الدعاية السياسية هي محاولة إعلامية للتأثير في اتجاهات الناس وآرائهم وسلوكهم من خلال نشر معلومات، سواء كانت حقيقية أو حتى مكذوبة، لتثبيت الصورة الذهنية عن المنظمة أو الحزب أو الفرد المرشح؛ ومن ثم التأثير على الرأي العام.
وغالباً ما تخاطب تلك الدعاية العواطف أكثر من المنطق، وصولاً إلى خلق حالة من الشحن العاطفي والفكري، للوثوق بمشروع المرشح أو شخصه.
لم تكن جماعة الإخوان المسلمين في بدايات نشأتها تعلن نيتها خوض المعارك السياسية، فرغم أن تعاليم مؤسِّسها الأول وأهدافه نصَّت على الحكومة الإسلامية، فإن الرجل مهَّد لتلك الحكومة ببناء الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع المسلم، من وجهة نظره، ليكونوا ظهيراً قوياً لتلك الحكومة المسلمة.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، قررت الجماعة خوض غمار المعارك الانتخابية في مصر، وعلى استحياء دفعت بكوادرها مع حزب الوفد، ثم حزب العمل، ورفعت آنذاك شعار (الإسلام هو الحل)، وهو شعار دغدغت به الجماعة مشاعر الناخب المصري، ورسمت صورة ذهنية متلازمة مع كونها جماعة إسلامية ومحافِظة تهدف إلى إصلاح المجتمع، بأن مرشحيها هم الأفضل في زمنٍ ظهر فيه الفساد بالبر والبحر بما كسبت أيدي الحكام وحاشيتهم، فكان المرشح في الغالب من أصحاب اللحى الخفيفة، ومصلياً انخرط بين أهل المساجد، يستخدم الآيات القرآنية في خطابه السياسي، لترسيخ نمطية الإصلاح والتأثير على مشاعر الشعب المتدين بطبعه، فبحسب مؤسسة غالوب الأمريكية للأبحاث أكدت أن الشعب المصري أكثر شعوب الأرض تديناً، وهو ما يعني أنَّ قبول مرشح بخطاب إسلامي محافظ سيكون مقبولاً بلا شكل.
استطاعت الجماعة أن تَنفُذ من جدارات الأمن والإقصاء التي كان يمارسها الإعلام، وأبلت بلاء حسناً في المدة التي استطاعت أن تحتك فيها مباشرة بالشارع من خلال المحليات أو النقابات أو المجالس التشريعية، وهو ما شجَّع أقرانهم في دول أخرى على أن يحذوا حذوهم، ويتقدموا بالخطاب نفسه للشارع السياسي في بلدانهم، وهو ما لاقى نجاحاً معقولاً في كل المجتمعات التي صُدِّر إليها الخطاب، وأسباب ذلك كثيرة لا مجال لذكرها هنا. لكن في النهاية، استطاع الإسلام السياسي تقديم نفسه بهذا الخطاب المقبول لدى الشارع العربي والإسلامي، وبغض النظر عن الأداء، فإن العاطفة ما زالت تحكم توجهات الناخب وتدفعه إلى التصويت.
كعادة البشر، فإن التقليد سيد الموقف، واتباع المقبول أمر لازم، لا سيما في مجال الدعاية، فخبير الدعاية يستغل موجة القبول لكسب الاهتمام، وتغيير الصورة الذهنية لخلق شعور جماعي في الرأي العام يستميله لمصلحته.
ولما كانت الموجة تعلو ويعلو معها الخطاب الديني، فإن كثيراً من الأحزاب أو الجماعات غير المحسوبة على الإسلام السياسي بدأت ركوب تلك الموجة ومخاطبة الجماهير بالخطاب نفسه الذي اعتمده الإسلام السياسي. ولقد جرب حزب الشعب الجمهوري بتركيا هذا الأسلوب، على استحياء، في الانتخابات الرئاسية حين دعم ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي السابق، ثم جرَّبها ثانية مع مرشح الحزب في الانتخابات المحلية على مقعد رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو بشكل صريح، فزار المرشحُ العلمانيُّ ضريح الصحابي أبو أيوب الأنصاري، وقرأ القرآن في مسجد الفاتح، والآن دعاية حزب "النضال من أجل الديمقراطية" الإندونيسي تستخدم الخطاب الديني لتغيير الصورة الذهنية لدى الناخب، فالرئيس الحالي ومرشح الحزب، جوكو ويدودو، ظهر في تسجيل دعائي يلبس الزي الديني التقليدي مع عشرات من الشباب والفتيات بحجابهن، مع التركيز أيضاً على مشهد تقدُّم الرئيس جوكو إماماً في الصلاة بأماكن كثيرة.
قد يرى البعض أن ذلك يعد انتصاراً للإسلام السياسي الذي استطاع أن يدفع منافسيه من غير أيديولوجيته وأن يخاطب الناخب بهذا الأسلوب وهو ما يؤكد بالنتيجة، بحسب رؤيتهم، أن أهدافهم تتحقق، بإنتاج مجتمع مسلم، أجبر مستوردي الآيديولوجيات الغربية على أن يذعنوا لرغبة الشعب في تطبيق الإسلام. لكن السؤال الحقيقي: هل الشعوب تقبل الإسلام بالكلية، أم ارتضت منه الشكل فقط؟
والحقيقة التي يجب أن يعترف بها قيادات الإسلام السياسي ومُنظِّروه وكذا أنصاره، هب أن الإسلام السياسي حتى الآن لم يقدم مشروعاً حقيقياً متكاملاً في البلاد التي استطاع قيادتها، ولم ينجُ من هذا التصنيف سوى قلة قليلة اتخذت من التعايش وقبول الآخر من خلال توازنات وتنازلات سلوكاً للاستمرار في الحكم، دون تغيير جذري للمجتمع، ذلك لأن فكرة الإسلام وحقيقته، وما يراد منه لسياسة الدول، قد تبدو غير مكتملة، والمشروع لم ينضج في ظل معطيات اختلفت كثيراً، عن تلك التي تُستدعى من قرون مضت، من تاريخ أقرب دولة إسلامية حكمت منذ ما يقارب 100 عام.أن يركب أصحاب التوجهات المختلفة مَركب الخطاب الديني في الدعاية السياسية، ليس في نظري انتصاراً بقدر ما هو تسفيهٌ لمشروع عظيم يجب بذل الكثير لإنضاجه، مع ترك مساحات لكل دولة في خصوصياتها لرسم ملامحه، فما يصدق على دولة لا يمكن أن يُطبَّق في أخرى، وما ينفع مع مجتمع قد يفشل في آخر، وهذا هو الخطأ الأكبر الذي يعيشه مُنظِّرو وقادة الإسلام السياسي، فالأمة والعالم أجمع يعيشان في فاصلة تاريخية، وسنحاسَب جميعاً لو لم نجتهد لإيقاظ الأمة من خلال مشروع توضع فيه الخطوط العريضة بمساحات واضحة للتنوع تدفع إلى التكامل في المستقبل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.