إذ استيقظ غريغور سامسا ذات صباح، على أثر أحلام سادها الاضطراب، وجد أنه قد تحوَّل، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة. صبيحة يوم الأحد السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1912، كان يومها في التاسعة والعشرين من عمره، يعيش في منزل والديه، يشتغل على عمل روائي جديد، ويرفض بشدةٍ مغادرة سريره، منتظراً بشغفٍ رسالة خطية من خطيبته فلِيس باور، التي توقفت عن الكتابة إليه منذ مدة.
منتصف النهار، جاء ساعي البريد أخيراً، حاملاً رسالة إلى العاشق المعذَّب، فقام بالرد عليها مساء اليوم نفسه، مختتماً ردَّه بما يلي:
"سأشرع في كتابة حكاية جديدة، داعبت خيوطها روحي وأنا مستلقٍ على السرير، غارق في كآبة تسيطر على أبعد نقطة في أعماقي".
كانت هذه أولى إرهاصات تأليف رواية "التحوُّل" أو "المسخ"، أشهر مؤلفات الكاتب التشيكي فرانز كافكا وأكثرها تأثيراً في الأدب العالمي الحديث، صدرت لأول مرة عام 1915، وتعتبر إلى غاية يومنا هذا واحدة من أفضل الأعمال الأدبية في القرن العشرين، وتدرَّس في الجامعات الغربية كمثال لأعمال الخيال الشعري النموذجية عبر العالم.
يعمل غريغور سامسا بائعاً متجولاً بائساً، يجوب المدن لعرض بضاعة الشركة، ويضطر إلى ركوب القطار بشكل يومي، كل هذا للمساهمة في إعالة أسرته الصغيرة بعد تقاعد الأب ومرض الأم، وضرورة التكفل بمصاريف الأخت، يستيقظ ذات يوم ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة! حشرة مطالَبة بالتكيُّف مع واقعها المأساوي الجديد، والتغير التدريجي في تعامُل الأسرة مع هذا الواقع، بين التعاطف والتقزز والرغبة العارمة في التخلص من هذا "المخلوق" بعد التكيف البطيء مع الحياة "من دونه"، لتنتهي هذه المعاناة بموت الحشرة (غريغور) وإقبال الأسرة على فصل جديد من حياتها لا مكان فيه لابنها "السابق"…
تنتمي رواية "التحول" إلى المذهب العبثي في الأدب، والذي نشأ بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، متأثراً بفكر الفلسفة الوجودية والعدمية والحركة السريالية في الأدب، ويمكن إدراج روايات شهيرة كـ"الغريب" و"الطاعون" لكامو، "في انتظار غودو" لصامويل بيكيت، "العطر" لباتريك زوسكيند، "ثلاثية نيويورك" لبول أوستر، ضمن هذا التصنيف، وتتشابه جميعها في روح الدعابة واللاعقلانية، ودراسة معنى الوجود الإنساني من منظور فلسفي كما لو أنه بلا هدف أو عبثي الوجود، مع مسحة غموض وتحرُّر من البناء التقليدي للرواية المعتمدة على وجود حبكة تتصاعد فيها الأحداث مع تطور العقدة قبل أن تصل إلى الحل، دون أدنى تفكير من الكاتب في منح عمله ما يمكن اعتباره "بُعداً أخلاقياً"…
جاءت حشرة "التحول" كحدث مفصلي يمكن اعتباره ثورة أدبية أسست لما بعدها، كما أنها تمثل نقداً للحداثة التي ميَّزت أوروبا في تلك الفترة، وأيضاً للقوانين المجحفة التي حرمت البشر من إنسانيتهم، وجعلتهم مجموعة من النُّسخ المكررة منعدمة الإحساس، مع بُعد عدمي يتحول معه مصير كل راغب من التحرر من هذه القوانين إلى الفناء الذي جسَّدته النهاية المأساوية لـ"غريغور"، المغترب جسدياً ومادياً وأسرياً ونفسياً، في تجسيد عبقري لا يمكنه أن يصدر إلا عن عقل كابوسي كعقل فرانز كافكا.
صدرت عن "منشورات الجَمل" ترجمة جديدة للرواية، من إعداد المترجم المغربي مبارك وساط، حملت عنوان "التحول" عوض "المسخ"، وقد شرح المترجم في عرضه عن الرواية سبب اختياره هذا العنوان، بقوله إن الحديث عن مسخ يقتضي وجود ماسخ أو قوة خارقة أو سحرية في العمل، وهذا بطبيعة الحال غير موجود بالرواية، التي افتتحها كافكا بالعبارة التي بدأت بها التدوينة، هكذا فقط! فنحن لا نعلم كيف تحول غريغور إلى حشرة، كما أن الكاتب بدا غير مهتم بشرح أسباب ذلك، ليوجِّه أنظارنا بالفعل إلى ما بعد "التحول"، لا ما قبله.
لم أقرأ الترجمة السابقة حتى أقارن، لكنني أجد هذه الترجمة جيدة جداً، ما يجعلني أنصح بها كل راغب في قراءة هذه "القصة الطويلة" أو "الرواية القصيرة" الرائعة، والمستحقة بجدارة لمكانها بين روائع القرن العشرين، شرط قراءتها بتمعُّن، قصد محاولة فك شيفراتها ومعانيها، أو بالأحرى "ما ورائياتها" متشابكة الأبعاد، والمؤثرة إلى حد بعيد فيما يسمى تيار ما بعد الحداثة في الأدب العالمي، والذي يمكن اعتبار هاروكي موراكامي وبول أوستر وكبار مبدعي أميركا اللاتينية أشهر رواده حالياً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.