكما أفادت شبكة CNN هذا الأسبوع، يبدو أنَّ حملة القمع التي قام بها الرئيس السوداني عمر البشير في وقتٍ سابق من هذا العام كانت تسترشد بكتيب قواعد روسي. إذ أكَّدت مصادر حكومية وعسكرية لـCNN أنَّ حكومة البشير حصلت –وبدأت في العمل- على استراتيجية لنشر المعلومات المضللة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن إثارة الاضطرابات، بل وحتى تنفيذ إعدامات علنية لإخماد التظاهرات.
لكنَّ الاستراتيجية هنا لم تكن مُقدَّمةً من الحكومة الروسية، بل من جانب مقاول سياسة خارجية وهي شركة روسية مرتبطة بأحد الأثرياء الروس تتمتع بحظوة لدى الكرملين، هو يفغيني بريغوجين.
كان بريغوجين أحد المواطنين الروس الذين أدانهم المحقق الأمريكي الخاص روبرت مولر بسبب تدخُّلهم المزعوم في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016، ووفقاً للائحة الاتهام، كان بريغوجين يسيطر على شركة Concord Catering، الشركة التي موَّلت "وكالة أبحاث الإنترنت"، وهي مزرعة لمُتصيدي الإنترنت (Trolls) نشرت معلومات مضللة على الإنترنت بهدف استهداف الناخبين الأمريكيين عام 2016.
ويصف مارك غاليوتي، المراقب البارز لشؤون روسيا في عهد بوتين، هذا النوع من السياسة الخارجية المرتجلة باعتباره جزءاً من سياسة التقرب الارتجالي للكرملين والمقصود بها رواد الأعمال والفاعلين السياسيين الذين يقومون بأعمال لإرضاء الرئيس (في هذه الحالة بوتين)، وأحياناً تحظى تلك الأعمال بقبولٍ رسمي كامل، وأحياناً لا، وكما في حالة السودان، لا تنجح دوماً؛ إذ أُطيح بالبشير في انقلابٍ عسكري في وقتٍ سابق من هذا الشهر.
في مدينة فلاديفوستوك، تحدَّث بوتين ببراعة، قائلاً للصحفيين إنَّ المباحثات مع كيم ركَّزت على جهود "استعادة حكم القانون الدولي والعودة إلى الوضع الذي كانت التطورات الدولية فيه تُنظَّم من خلال القانون الدولي بدلاً من سيادة القوة".
لكن في السودان كما في كوريا الشمالية، يعني تعريف بوتين للقانون الدولي أنَّ المخاوف بشأن حقوق الإنسان والديمقراطية تنتهي عند حدود تلك الدولة.