ربما يكون تخفيض المساعدات لإسرائيل أكثر القضايا المهمة حساسية في أمريكا، وخصوصاً بين أروقة الجمهوريين والديمقراطيين. لكن ردود الفعل تجاه تصريح ألكسندريا أوكاسيو كورتيز النائبة الديمقراطية عن مدينة نيويورك، كانت مؤشراً على مدى تغير الأمور في واشنطن، وكذلك على المدى الذي سيصل له هذا التغير، إذ كانت أقل حدة بكثير من المعتاد.
يقول ميتشل بليتنيك، وهو محلل وكاتب سياسي، في مقالة نشرها بموقع LobeLog الأمريكي، إن قرار ألكسندريا بتجنبها التطرق إلى موضوع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني -بالرغم من انتقادات بعض اليساريين لها- هو في الواقع قرار حكيم من جهتها، إذ كان من الواضح خلال حملتها أنها ليست على دراية كافية بهذه القضية. ومن الضروري أن يتجنب أعضاء الكونغرس الجدد الخوض في هذا الموضوع الخطير إلا إذا كانوا مدركين تماماً لما يريدون قوله والطريقة التي يريدون بها التعبير عن هذا القول.
لكن من الجائز أن ألكسندريا تتعلم، إذ عندما سُئلت، أوائل هذا الأسبوع، عمّا إذا كانت تفضل تخفيض المساعدات لإسرائيل، أجابت بأن الموضوع "… مطروح للنقاش بالتأكيد. أعتقد أنه أمر يمكن مناقشته".
وفي ردود الأفعال، أصدر المجلس الديمقراطي اليهودي (JDCA) بيانًا "متعالياً" ولكنه معتدل نسبياً، وطلب فيه من ألكسندريا التشاور مع ثلاثة من الزعماء الديمقراطيين البارزين، وجميعهم أعضاء يهود بارزون في الحزب الديمقراطي وتمتلئ سجلاتهم بالمواقف المؤيدة لإسرائيل، حول السياسة الأمريكية "الصحيحة".
وأنهى المجلس اليهودي بيانه بالقول: "لا بد أن تحل العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية محل السياسة". ومن المثير للدهشة أن المجلس لم يدن تصريح ألكسندريا، على الرغم من تضمينه للتصريحات المُضجرة المعتادة التي تقول إن دعم إسرائيل يجب أن يكون غير مشروط، ولا جدال فيه، ومنفصلاً عن أي اعتبارات باستثناء ما هو الأفضل لإسرائيل.
وقرر جيريمي بن عامي، رئيس جماعة جي ستريت السلمية المؤيدة لإسرائيل، التي تعارض تخفيض المساعدات الأمريكية، أن يبدي ملاحظاته حول تصريحها الكامل بدلاً من التركيز على جزئية قطع المساعدات. وغرّد قائلاً: "الرأي الدقيق لألكسندريا أوكاسيا كورتيز في أعقاب تعهد نتنياهو بضم الضفة الغربية: فتح باب النقاش حول العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. وجهة نظر جي ستريت: يمكن للولايات المتحدة أن تضمن الأمن الإسرائيلي دون تمويل الأنشطة التي تتعارض مع القيم الأمريكية، ومصالحها مثل ضم الأراضي لسيادتها، وعمليات الهدم".
التعاطف مع إسرائيل آخذ في التراجع بين الديمقراطيين
يقول بليتنيك -وهو متخصص في شؤون الشرق الأوسط-: تعكس ردود الفعل "المعتدلة" هذه إدراك التيار الرئيسي بالحزب الديمقراطي أن التعاطف مع السياسات الإسرائيلية وأفعالها آخذ في التراجع في الحزب، وأن التعامل مع إسرائيل على أنها محصّنة لم يعد مجدياً. أما الديمقراطيون الآخرون الأقل بروزاً فهم منقسمون أكثر من أي وقت مضى حول كيفية تحقيق التوازن بين الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكات حقوق الإنسان ومواقفها العسكرية والدبلوماسية العدوانية حول مخاوفها الأمنية المشروعة.
يمكن لهذه الحقائق الجديدة وينبغي أن تؤدي إلى نقاش جدي حول المساعدات الأمريكية لإسرائيل. لكن هذه القضية ليست بالبسيطة. إذ يجب أن يفهم المؤيدون لتخفيض تلك المساعدات، أو المؤيدون لاستخدامها كوسيلة ضغط على إسرائيل، الطريقة التي تُقدم بها هذه المساعدات، وكيف أنها تمثل تحدياً كبيراً لمؤيديها، وكيف يمكن الاعتراض عليها بطريقة ناجعة ومنطقية.
مذكرة تفاهم أوباما
في 14 سبتمبر/أيلول عام 2016، وقّع ممثلون عن أمريكا وإسرائيل على مذكرة تفاهم جديدة تحدد شروط المساعدات الأمريكية لإسرائيل للسنوات المالية في الفترة بين 2019 و2028. ولم تبالِ حكومة بنيامين نتنياهو كثيراً بفكرة انتظار الإدارة التالية. إذ كان من المرجح أن من سيتولى الرئاسة، سواء دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون، سيتعامل بإيجابية مع التيار اليميني الإسرائيلي ونتنياهو شخصياً أكثر من أوباما. ومع ذلك، قرر نتنياهو في النهاية، بعد تقديم أوباما زيادة كبيرة في المساعدات السنوية، أنه كان من الأفضل أن يُطرح الاتفاق للمناقشة.
زادت مذكرة تفاهم أوباما من التمويل العسكري الأجنبي FMF من 3 مليارات دولار سنوياً إلى 3.3 مليار دولار. وكفلت أيضاً تقديم مبلغ إضافي قدره 500 مليون دولار سنوياً لتمويل الدفاع الصاروخي. كانت مذكرة التفاهم السابقة، التي تفاوض عليها جورج بوش الابن، تُلزم الرئيس بطلب تمويل منفصل للدفاع الصاروخي كل عام.
وارتفع إجمالي المساعدات من 3 مليارات دولار إلى 3.8 مليار دولار سنوياً، لكن رافقتها بعض الشروط الجديدة. على مدار مدة الاتفاقية التي تبلغ عشر سنوات، سينتهي الاستثناء الخاص الذي يتيح لإسرائيل استخدام ما يصل إلى 26.3% من أموال المساعدات المالية لتمويل المشتريات الخارجية (OSP). يشير مصطلح المشتريات الخارجية إلى المواد المشتراة من مصادر أخرى غير الولايات المتحدة. وهذا الاستثناء الممنوح لإسرائيل يعني أنه يمكنها إنفاق 26.3% من الأموال التي حصلت بالمشاركة مع الشركات الإسرائيلية، مما يمنح صناعة الأسلحة والتكنولوجيا الإسرائيلية دفعة كبيرة.
الأثر الذي ستتركه إسرائيل في الاقتصاد الأمريكي
على سبيل المثال، أتاحت مذكرة التفاهم القديمة لإسرائيل إنفاق ما يصل إلى 400 مليون دولار من منحة التمويل العسكري الأجنبي السنوية لشراء وقود للطائرات. وتوقف هذا الامتياز في السنة المالية 2019، مما يعني أنه سيتعين على إسرائيل شراء الوقود بأموالها الخاصة. ويعكس هذا الأمر دافع أوباما وراء هذه التغييرات: إفادة الشركات الأمريكية لأقصى درجة عن طريق زيادة مبلغ المساعدات التي تعود إلى السوق الأمريكية.
وبدأ التقليل التدريجي لأموال المشتريات الخارجية هذا العام، ولكن إجمالي المساعدات الأساسي ظل كما كان في السنة المالية 2018، 815.3 مليون دولار، من حزمة مساعدات أكبر. ولكن في الفترة بين عامي 2020 و2023، ستنخفض أموال المشتريات الخارجية بمقدار إجمالي يصل إلى 10 ملايين دولار فقط. ولكن بحلول السنة المالية 2024، سيبدأ التخفيض في التسارع إلى أن تنقطع أموال هذا الامتياز تماماً عام 2028.
تنفذ الولايات المتحدة هذا التغيير تدريجياً لإعطاء الشركات الإسرائيلية التي استفادت من الفترة التي كانت تتمتع فيها إسرائيل باستثناء المشتريات الخارجية فرصة للتكيف مع الوضع الجديد. ومن المحتمل أن تندمج العديد من هذه الشركات مع الشركات الأمريكية، مما يزيد من عمق الشراكات التي تجمع بين الشركات الأمريكية والإسرائيلية في المجال التقني والعسكري. وقد تفضل بعض الشركات أيضاً فتح فروع لها في الولايات المتحدة، مما يزيد من الأثر الذي تتركه إسرائيل في الاقتصاد الأمريكي، وبشكل أساسي بين الشركات التي تشكل جماعات ضغط.
حماية المساعدات المقدمة لإسرائيل
إن التغييرات التي أجراها أوباما على اتفاق المساعدات الأمريكية تزيد من إصرار الناشطين الراغبين في محاولة الضغط على إسرائيل باستخدام المساعدات. إذ تبلغ ميزانية الدفاع الإسرائيلية لعام 2019 حوالي 63 مليار شيكل، أو حوالي 17.5 مليار دولار. وتمثل المساعدات الأمريكية حوالي 22% من تلك الميزانية، مما يجعل هذه المساعدات هدفاً مغرياً. لكنه ليس بالهدف الذي يسهل تحقيقه.
لطالما كانت المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، إلى حد كبير، بمثابة دعم حكومي لصناعة الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية. وبموجب مذكرة التفاهم التي وقعها بوش، بلغت نسبة هذا الدعم 73.7% من مبلغ 3 مليارات دولار سنوياً، أو 2.211 مليار دولار. والآن، ستبلغ نسبته 100% من مبلغ 3.8 مليار دولار بحلول عام 2028.
وهناك أيضاً أموال المساعدات المقدمة لمصر والأردن، والتي تنص عليها اتفاقيتا السلام اللتان عقدتاها مع إسرائيل. وترتفع أيضاً مبيعات الأسلحة لدول الخليج فيما تتطور قدرات إسرائيل العسكرية. وستعني هذه العوامل المزيد من الضغط المكثف من صناعة الأسلحة للحفاظ على الوضع الراهن، وبالتالي، الحاجة المُفترضة لأن تكون إسرائيل مدججة بالسلاح.
سوف تُعمق شروط المساعدات الجديدة أيضاً من حاجة إسرائيل إلى ضمان استمرار تأييد الكونغرس الكامل لحزمة المساعدات السنوية. يعني خسارة استثناء المشتريات الخارجية إيقاف حوالي 780 مليون دولار تُضخ سنوياً إلى صناعات الأسلحة الإسرائيلية. وعلى المدى البعيد، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تعزيز الاقتصاد الإسرائيلي، وتطوير قطاعها الخاص بصورة أقوى، ولا سيما عبر زيادة الشراكات العميقة بالفعل مع الشركات الأمريكية. ولكن على المدى القريب، سيؤدي هذا إلى خسارة كبيرة.
سوف يؤدي إلغاء استثناء المشتريات الخارجية وزيادة المعونات إلى زيادة اعتماد ميزانية الدفاع الإسرائيلية على الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى. وربما في نهاية المطاف يمكن لجهود القطاع الخاص الإسرائيلي الرامية إلى الاندماج مع الشركات الأمريكية وإلى تأسيس شركات تابعة للولايات المتحدة، أن تخفف من الخسائر، ولكن خلال السنوات القليلة القادمة، سوف تكون إسرائيل أكثر عرضة للتأثر بالضغوط.
هل تبدأ معادلة الدعم المطلق لإسرائيل في التغيّر العام القادم؟
لا يمثل ذلك شاغلاً في الوقت الحالي في ظل وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، وإحكام الجمهوريين سيطرتهم على مجلس الشيوخ، وفي وجود الديمقراطيين المؤيدين لإسرائيل الراسخين في قيادة مجلس النواب. ولكن في عام 2020، قد تبدأ هذه المعادلة في التغير، بالنظر إلى عدم الارتياح المتنامي من الاعتداءات الإسرائيلية بين الديمقراطيين الأصغر والأكثر تقدمية.
وبقدر ما سيكون ما سيُقال غير بديهي، فإن وقت معارضة إرسال المساعدات إلى إسرائيل، إذا كان ذلك هو الخيار الاستراتيجي، يحين الآن خلال إدارة ترامب. من المؤكد أن قيادة الحزب الديمقراطي الحالية لن يتغير موقفها من المساعدات لإسرائيل. لكن استهلال النقاش الآن، الذي بدأته للتو عضوة الكونغرس ألكسندريا، يمكن أن يساعد في تأسيس قيادة أكثر استعداداً لأن تضع ضغطاً حقيقياً على إسرائيل.
الخيار الاستراتيجي
بالرغم من هذا، فإن أي مواجهة لإنهاء أو خفض المعونة إلى إسرائيل سوف تستثير استجابة ليس فقط من جماعات الضغط التي على شاكلة أيباك ومسيحيين متحدين من أجل إسرائيل، بل أيضاً من بعض من أقوى الصناعات في البلاد. وسوف تكون حججهم هي الحجج المُجربة والحقيقية: أي تعرض للمعونة الإسرائيلية يمكن أن يؤدي إلى زوال الدولة اليهودية وسوف يكلف فقدان الوظائف في المناطق المعرضة للخطر في الولايات المتحدة، التي تعتمد على صناعات الدفاع.
كلتا الحجتين زائفة بكل تأكيد. صحيح أن أرباح صناعات الدفاع يأتي جانب كبير منها من المعونات إلى إسرائيل، لكن خسارة المعونة بالكاد تعني خسارة كل ذلك الدخل. لا شك أن إسرائيل سوف تغير ميزانيتها لشراء أسلحتها، وليس هناك عجز أسواق في مناطق أخرى بالنسبة للأسلحة الأمريكية. وسوف يستغرق الأمر سنوات كثيرة حتى تضاهي أي مجموعة من الدول العربية تقدُّمَ إسرائيل العسكري، وحتى إذا قطعت الولايات المتحدة المعونة عنها كلياً وعلى الفور، وهي فرضية مستحيلة.
علاوة على ذلك، سوف يكون التأثير الأساسي على إسرائيل اقتصادياً وسياسياً. سوف تتواصل قدرتها على شراء الأسلحة الأمريكية، لكنها سوف تحتاج فقط إلى التوصل إلى طريقة لتدبير أموالها بنفسها كي تفعل ذلك. ومع ذلك، طالما كانت الحجج المؤيدة لإسرائيل نافذة سياسياً وسوف تبقى كذلك.
العقبات أمام قطع الدعم الأمريكي لإسرائيل
وتلك عقبة واحدة فقط أمام قطع المعونة إلى إسرائيل. تعتبر مذكرة التفاهم نوعاً من الوعود بين البيت الأبيض وإسرائيل، لكن الكونغرس هو من يجب أن يُقر المعونة في موازنة كل عام. وتلك هي النقطة التي تبرز فيها قوة جماعات الضغط المختلفة. ولكن حتى إذا تمكنت جماعات الدفاع من تغيير رأي الكونغرس بشأن المعونة إلى إسرائيل، وهي مُهمة "خيالية دونكيشوتية"، فسوف يواجه هؤلاء بعض التحديات القانونية.
يلتزم الكونغرس بالقانون لضمان أن إسرائيل تحافظ على "تفوقها العسكري النوعي" في المنطقة. عُرِّف هذا في قانون "Naval Vessel Transfer Act of 2008" بما يلي: "القدرة على مواجهة وهزيمة أي تهديد عسكري تقليدي موثوق من أي دولة وحدها أو ائتلاف محتمل بين الدول أو من جهات فاعلة غير تابعة للدول، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الدمار والخسائر في الأرواح".
يتطلب القانون نفسه من الرئيس إبداء حكمه في أي مبيعات أسلحة إلى البلاد الأخرى في المنطقة، سواء كانت في صراع مع إسرائيل أم لا، وفي ضوء الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل. تَعزَّز كل هذا من خلال تشريع مُرِّر في 2012 و2014. وحتى قبل التعرض إلى مسألة معارضة الكونغرس لالتزام بمذكرة التفاهم المعنية بتقديم المعونة السنوية إلى إسرائيل، سوف يحتاج الكونغرس في البداية تعديل أو إلغاء هذه القوانين.
ما الذي يمكن أن يدعم معارضة الدعم الأمريكي لإسرائيل؟
تعني هذه العوائق أن أي معارضة للمعونة الأمريكية إلى إسرائيل تتطلب عوناً سياسياً أكبر بكثير. لكن ذلك لا يشكل بالضرورة حجة ضد حملة تسلط الضوء على تلك المساعدات. ثمة جوانب يمكن استغلالها، مثل التشريعات الأمريكية التي تنظم صادرات الأسلحة وانتهاكات حقوق الإنسان. بالرغم من أنه ليس من الواضح عدد المرات التي استخدمت فيها إسرائيل الأسلحة أمريكية الصنع في الأراضي المحتلة، وجَّهت مجموعات الدفاع اتهامات من حين إلى آخر باستخدامها هذه الأسلحة، وفي وجود أدلة داعمة لهذه الاتهامات. لا شك أن تواصُل الجهود الرامية إلى التحقق من هذه الانتهاكات لن يغير من ممارسات إسرائيل، لكن الدعاية الإضافية سوف تحقق مزايا واضحة من أجل مجموعات الدفاع عن حقوق الفلسطينيين.
إذ إن وجود حملة لخفض أو إنهاء المساعدات إلى إسرائيل، أو حملات أضيق نطاقاً من أجل ربط تلك المعونة بمطالب سياسية محددة، يمكن أن يحقق فائدة كبيرة للتشجيع على الحوار بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، حتى إذا لم تحقق أهدافها الأوسع. وإذا نظمت جماعات الدفاع حملاتٍ وهي تحمل في أذهانها مثل هذا الاستيعاب، فقد تحقق الفوائد الجانبية التي تستحق هذا العناء من أجلها.