ليلة باردة لم تمنع صاحب القيثارة من الغناء والعزف ونشر أجواء دافئة بشارع محمد الخامس بالرباط، أحد أكبر شوارع العاصمة المغربية وأهمها، فيما كان يحيط به شباب يتابعون عرضه بتركيز وإعجاب بنموذج لافت من فن الشارع في المغرب.
قبل سنوات قليلة ماضية، لم يكن من المستساغ أن تتواجد فرق موسيقية خارج الأماكن المغلقة الخاصة.
إلا أن موجة جديدة انطلقت من العاصمة الرباط جعلت أنس وأصدقاءه من أوائل الموسيقيين المغاربة الذين قرروا تقديم عروض موسيقية في الشارع عوضاً عن اقتصارها على دور الشباب أو الحدائق العامة.
فن الشارع في المغرب قوبل بنظرات مستنكرة في البداية
"كنا يافعين جداً، ودون إمكانيات للعزف في مسارح كبيرة، فكان الشارع متنفسنا الوحيد ومكان التقاء بين شباب شغوفين بالموسيقى والجمهور المغربي"، هكذا يتذكر أنس (27 سنة) بداية تجربته.
ويقول: "كان المارون يرمقوننا بنظرات مستغربة أو مستنكرة، قبل أن يتغير كل شيء".
لم يتقبل المغاربة بداية تواجد شباب يحملون عوداً أو كماناً أو قيثارة بالشوارع خاصة إن كان العرض المقدم لهم أغان وموسيقى غربية مختلفة تماماً عن الرائج بالساحة الموسيقية بالبلاد.
إلا أن أنس قرر التغريد خارج السرب، ليتجه لعزف "البلوز" و"الروك" و"الفانك" واتخاذ الشارع مسرحه الخاص بقصد إبراز مواهبه وتفريغ طاقاته الإبداعية.
ولكنهم الآن يتجاوبون معه
الأيام والتعود كانا كفيلين بانفتاح المغاربة على عروض الشارع الذي بات مكاناً للتعبير والإبداع، ما جعل المارة يُقدِّرون هذا النوع من الفنون ويتجاوبون معه بشكل إيجابي.
يقول أنس لـ"عربي بوست": هناك مجموعة من الشباب يحضرون خصيصاً عروضنا، يستمتعون ويغنون قبل أن يغادروا تاركين انطباعاتهم الجيدة وتشجيعهم الكبير.
وهذا الفن.. أقدم كثيراً من هذه الموضة الجديدة
قبل هذه الموجة التي اجتاحت شوارع المدن الكبرى المغربية، فإن المغاربة عرفوا فن الشارع منذ عقود طويلة عبر فن "الحَلْقَة" الشعبي.
وتستمد هذه العروض تسميتها من الدائرة البشرية التي يكونها الجمهور محيطاً فنانيه المفضلين ممن يقدمون عروضهم في الهواء الطلق.
وتعتبر ساحة "لهديم" بمدينة مكناس وساحة "جامع لفنا" الشهيرة بمدينة مراكش، اللتان اعتمدتهما "اليونيسكو" تراثاً إنسانياً، مهد فن الشارع المغربي، عبر احتضانهما لمجموعات فنية وعروض ثقافية شكلت المخيال الشعبي لأجيال من المغاربة.
وضجت الساحتان بفرق موسيقية وغنائية شعبية كان يعتبر أعضاؤها من النجوم، بالإضافة إلى حكايات عجيبة يقدمها "حكاواتيون"، إلى جانب مؤدي الحركات البهلوانية ومروضي الثعابين والقردة ومحترفي التداوي بالأعشاب وغيرها، ممن كانوا جميعاً يلجأون كذلك إلى استعراض مواهبهم بالأسواق الأسبوعية القروية وبمهرجانات شعبية تدعى "المُوسَم"، رغبة في احتكاك أكبر بالجماهير.
فنانون يتوجهون للجمهور
في أيامنا هذه، لا يزال فنانو الشارع المغاربة يبحثون عن سبل اللقاء العفوي بالجماهير والتفاعل معهم بطريقة تبث الفرح والسعادة في المكان، وهذا تماماً ما يعمد عازف الكمان أمين الشريف إلى فعله.
فقد كان المقهى المحاذي لمتحف الفن الحديث بالرباط هادئاً تغلفه أجواء رتيبة قبل أن يدخله العازف بقامته الطويلة.
وضع أمين الشريف الكمان على رقبته، قبل أن ينحني مُحيِّيا الحضور وينطلق في عزف مقطوعة للموسيقار رياض السنباطي، وهو ما جعل الجميع يلتفت للبحث عن مصدر الألحان الشجية التي لاقت تصفيقات حارة واستحساناً كبيراً.
يقول الشريف لـ"عربي بوست" أنه لم يتلق يوماً رد فعل سلبياً على الفن الذي يقدمه، "جميعها إيجابية وتشيد بي وبعزفي".
الشريف تتلمذ على يد والده المتخصص في العزف على آلة العود، فيما يجيد هو العزف على الكمان والأورغ والعود، لافتاً إلى أن عباقرة الفن الكبار توقعوا هذه الموجة، و"أن الفنان هو من يبحث عن جمهوره لا العكس" وفق تعبيره.
والمقاهي هي أفضل مكان لهم
ويقدم العازف فنه بالمقاهي والمطاعم والحفلات الخاصة والأمسيات الفنية، إلا أن "أكبر تجاوب يشهده داخل المقاهي الأدبية والشارع، فيما يكون إقبال وتفاعل الرجال أكبر من النساء"، حسبما يقول لـ"عربي بوست".
أنس الذي ترعرع في جو موسيقي، متأثراً بشقيقه الأكبر، التحق بالمعهد الموسيقي، منذ أن كان في الـ 12 من عمره، لصقل موهبته وتنميتها.
يقول "أريد أن أعزف وأبدع طيلة حياتي وألا أتوقف أبداً عن إنتاج الموسيقى"، كانت هذه الجملة التي رددها الفنانان المغربيان أنس والشريف.
يقول أنس في هذا الصدد، "لم تعد الموسيقى حبيسة الجدران، بل صارت متاحة للجميع. كما أن تقديم الموسيقى أمام شرائح مختلفة من المجتمع له رونقه الخاص والمميز".