مهما تكالبت الكلمات؛ لوصف آلام تعبق بالهموم تقتحم موجاته أفئدة أناس، لا يد لهم فيها، لن تستطيع هذه الكلمات أن تحيط بالوصف الكامل لهذه الآلام؛ لذلك من الأحرى أن مَن يتولى وصف هذه الآلام هم من يتجشمونها، بل وما زالوا يتكبدون قسوتها بثبات وصبر ونفس راضية، وإن كانت الظروف المعيشية المضنية تجبرهم أحياناً على تسليم كرامتهم للقمة العيش؛ فتؤول هذه الظروف بنفوسهم من حالتها المتجلدة الراضية إلى حالة أخرى بائسة وناقمة على هذه الظروف التي آلت بهم إلى موضعهم هذا، فبالتالي مهمة سرد هذه المعاناة بكل ما تحويه من آلام مادية تتضمن رضوخهم لواقعهم، وآلاماً معنوية تتعلق بتأذّي عواطفهم وأحاسيسهم، سيقف على سدة وصفها نموذجان من عمال المياومة، أتصور أن حكايات هذين العاملين جديرة بتجسيد جزء من المآسي المعيشية التي تنوء بها كواهل ملايين من أرباب الأسر، التي تتسلل معاناتهم إلى زوجاتهم وأطفالهم، بل الأكثر من ذلك أن هذه الظروف تحولهم في بعض الأحيان إلى أدوات تقوض حقوق أبنائهم.
العامل الأول:
لا لم أقصد الإجحاف ببناتي، أو أترك لولدي إرثاً من ضنك العيش، أو أسلب منه حقاً من حقوقه الطبيعية والقانونية كما تقول أنت، وهو حقه في التعليم، لا سيما في المرحلة الابتدائية، كما هو مقنن في قانون الطفل المصري، الذي تفضلت بالإشارة إليه، ولكن لا بد من التنويه بأن هذا الإرث لم يأتِ بين عشية وضحاها؛ لأنه كان ميراث والدي لي، نعم، التففت به عند ميلادي، كما يلتف المولود بقماشة حريرية عند ميلاده، كانت بالنسبة لي قماشة مهترئة، التصقت بمستقبلي المبهم، وما زالت ملتصقة بي حتى الآن، قماشة مرصعة بالجروح المتقيحة، ومن الإنصاف أن أشير إلى محاولات والدي في أن يحلحلها من على عنق مستقبلي، وتضميد ما تحويها من جروح، ولكن جميعها باءت بالفشل، وكانت النتيجة أنني لم أكمل تعليمي،
ومتكفل بمصاريف أسرتي منذ وفاة والدي، الإرث الوحيد الذي حصلت عليه من والدي، هو البيت المتواضع الذي أعيش فيه مع عائلتي، ومهنة والدي المتواضعة؛ حيث إنه كان يعمل ماسح أحذية (بويجي)، ولكن لا بأس، أنا أتفق معك في أنه لا يوجد عيب ما دامت المهنة شريفة، وهذه إحدى القيم النفيسة التي غرستها والدتي في عقلي، وأنا في باكورة عمري، عندما كنت أترفع عن مزاولة هذه المهنة، خجلاً وخشيةً من نظرة المجتمع المسربلة بالشفقة تارةً والاستعلائية والطبقية تارةً أخرى، فعملت كماسح أحذية، وكنت عندما أتقاعد يوماً عن العمل لأسباب مرضية، كانت والدتي تضطر أن تعمل مكاني؛ لأنه إذا ذهب إيراد اليوم ذهب معه عشاء اليوم وإفطار اليوم التالي، وبعد جهود؛ تمكن أخي أن يكمل مراحل تعليمه حتى أنتهى من الثانوية الصناعية، وتزلفت وتملقت للجميع حتى أستطيع أن أجد له وظيفة في إحدى الشركات، فوجدت له وظيفة بعد معاناة، وبعد ذلك، تزوجت، وتزوج أخي أيضاً، وقطنا مع والدتنا، وأنجبنا أطفالاً، بنين وبنات، وكانت الأوضاع مستورة في غَمار بيت أبي، ولكن هذه الأوضاع انقلبت رأساً على عقب،
بعد مرض والدتي وحملة الخصخصة التي قامت بها الحكومة المصرية في مستهل القرن الحالي، بالإضافة لارتفاع الأسعار وزيادة الأعباء علينا بنمو أطفالنا وكثرة مطالبهم، فعمل أخي معي في كل شيء حتى نحسن دخلنا ونقضي احتياجات أبنائنا، بل أصبحنا بمثابة أدوات في يد كل صاحب عمل، كنا نرضخ للقمة العيش، واضطررت أن أحرم بناتي من استكمال دراستهن وهن في المرحلة الإعدادية لتزويجهن؛ للتخفيف من على كاهلى، خاصة بعد وعد طالبين الزواج منهن بمعاونتي في تجهيزهن، فشعرت أن هذه فرصة لن تتكرر، فكان هذا سبباً قوياً لقبولي عرض الزواج، وللأسف؛ دفعتني ظروفي الحياتية إلى استغلال ولدي صاحب السبع سنوات اقتصادياً، وتشغيله في إحدى الورش؛ ليجلب لي قليلاً من المال؛ هذه هي نبذة موجزة تتضمن بعضاً من آلامي التي من الممكن أن أبوح بها لك، وهناك أخرى بمثابة غصة في صدري، لن أستطيع الإفصاح عنها. بعد هذا؛ لمَ تلومني الآن؟، أتظن أنني سعيد؟، عندما أسلب من ولدي حقوقه التي يتمتع بها أقرانه من الأطفال، أتظن أنني سعيد؟، عندما أزوج بناتي وهم في باكورة عمرهن، لا سيما في ظل ظروفي المعيشية الصعبة التي ترتبط مع مرور الزمن بعلاقة طردية.
العامل الثاني:
المعذرة، لن أستطيع أن أسرد الكثير عن نفسي؛ لأنني كلما سردت ظروفي، ازددت حنقاً من الجميع، ولكن في حقيقة الأمر، أنا الآن عالة على زوجتي التي تعيلني الآن، بعد أن بُترت قدمي، غير متعلم، وجدت نفسي في الحياة وحيداً، بعد وفاة والدتي ووالدي، تزوجت، وأحمد الله أنني لم أنجب، ولا أريد أن أنجب، أنا من العمال الذين يتكدسون في إحدى السيارات نصف النقل بعد فجر كل يوم للذهاب للعمل في إحدى المزارع، فمرة نكون تحت يد صاحب مزرعة يعاملنا معاملة آدمية، ومرة أخرى نكون تحت يد صاحب مزرعة يعاملنا كأدوات أو كأشياء، نعم، يتسق مع المقصود بمصطلح التشيؤ بعد تفنيدك له، حقوقنا في المعاملة الآدمية لا يحددها القانون، بل من يحددها الأنا العليا لصاحب العمل، وفي كل الحالات نرضخ للقمة العيش، ومن المسلَّم به أننا إن لم نرضخ؛ سنطرد ويأتي غيرنا؛ لذلك لا بد أن نرضخ والابتسامة مرتسمة على وجوهنا، فقدت قدمي بعد حادثة سير للسيارة التي تقلنا لموقع العمل، وحمدت الله أنني نجوت، بل حمدت الله على عملية بتر قدمي، بعد تبرع أهل القرية لي؛ لأنه لولا ذلك لتم طردي من المشفى كما أنت تعلم.
من خلال حكايات نموذجين من عمال المياومة، لا بد من الإشارة إلى أن عمال المياومة من الطوائف المنسية في الوقت الحالي، ولم توفر الدولة المصرية الحماية اللازمة لهم من خلال تقنين حقوقهم في نصوص قانونية تُغيثهم من براثن الظروف المعيشية المضنية، التي تمخضت عن السياسات الاقتصادية الرديئة، ولم يتم تسليط الضوء عليها من قبَل الأبواق الإعلامية، بل من قبَل أيضاً ما تبقّى من منظمات المجتمع المدني؛ لذلك هذه الحكايات الموجزة بمثابة توثيق لآلام طائفة مهمشة؛ ليعلم الجميع أنهم منسيون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.