كشف الهجوم الشرس الذي شنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الجمعة 12 أبريل/نيسان 2019، ضد المحكمة الجنائية الدولية وتهديداته برد سريع وقوي حال اتخذت المحكمة أي إجراء يستهدف بلاده أو إسرائيل، عن التحول في سياسة واشنطن تجاه المحكمة من الضغط في هدوء كي تلعب الدور الذي تريده أمريكا للمحكمة التابعة للأمم المتحدة، وهو أن تكون عصا غليظة لتأديب معارضيها إلى التهديد والابتزاز العلني.
ما هي المحكمة الجنائية الدولية؟
هي محكمة تابعة للأمم المتحدة تم تأسيسها عام 2002 بموجب اتفاقية روما التي وقعتها 123 دولة، ليست من بينها الولايات المتحدة، وتهدف إلى محاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحروب، ولديها سلطة قضائية دولية.
ويفترض أن تمثل المحكمة الملاذ الأخير لتحقيق العدالة عند وقوع تلك الجرائم وفشل النظام القضائي المحلي أو عدم رغبة النظام السياسي في محاكمة مرتكبيها.
وتسمى المحكمة الجنائية أيضاً بالمحكمة الدولية، وهي ليست معنية بمحاكمة أفراد لا يحملون مناصب رسمية، كما أنها لا تعمل بأثر رجعي، بمعنى أنها تتعامل فقط مع الجرائم التي وقعت بعد تأسيسها رسمياً في الأول من يوليو/تموز 2002، إضافة إلى أنها معنية فقط بوقوع تلك الجرائم داخل حدود دولة منضمة إليها، أو إذا قام مجلس الأمن الدولي بإحالة قضية ما إليها.
هل صدرت أحكام عن المحكمة الدولية؟
أول حكم صدر عن المحكمة الجنائية الدولية كان في مارس/آذار عام 2012 ضد توماس لوبانجا زعيم ميليشيات مسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية تمت إدانته بارتكاب جرائم حرب تتعلق باستخدام الأطفال في الصراع المسلح وحُكم عليه بالسجن لمدة 14 عاماً.
هناك أيضاً مسؤولون كبار تمت محاكمتهم، أبرزهم الرئيس الأسبق لكوت ديفوار لوران جوباجبو الذي اتهم بالقتل والاغتصاب وتهم أخرى تتعلق بالعنف الجنسي والاضطهاد وممارسات أخرى غير إنسانية.
الرئيس الكيني أوهورو كينياتا هو الآخر أدين أمام المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي بين عامي 2007 و2008، وأدين كذلك عام 2011 لكن تم إسقاط التهم عنه عام 2014.
وتطارد المحكمة الرئيسَ السوداني السابق عمر البشير منذ عدة سنوات، وهناك مذكرة بالقبض عليه وترحيله إلى لاهاي لمحاكمته بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها ميليشيات تابعة له في دارفور عام 2005.
والبشير هو الرئيس الوحيد الذي صدرت بحقه مثل تلك المذكرة وهو لا يزال في السلطة، وبالطبع وقت صدورها كان البشير على قائمة أعداء واشنطن.
هل هي محكمة دولية أم محكمة إفريقية؟
السؤال يبدو منطقياً في ضوء تلك المعلومات وكأن الجرائم التي تتولاها المحكمة لا تقع إلا داخل القارة السمراء!
في هذا السياق، نجد مثلاً أن المحكمة بدأت في 2015 تحقيقاً مبدئياً في الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة عام 2014 بعد أن قدمت السلطة الفلسطينية أدلة تفيد بارتكاب الجيش الإسرائيلي جرائم حرب، وقد صدر تقرير عن الأمم المتحدة يفيد بوجود أدلة على تلك الجرائم ارتكبها الجيش الإسرائيلي وحماس، لكن المحكمة لم تحرك ساكناً بعدها!
والقاضية الرئيسية في المحكمة فتاو بن سودا، وهي من جامبيا، وقد رفضت اتهامات التحيز ضد إفريقيا قائلة: "المحكمة الجنائية الدولية تعمل في صالح إفريقيا ولتحقيق العدالة للضحايا في إفريقيا، لذلك لا أعتقد أن يكون الاتحاد الإفريقي ضد هذا التوجه".
لماذا إذن استقال فلوج؟
إذا كان ذلك رأي بن سودا عام 2015، فالأسبوع الماضي اضطر القاضي كريستوف فلوج للاستقالة من المحكمة بعد أن عمل قاضياً بها لمدة تسع سنوات، معبراً عن انزعاجه الشديد من قيام الولايات المتحدة بتهديد المحققين الذين يحققون في اتهامات بارتكاب القوات الأمريكية جرائم حرب في أفغانستان، بحسب موقع روسيا اليوم.
فلوج أخبر مجلة دي تسايت الألمانية بأن التهديدات الأمريكية شملت حظر القضاة والمحققين من السفر أو التهديد بملاحقتهم قضائياً حال لم يسقطوا الاتهامات ضد العسكريين والمسؤولين الأمريكيين.
هل هذه أول مرة تستخدم واشنطن التهديد؟
استقالة فلوج وتصريحاته احتلت عناوين الصحف في ألمانيا وأوروبا، لكنها لم تكن مفاجأة لكثير من المراقبين الذين يرون أن واشنطن منذ البداية تستخدم المحكمة الجنائية الدولية كسلاح سياسي لترهيب من يختلف مع سياساتها خصوصاً في إفريقيا.
وبحسب الصحفي البريطاني نيل كلارك في تعليقه لـ "روسيا اليوم"، فإن واشنطن كانت تسعى منذ البداية للتأثير على هيئات المحكمة الجنائية الدولية من خلال القنوات الخلفية وأساليب الضغط المستتر، ولكن مع وصول إدارة ترامب للبيت الأبيض أصبح "الابتزاز والضغوط بشكل معلن".
كريستوفر بلاك محامي جنائي دولي أكد لـ "روسيا اليوم" نفس المعنى ملقياً مزيداً من الضوء على رؤية واشنطن لدور المحكمة، التي وقعت على ميثاق تأسيسها لكنها لم تصدق أبداً عليه في الكونغرس، وهو "تطويعها لأغراض سياسية، عن طريق التدخل في تعيين كبار المسؤولين في المحكمة مثل كبار المحققين والقضاة الذين يأتمرون بتعليمات الأجهزة الأمريكية".
وأضاف بلاك أنه عندما تفشل الوسائل الناعمة يأتي دور الوسائل الخشنة، مستشهداً بقضية كان أحد أطرافها وتم تهديده من جانب أمريكيين يعملون في المحكمة بأنه لو لم يحذف فقرات محددة في قرار إدانة المتهم سيتعرض للأذى.
سقط القناع كاشفاً الوجه الإمبراطوري
ترامب في بيانه، أمس الجمعة، قالها بوضوح: "أي محاولة لمقاضاة العسكريين الأمريكيين أو الإسرائيليين أو العسكريين من الدول الحليفة ستسفر عن رد قوي وسريع".
ورغم وصفه محكمة الجنائيات الدولية بـ "غير الشرعية"، فإن ترامب اعتبر رفض المحكمة طلب التحقيق في جرائم القوات الأمريكية في أفغانستان "انتصاراً دولياً كبيراً".
تهديدات ترامب جاءت بعد رفض الغرفة الابتدائية في المحكمة الجنائية الدولية، أمس الجمعة، طلب المدعي العام للمحكمة بشأن فتح تحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية يفترض أنها ارتكبت في أفغانستان، بدءاً من مايو/أيار 2003، وعللت قرارها بأن تحقيقاً كهذا في المرحلة الحالية لا يخدم مصالح العدل، مضيفة أن "الظروف الراهنة في أفغانستان تحدّ من آفاق إجراء تحقيق ناجح".
قرار المحكمة جاء بعد تهديد الإدارة الأمريكية بفرض عقوبات عليها ورفض منح تأشيرات لموظفي المحكمة على صلة بتحقيق في جرائم الجنود الأمريكيين في أفغانستان.
كما هددت واشنطن قضاة ومدعي المحكمة، على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، بتجميد حساباتهم البنكية ومنعهم من دخول الأراضي الأمريكية، فضلاً عن محاسبتهم قضائياً إذا واصلوا التحقيق في جرائم الأمريكيين والإسرائيليين وغيرهم من مواطني الدول الصديقة لأمريكا.
وتعليقاً على التهديدات الأمريكية أكد كل من كلارك وبلاك أن القناع الأمريكي الزائف برفع شعارات العدالة قد سقط وظهر الوجه الإمبراطوري لقوة عظمى ترى أن مواطنيها ومواطنين حليفتها إسرائيل فوق القانون أو المحاسبة.