قليلون فقط خارج بعض المجالات التقنية والمجموعات المعنية بالتراث الثقافي هم مَن سمعوا عن عمل آندرو تالون الذي تنبأ بحريق نوتردام والذي وصف نفسه بالـ"مهووس بالأدوات" قبل يوم الإثنين، 15 أبريل/نيسان 2019، حين اندلعت النيران في كاتدرائية نوتردام بباريس.
كان تالون، أستاذ الفن بجامعة فاسار بلجيكي المولد الذي توفِّي منذ 6 شهور عن عمر يناهز 49 سنة إثر إصابته بسرطان الدماغ الطرفي، أول وآخر شخص يُجري مسحاً رقميّاً كاملاً للكاتدرائية التي يبلغ عمرها 850 عاماً.
قصة المليار نقطة التي نبَّهته
وقد استخدم أنواعاً خاصة من أشعة الليزر لصُنع مليار نقطة بيانات، وقد فعل كل هذا بحبٍّ وشغف.
قياساته التي تبلغ دقتها 5 ملليمترات هي السجل الحديث الوحيد للكاتدرائية الآن كما كانت عليه قبل تدميرها جزئيّاً، ما يمثل أهمية كبرى لهؤلاء الذين يأملون في إعادة بنائها هذا إن طلبت السلطات الفرنسية الحصول عليها.
لم يكن عمله يؤخذ على محمل الجد
لم يكن عمل تالون يؤخذ على محمل الجد عندما بدأ في عملية المسح.
كان متخصصاً في موسيقى القرون الوسطى في ويسكونسن، وفكَّر لبعض الوقت في أن يصبح راهباً، ثم انتهى به الأمر أستاذاً جامعيّاً في قسم الفنون بجامعة فاسار.
تعلم تقنيات المسح الرقمي إلى جانب عمله وقام بمسح 45 مبنى قديماً كهواية.
وكان ينشد الحصول على تصريح لمسح كاتدرائية نوتردام، وهو ما تمكَّن منه في عام 2015 بعد فترة وجيزة من علمه بإصابته بسرطان الدماغ الطرفي.
ولكن روبرتو فيولا، المدير العام للمفوضية الأوروبية لشؤون شبكات التواصل والمحتوى والتكنولوجيا، كان يأخذ عمل تالون على محمل الجد.
المفارقة التي نبَّهته إلى الحريق
وقبل اندلاع الحريق بأسبوع، تحديداً في 9 أبريل/نيسان، استخدم فيولا في مفارقة غريبة رقمنة تالون للكاتدرائية مثالاً لسيناريو "ماذا لو حدث الأسوأ؟" وهو يحاول إقناع 24 دولة أوروبية بالتوقيع على إعلان للتعاون من أجل تعزيز رقمنة التراث الثقافي. فيقول فيولا إن مجموعته تأمل في أن تتم رقمنة كل مواقع التراث الثقافي الأساسية في أوروبا، لكي يتسنى إصلاحها في حالة تدميرها جراء كارثة طبيعية أو إنسانية، وكذلك لاكتشاف التشققات وغيرها من مظاهر ضعف البنية.
حتى إنه صرّح بمخاوفه للصحافة
وقد صرح لموقع The Daily Beast عن الحاجة إلى رقمنة المباني القديمة قائلاً: "كنت أعلم أنني على صواب، ولكن لم أكن أعرف كيف بالضبط، كنت أود لو أن الدكتور تالون يستطيع معرفة مدى أهمية عمله الآن".
أصبح تالون مهووساً بكاتدرائية نوتردام عندما كان في الصف الرابع، فقد أمضى ذلك العام مع أمه في باريس؛ حيث كانت تُعدُّ أطروحتها في مجال تاريخ المسرح، وقد قضى كل وقت فراغه داخل الكاتدرائية.
التفاصيل كاملة مكتوبة لديه
قال تالون لمجلة ناشونال جيوغرافيك في عام 2015: "لقد كان لديّ كتيب إرشادات صغير وملأته بالشروح على نحوٍ كبير. كنت أتوق إلى معرفة إجابات الأسئلة الأساسية مثل مَن صنع هذا الشيء، وكيف صنعوه، وهل كان بإمكاني الصعود إلى أحد تلك الممرات؟"
ولكنه لم يستطِع إخبار زملائه في مجال الفنون بما كان يفعله، فأبقى على هوسه بالكاتدرائية القوطية وحلمه برقمنتها سرّاً.
قال تالون: "لديَّ مهنة لا أخبر زملائي الفرنسيين بها؛ لأنهم سيعتقدون أنني لستُ جاداً بشأنها".
لكن تطبيقها مكلف للغاية
إن العمل على رقمنة البنيات عملاً مكلفاً من حيث المال والوقت.
وقد صنع تالون مليار نقطة بيانات باستخدام ماسحات الليزر خاصته داخل كاتدرائية نوتردام، وذلك من خلال إجراء مسوح ليزر بانورامية من 50 نقطة مختلفة، بما في ذلك العوارض الخشبية العالية التي لم تُعد موجودة للأسف.
كما التقط أيضاً صوراً فوتوغرافية بانورامية من كل نقطة من نقاط المسح، واستخدمها لاحقاً خلفية للمسوحات لإنتاج صورة طِبق الأصل من المبنى.
هذا، ومن الممكن جمع جميع البيانات معاً لإنتاج نموذج ثلاثي الأبعاد كامل له النطاق نفسه.
لم تطلب السلطات الفرنسية بيانات تالون بعد، ولكن فاسار قال الخميس 18 أبريل/نيسان، إنه سيكون سعيداً للمشاركة إن طلبت السلطات البيانات.
وقالت ليندساس كوك، إحدى طالبات تالون السابقات التي عملت في المشروع، لوكالة AFP الفرنسية: "إن أرادت السلطات في النهاية استخدام هذه البيانات، فستتم مشاركتها معهم بالتأكيد".
ولكن سيستغرق الأمر عقوداً لمسح جميع المباني التاريخية الهشة رقميّاً تحسباً لتعرضها لأذى. كان تالون قد حصل على منح لتمويل مشروعه الطموح، وتعاونت جامعة فاسار من خلال تقديم التخزين الرقمي. وهناك أيضاً نسخ من بعض المسوحات في جامعة كولومبيا؛ حيث استخدمت في مشروع مشترك بعنوان "رسم الخرائط القوطية" كان يعمل فيه تالون قُبيل وفاته في نوفمبر/تشرين الثاني.
حاليّاً هناك 10% فقط من المواقع التاريخية في العالم مرقمنة، ذلك حسبما صرح تيبور نافراكسيكس، مبعوث الاتحاد الأوروبي للتعليم والثقافة، في اجتماع يوم 9 أبريل/نيسان. وأضاف: "نحتاج إلى إيجاد طرق لإتاحة التراث الثقافي للجميع. فيجب أن يحظى كل شخص بالفرصة لاكتشاف كيف ينتمي إلى هذا النسيج المعقَّد المسمى أوروبا، بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية أو الاقتصادية".