هل تصفَّحت يوماً قائمة هاتفك فلم تجد بها من يستحق أن يستمع لشكواك ولا من سيقدِّر لحظة الضعف التي أنت فيها. ثم أغلقته ولجأت إلى وسادتك التي ساندتك على الدوام، وربما أكثر من أي شخص تدَّعي أنه يحبُّك بصدق.. هذا الجماد الذي يحتويك بكل ما فيك ويمسح عنك دموعك مهما كان صبيبها، يساندك عند الحاجة، والأهمُّ أنه لا يصدر أحكاماً ولا يسألك لا كيف ولا لماذا ولا متى ولا أين.. تجدها دائماً بانتظارك، حتى عندما تتركها شهوراً طويلة وتختار وسائد الفنادق المخمليَّة وأنت تقضي عطلتك، تكون دائماً هناك مستعدة لسماع كلامك وحتى صمتك، لا تملُّ منك، ولا تشتكي يوماً أنك أثقلت عليها برأسك المليء جداً، والمكتظ بشتى أنواع الهموم وألوان الأحزان ومختلف الأفراح وعظيم الطموحات. وسادتك تختلف جداً عن باقي الوسائد ولو فاقتها جمالاً ونعومةً وطراوةً، لا تشبه أي واحدة أخرى، ولو كانت وسادةَ جدتك التي لا يضاهي جمال عطرها سوى بستان من ياسمين وريحان. لكن تلك التي اخترتَها واختارتْك، وحدها من يعرف مقاس رأسك وكذلك مقاس ما بداخله.
ما يربط بينك وبين وسادتك ليس مادياً ولم يكن يوماً، هو عاطفي وسحري، هو بالضبط ما يربط دمعة بخدٍّ اعتادته، وهو ما يربط حَلْقاً بأُذن لم يغادرها عقوداً من الزمن، وهو ما يربط باباً بمنزل عتيق ما زال يحمل بين كل شقٍّ فيه حكاوي وأسرار سكانه. قد تكون جماداً لا يعقل، لكنها أفضل من مائة قلب ينبض ويضخ لترات من الدماء الحية ممن تعيش بينهم. مهما اختلفت كسوتها وتنوعت وتجمَّلت كعذراء توشك أن يمنحها خليلها أول قُبلة، هي تحت رأسك لا يتغير جوهرها، ولا تمنح أسرار دموعك الدافئة لأحد، ولا تُحدِّث أحداً عن أحلامك وآمالك، وليس فيها من اللؤم ما يجعلها باسمةً في وجهك ناثرةً سُمَّها وراء ظهرك. قد تكون مجرد شيء لا يدرك ولا يفهم، لكنها تمنحك القدر الأكبر من الراحة الذي قد لا تجده في مكان آخر أو رفقة شخص آخر، أو حتى في حضن تظنه ملاذك الأخير.
هناك أشياء تربطنا بها علاقات سرية، لا يمكن تصنيفها ولا تجريدها، كعلاقتك مع مدخل الشارع الذي يؤدي إلى بيتكم، كالمُشط الذي اعتدت أن ترى أمك تصفِّف به شعرها، كالقلم الذهبي الذي يضعه والدك في الجيب الأمامي لسترته، كالوشاح المطرَّز بالأخضر الذي تضعه أمك فوق طاولة الأكل. كلها جمادات اعتدنا وجودها، لها في ذاكرتنا وجود ساحر، يكفي أن تعيد تذكُّرها حتى تنتعش أورِدتك وتنشط خلاياك ويلامسك فرح لذيذ يأخذك من عالمك المتأزم إلى ذاكرتك المليئة بالدفء والسلام.
ثم تبقى الوسادة التي حرصتْ على نومك السعيد، وعلى قيلولتك القصيرة، وعلى سِرِّك الصغير، حضناً وملاذاً تلجأ إليه عندما تخشى شماتة الأعداء وشفقة الأصحاب ولا مبالاة الأحباب. تقبع داخل غرفتك وحيدةً صامتةً لا تُصدر أحكامها عليك، ولا تنحاز لا إلى صفك ولا إلى صف غيرك، ولا توبِّخك إذا تأخرت ولا تلومك إذا ضعفك. تنصت فقط، وتحتويك بكل ما فيك، حَسنِك وسيَّئِك.. فما أحوجنا جميعاً للوسادة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.