ما زلتُ أتذكر لحظات قاسية جداً عشتُها منذ 3 سنوات، عندما تلقيت اتصالاً هاتفياً من أخي الأصغر بعد منتصف الليل وهو في قمة الانهيار ويبكي، وأخي هذا على معرفتي به من الأشخاص الذين لا يبكون أبداً.
أخبرني حينها بصوت مرتجف، بأنه اكتشف أنه يعاني روماً خبيثاً بالخِصْيَة، وأنه بعد أن تلقى العلاجات والفحوصات الأولية بمستشفى لوجانو جنوب سويسرا، تم تحويله إلى مستشفى جامعة زيورخ؛ حيث تلقى الكشف الطبي هناك والفحوصات على أيدي بروفيسور ألماني متخصص بهذه الجزئية، والذي أكد له بعد عمل موجات صوتية جديدة أنه يعاني ورماً خبيثاً بالخصية يستلزم استئصالاً جذرياً لها خلال يوم أو أسبوع على أقصى تقدير، وبعدها سيقرر ما إذا كانت تستلزم أخذ علاج كيماوي أو إشعاعي حسب تحليل الخصية.
أتذكر قسوة هذه الليلة، وأنها من أشد الليالي سواداً في حياتي؛ حيث كانت المفاجأة كصفعة تلقَّيتها، أطارت النوم من عينيَّ اللتين ملأتْهما الدموع حينها حتى الصباح حين استأذن أخي البروفيسور الألماني لأتحدث إليه في الهاتف.
كنت متعلقاً بأي أمل، أن يكون أخي قد اختلط عليه الأمر، عرّفته بنفسي، كنت حينها مدرّساً مساعداً بقسم المسالك البولية في جامعة القاهرة، وطلبت منه أن أعرف تفاصيل الحالة وخُطة العلاج المقترحة.
ما زلت أتذكر لَكْنته الإنكليزية الغالب عليها الطابع الألماني وهو يؤكد لي بكل ثقة وحسم وجدية، أن أخي يعاني ورماً خبيثاً في الخصية يستلزم الاستئصال العاجل لها.
كانت محاولات صعبة جداً لإقناع أخي بأن يأتي إلى مصر لتلقِّي العلاج؛ حيث كانت الصورة المستقرة في ذهنه عن طريق الإعلام المصري أن الأطباء بمصر متواضعو المستوى أو مستهترون أو "ماشيين بالبركة"، وأن العمليات ملوثة وعملية جراحية بمصر تساوي -في أغلب الظن- الموت أو مضاعفات خطيرة، أقنعته بأننا يجب أولاً أن نتأكد من صحة التشخيص وإذا تطلَّب الأمر بعد استئصال الخصية علاجاً كيماوياً أو إشعاعياً فليتلقاه في سويسرا؛ حيث التجهيزات والإمكانات هناك أفضل من دون شك.
وصل إلى مصر وعرضته على أحد أساتذة المسالك في قصر العيني، والذي قام بأخذ التاريخ المرضيِّ منه وبعدها فحصه، وأخبرني حينها بأن الفحص مطمئن، ولكن يجب أن نعيد عمل الموجات الصوتية مرة أخرى في مصر، حينها بدا الأمل ينفد في صدري وتحمَّست لعمل الموجات الصوتية مع اثنين من أساتذة الأشعة التشخيصية في جامعة القاهرة، حيث أكد كلاهما منفرداً أن الخصية بها تجمُّع دموي صغير وجزء صغير متجلِّط.
ما زلت أتذكر وأنا أسأل أحد الأساتذة عن ثقته بالتشخيص وخطورة الوضع إن كان هناك ورم وأهملناه، وضع حينها مجس السونار على الخصية مرة أخرى، وقال لي: هكذا يمكن أن يبدو كورم في الخصية، ولكن إذا وضعت المجس على الخصية بطريقة صحيحة ورأيت هذا الشكل الهرمي المميز في الخصية الخالي من أي أوعية دموية فستتأكد أنها مجرد جلطة صغيرة في الخصية.
عرضت الفحوصات والموجات الصوتية مرة أخرى على أستاذ المسالك، وقرر أنه لا داعي للجراحة، ووضع خطةً للعلاج التحفظي تشمل إعادة الموجات الصوتية مرة أخرى بعد 3 أشهر، كتبت لأخى تقريراً بما حدث في مصر وأرفقت به صور وتقارير الموجات الصوتية، حيث عرضها على البروفيسور الألماني بجامعة زيورخ، والذي اعتذر له وأكد صحة تشخيص الأطباء في مصر.
حكى لي أخي حينها أن هذا البروفيسور استدعى نواب قسم المسالك هناك في الجامعة، وظلوا يتناقشون في دقة ومهارة الفحص الطبي والموجات الصوتية التي تمَّت بمصر، وأن نائبة بالقسم هناك سألته عن الأشخاص الذين أجروا هذه الفحوصات، فأجابها بأنهم أطباء كلية الطب جامعة القاهرة. بعدها بـ3 أشهر في المتابعة، أكد له الطبيب الألماني نفسه أن كل شيء على ما يرام وكرر الاعتذار.
حدثت هذه القصة منذ 3 سنوات ولم أفكر مرة واحدة في كتابتها، إلا مؤخراً عندما تكرر سن السكاكين وتصويب الأسهم والاتهامات والادعاءات عن إهمال وتدني مستوى وفساد وجشع الطبيب المصري، أحاديث وحكاوي وإسهابات يتحدث بها غير متخصصين في المجال الطبي، ولا بأي شيء في الحياة غير الكلام والنواح، وآخرها حادثة المستشفى الخاص التي قام فيها جراح عظام مصري عالمي بزراعة يد مبتورة، في جراحة معقدة للغاية استخدم فيها الميكروسكوب الجراحي واستغرقت من الوقت ما يزيد على 15 ساعة من التركيز والإتقان والجهد الذهني والبدني الشديدين.
جراحة أن تجريها في مكان بالعالم فهو حدث في حد ذاته، أما أن تجريها وتنجح فهو حدث جلل يحتاج إلى فريق طبي متكامل غاية في المهارة والدقة ومستشفى مجهز بأحدث الأجهزة المكلفة جداً؛ لتتمكن من إعادة زراعة يد مبتورة وتوصيل الشرايين والأوردة والأعصاب والأربطة والعظام مرة أخرى، جراحة تتم مرات معدودة سنوياً على مستوى العالم، وأشخاص معروفون هم فقط من يقومون بها على مستوى العالم، اختار المريض أن يتلقى العلاج في مستشفى خاص بعد أن ذهب إلى مستشفى حكومي لم تتوافر به الإمكانات والأجهزة لإجراء هذه الجراحة، ووافق على شرط المستشفى بالدفع المؤجل للتكاليف بعد إجراء العملية.
المؤسف في القصة أنه بعد تماثل المريض للشفاء وحدوث المعجزة، أول شيء فعله بيديه هو كتابة شكوى في المستشفى، الذي يطالبه بدفع مبلغ مالي قدره نصف مليون جنيه! المؤسف أكثر أن يُستجاب لشكواه ويتم إغلاق المستشفى، أتفهم جيداً أنه من حق الجميع أن يضع نفسه مكان الأب أو الابن، وأنه يمكن أن يكون غير قادر على الدفع، ومن حقه أن ينال العلاج، ولكن من الإنصاف أن تضع نفسك أيضاً مكان رجال أعمال ومستثمرين دفعوا الملايين في مشروع، هو أولاً وأخيراً استثماري هدفه الربح أو على الأقل عدم الخسارة، مستشفى يشتري أجهزة طبية بملايين الجنيهات، ومستلزمات وأدوية بالملايين، ورواتب موظفين وتمريض وعمال بالملايين، وضرائب سنوياً بالملايين، من حقه أن يطالب بثمن الخدمة المقدمة.
المحزن في الموضوع هو خلط الأمور كالعادة، فبدلاً من أن تشتكي الدولة التي لم توفر لك هذه الخدمة أو تشتكي إليها مطالباً إياها بدفع هذه التكاليف عنك كمواطن لك حق عليها، اشتكيت المستشفى الذي لم يتباطأ في تقديم الخدمة لك، وأعطيت مثالاً سيئاً في خيانة الأمانة ونكران الجميل، قد يكون ذريعة في المستقبل لأخذ الطريق السهل "هذه الجراحة معقدة للغاية ولا نجريها هنا، يمكننا فقط أن نقدم إسعافات أولية ننقذ بها حياتك".
الأطباء ليسوا ملائكة، لا في مصر ولا غيرها لكن عندما تكون يدك مبتورة وتتاح لك الفرصة أن يجري لك الجراحة جراح عالمي مثل دكتور مصطفى محمود، ربما ستكون من المرات القليلة التي ستشكر الله فيها على وجودك بمصر، وعليك أن تتمنى أن يكون بها نوابغ مثله في كل مكان ومجال.
للأسف، مصر متأخرة في مجالات عديدة، ومتأخرة أيضاً بالرعاية الصحية، لأسباب معروفة، أغلبها ضعف الإنفاق الحكومي على هذا القطاع المهم جداً، ولكن هل الأطباء المصريون متأخرون أو متأخرون جداً ومنعزلون وغير مجارين لأحدث الاكتشافات والعمليات الجراحية على مستوى العالم؟ أم أننا فعلاً نطوِّر من أنفسنا ونبذل من جهدنا ووقتنا ونعمل بأقل الإمكانات في ظروف قاسية جداً وتربُّص من الجميع؟
على الإعلام المصري الموجَّه أن يراجع نفسه جيداً، وأن يستعين بالمتخصصين الاقتصاديين والأطباء للحديث عن مشاكل القطاع الطبي في مصر بشفافية بعيداً عن الكليشيهات المكررة من إهمال وأخطاء وجشع الأطباء، فالمنظومة أكبر بكثير من أفراد هم مجرد حلقة واحدة فيها.
وعلى المواطن المصري الذي يتلقى خدمات سيئة جداً في المواصلات والطرق والمياه والتعليم والشهر العقاري والسجل المدني والمرور والتكاتك، حتى التكاتك تحدد تسعيرتها وترفعها رغم رداءة الخدمة المقدمة وتحميل 4 "أنفار" في المرة الواحدة والرائحة النتنة التي تسيطر عليها، ولا أحد يتجرأ ويفتح فمه مع سائق توك توك لا يهتم بنظافة التوك التوك الخاص به.
دعونا نعترف بأن المواطن المصري أيضاً يتلقى خدمة سيئة في الرعاية الصحية، هذه الخدمة التي وبكل سلاسة وتلقائية يلقيها الجميع على كاهل الطبيب.
أتذكر الجملة الكوميدية الشهيرة، وإن دلت على شيء فهي تدلُّ على تحفُّز غير طبيعي من العامة ضد صغار الأطباء عندما يأتي أهل مريض مع ذويهم في حادثة ويستفتحون حوارهم بـ"فين الدكاترة ولاد الكلب اللي هنا؟"!
من السهل جداً أن يدَّعي الجميع أن الأطباء مهملون، ويذكر لك أن أحد أقاربه قد مات بسبب الإهمال الطبي، فهو بطبيعة الحال لا يذكر لك الحكاية كاملة، فيظل يكررها حتى يصدِّقها، ويدَّعي أنه كان داخل المستشفى على قدميه، وخرج منه على المشرحة، متناسياً عن عمد أو جهل، أن قريبه هذا لم يأتِ إلى المستشفى للتنزه، وأنه أتى إلى المستشفى كمريض لينال فرصة للعلاج قد تصيب في أكثر الأحوال، وقد تخيب في حالات متأخرة جداً لا يصلح معها العلاج، حتى ولو كان في أعظم مستشفيات العالم.
نعم، تحدُث أخطاء طبية ومضاعفات أحياناً، السؤال هنا: هل تحدث بمصر فقط أم في كل العالم؟ وأن كل حالة تحدُث فيها مضاعفات أو أخطاء يقابلها كم ألف حالة تم علاجها بنجاح وفي صمت دون أن يعلم عنها أحد شيئاً.
ومن السهل أيضاً أن يدَّعي الجميع أن الأطباء جشعون أو مصاصو دماء، فهو لا يعرف شيئاً عن مئات الأساتذة في مستشفيات الجامعة الذين يشترون الأجهزة وأحياناً مستلزمات العمليات للمرضى من جيوبهم الخاصة أو يستقطبون رجال أعمال من الأصدقاء والمعارف ليتبرعوا لهذه المستشفيات.
نعم، هناك الصالح والطالح، وهناك أيضاً أطباء فاسدون، دور الدولة أن تتصدى لهم بكل حسم، وليس دور المواطن أن يتعامل مع الطبيب كأنه متهم حتى تثبت إدانته.
كمية حقد وفوضى وعنف غير طبيعية ضد الطبيب المصري، وهو من القلائل الذين قضوا أكثر من نصف عمرهم في تحصيل العلم، سواء من أجل الالتحاق بكلية الطب أو في أثناء الالتحاق بها، أو بعد التخرج والتخصص، لتطوير الذات ومجاراة الحديث في الطب، ليالٍ طويلة من السهر والأرق والتوتر، تعب وسفر وامتحانات لا تنتهي، أيام قاسية عاشها الأطباء وأهلهم لكي يكونوا أطباء، ليس مِنّةً على أحد، فهو اختيارنا لم يجبرنا أحد عليه، لكن من حقنا أيضاً أن نطالب الجميع بالاحترام، احترام العلم والتخصص واحترام الطبيب المصري.
الطبيب المصري، الذي تترك آلاف الآلاف من المرضى في اليمن والسودان وليبيا والكويت والسعودية والصومال وأوغندا بلدانهم وتهاجر إلى مصر طلباً لمقابلة هذا الطبيب المهمل الجشع، دول كاملة بالخليج العربي عندما وضعت خططاً للتقشف الاقتصادي وتوفير الإنفاق، استثنت منها الأطباء المصريين، الذين يعتمد عليهم القطاع الصحي هناك بصورة تكاد تكون كاملة، عمليات زراعة الكلى والكبد والقلب المفتوح وجراحات المخ والأعصاب لا تتم فقط في مصر وعلى نطاق واسع؛ بل تم تصديرها من مصر إلى دول مثل السعودية، حيث بدأت واستمرت هناك على يد سفراء مصريين في الطب وبعض الخبراء الأوروبيين، مستشفيات كبرى بكل بقاع أوروبا وكندا وأميركا بها أطباء مصريون وبكثرة، ليسوا هناك بالواسطة أو من أجل جمال سِحنتهم، هم فقط هناك لأنهم يستحقون أن يكونوا هناك، ولأنهم يعرفون وعن تجربة، أن الطبيب المصري ليس أقل من الأطباء الأجانب في العلم والمعرفة والخبرة.
أكبر المراجع العملية في جراحة المسالك البولية فيها أجزاء كاملة كتبها العالم المصري الدكتور محمد غنيم، أستاذ المسالك والكلى بالمنصورة، في مقدمة الصفحات مكتوب "الدكتور غنيم هو من أكثر الأشخاص بالعالم درايةً وعلماً ودراسةً لهذا الجزء؛ نظراً إلى أبحاثه المهمة في آلاف الحالات التي أجرى لها جراحة بمستشفى الجامعة في المنصورة".
عمليات جراحية كثيرة ومعروفة في العالم كله باسم أطباء مصريين، مئات الأبحاث الطبية يقدمها أطباء مصريون في مجالات طبية عالمية ومؤتمرات دولية، مئات الأطباء من ماليزيا يأتون للدراسة بكلية طب القاهرة، مئات الأطباء من ليبيا واليمن وفلسطين والعراق يأتون بعد التخرج للالتحاق بفترات تدريبية في الجامعات والمستشفيات المصرية؛ للاحتكاك بالخبرة المصرية.
كل أملي أن نفكر قبل أن نتكلم أو نلوم أو نسبّ، لا أطلب من أحدٍ تقبيل يد الطبيب أو شُكره عرفاناً بالجميل، لكن اتركوا الأطباء في حالهم وانظروا وابحثوا في كيفية أن نطور نظام الرعاية الصحية من جذوره، كثير من الأطباء يتفانون بالعمل في صمت وجدية منقطعة النظير، وهم أيضاً مستاءون جداً من قسوة وفوضى كل شيء حولهم، واضطرارهم إلى العمل في أكثر من مكان لتوفير أدنى متطلبات الحياة الكريمة، هم يعرفون جيداً أن دخولهم في أي مكان بالعالم ستكون له أضعاف الدخل في مصر وبجهد أقل، وكثير منهم مَن فكَّر أو يفكر أو سيفكر في الهجرة، ولكن بقي البعض هنا رغم كل هذه الفوضى والاستباحة لأسبابٍ شخصيةٍ مختلفة، مثل ارتباطهم بالأهل أو الأصدقاء أو الذكريات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.