يشير تقرير لمركز دراسات Stratfor الأميركي، إلى وجود أربعة أسباب رئيسية، وراء هدوء مصر الدبلوماسي، في الآونة الأخيرة، بشأن سد النهضة الإثيوبي.
ويلفت التقرير، الصادر الأربعاء 6 يونيو/حزيران 2018، إلى أن أبرز تلك الأسباب هو فقدان القاهرة للخيارات أو أوراق الضغط، سواء الاقتصادية أو الدبلوماسية، أو حتى العسكرية، ورغبتها، بالتالي، في الحد، قدر الإمكان، من آثار السد السلبية، ومن ثم الاستفادة من المشاريع الاستثمارية التي ستتلو إنشاءه، والحد من انعكاساتها هي الأخرى سلباً على تدفق النيل، وأخيراً وليس آخراً، العزلة والضغوط الإضافية التي خلقها تحول الخرطوم من معسكر القاهرة إلى أديس أبابا.
وبحسب المركز، فإن الجولات الدبلوماسية المستمرة بين الدول الثلاث لا تبشر بأن تلك الأزمة ستهدأ قليلاً.
ففي منتصف مايو/أيَّار، اجتمع مسؤولون من مصر وإثيوبيا والسودان في أديس أبابا لمناقشة مشروع سد النهضة الكبير، المُقدَّرة كُلفته بحوالي 6.4 مليار دولار، ومن أجل التوصل إلى حلٍّ للمأزق المصري الإثيوبي حول مشروع توليد الطاقة الكهرومائية المزمع إقامته على ضفاف نهر النيل.
وبالرغم من أن المفاوضين، بمن فيهم وزراء خارجية هذه الدول، ورؤساء المخابرات ووزراء المياه، فشلوا في كسر حالة الجمود للخروج من المأزق، وقَّع هؤلاء على خارطة طريق جديدة لتأسيس مجموعة دراسة علمية لمراقبة واحدٍ من أكبر الشواغل التي تعتري الدولة المصرية؛ وهو معدل ملء الخزان بالمياه.
ويبدو أن المحادثات لا تفعل شيئاً سوى أنها تُوَلِّد مزيداً من المحادثات؛ نظراً إلى أن القاهرة لن يكون أمامها كثير من الخيارات إلّا تبنّي نبرة تصالحية في الأشهر القادمة، إذا كانت تريد تقليل آثار السد الجديد -وكذلك آثار أي مشروعات مستقبلية- على نشاطات المصب.
نزاعٌ على المياه
رغم المحاولات الدبلوماسية، سوف تبقى الاختلافات الجوهرية بين القاهرة وأديس أبابا (والخرطوم أيضاً)، في ظل اقتراب المشروع من إتمامه، المقرر نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2018.
تضمر مصر مخاوف مفهومة بشأن الآثار السلبية المحتملة للسد؛ لأن المشروع الضخم الواقع على مجرى النهر يحرمها من 95% من إمدادات المياه القادمة إليها من النهر. وبالتالي، ينتاب المسؤولين في القاهرة قلق خاص من معدل ملء خزان السد، الذي ستسير عليه أديس أبابا، لأن اتباع وتيرة سريعة في ملئه يمكن أن يفرض مزيداً من القيود على إمدادات المياه القادمة إلى مصر.
فقد أشارت شركة فرنسية، تُجري دراسات حول آثار السد، إلى أن إثيوبيا قد تمنع الاضطرابات التي لا داعي لها في تدفق المياه إلى دول المصب، إذا ملأت الخزان بوتيرة أبطأ، بالرغم من أن القاهرة وأديس أبابا تتنازعان حول النتائج التي توصلت إليها تقارير هذه الدراسات.
وفي نهاية المطاف، تأمل إثيوبيا في ملء الخزان خلال ثلاث سنوات، أو ما إلى ذلك، وهي مدة أقصر بكثير من الإطار الزمني الذي يستغرق عقداً من الزمن، والذي تفضله القاهرة.
تعتبر أديس أبابا من جانبها أن السد يعالج مشكلة نقص الكهرباء التي تواجه البلاد، ويُعزِّز من استراتيجيتها التنموية، وعند الانتهاء، سيجعل هذا المشروع الدولة الحبيسة، التي تضم أكثر من مئة مليون نسمة، أكثر جذباً للاستثمارات الخارجية.
ستكون المزايا ملموسة أيضاً للسودان، التي ستمتلك خياراً باستخدام فائض الكهرباء الذي ينتجه السد. وفي واقع المسألة، نجحت احتمالية وجود مزيد من الطاقة الكهربائية في إقناع الخرطوم للانتقال من طرف القاهرة إلى طرف أديس أبابا، وهو حتماً ما يثير غضب مصر.
استعدادٌ لما سيأتي
بيد أن شواغل القاهرة لا تقتصر على السرعة التي ستتبعها إثيوبيا في ملء الخزان، لأن المشروع الضخم الجاري يُرجَّح أن يكون واحداً ضمن عديدٍ من المشروعات التي سوف تسعى إثيوبيا والسودان لإقامتها على النيل أو روافده.
وتصل احتمالية وجود مزيد من المشروعات إلى لُبِّ الورطة التي تواجه مصر، بالرغم من أن القاهرة تختلف في الأساس مع أديس أبابا حول المشروع الحالي، لا يمكنها تحمل الانسحاب من المحادثات مع إثيوبيا، خشيةً من أن تجد نفسها وحيدة ومُتجاهَلةً في المشروعات المستقبلية.
كانت القاهرة لعقود من الزمان السلطة الأبرز على نهر النيل، ويعزى جانب من هذا إلى المعاهدات التاريخية بشأن توزيع المياه (في السياسات الدولية حول المياه، يكون من الصعوبة البالغة أن تُمنَع المياه ما دامت قد مُنِحَت)، وهو ما أتاح لها أن تُملي السياسات المتعلقة بالنهر.
ولكن نظراً إلى أن مصر سوف تستمر في فقد نفوذها على جيرانها في دول المنبع، ولاسيما في ظل فرد إثيوبيا عضلاتها في خضم النمو الاقتصادي السريع، فلا تستطيع تجاهل الحقيقة في وقت ستصير فيه المياه أندر بسبب الزيادة السكانية، والتلوث، وتسرب المياه المالحة إلى الرقعة الزراعية للبلاد والمراكز الرئيسية.
ونتيجة لهذه العوامل، ليس أمام القاهرة مزيدٌ من الخيارات إلا البقاء في المحادثات من أجل المساعدة على تشكيل معالم المشروع الهائل، الذي يُحتمل أن يشكل سابقةً لأعمال البنية التحتية المستقبلية.
لقد ولَّت تلك الأيام عندما كانت القاهرة قادرة على إعطاء الأوامر واتخاذ القرارات بشأن نهر النيل. وبغض النظر عما تفعله مصر، تمضي إثيوبيا قدماً نحو إتمام مشروعها الكبير.
ولمَّا كانت غير قادرة على ليِّ ذراع أديس أبابا عبر إجبارها على القيام بما تريد نتيجة لافتقارها إلى النفوذ، سوف تسعى مصر حتماً وراء تغييرٍ في الاستراتيجية بصورة تدعم مزيداً من التوافق.
لا توجد ضمانات بأن مقترحات القاهرة على أديس أبابا سوف تنجح، لكن مصر التي تعتمد على مياه النيل، لا يمكنها أن تفعل الكثير سوى الأمل بأن المساعي الدبلوماسية سوف تؤتي ثمارها.