واجهت مصر في تاريخها العديد من الأوقات العصيبة التي دفعت الشعب إلى الثورة على الأوضاع، والمطالبة بالإصلاح، واختلفت هذه التحركات بين أسباب سياسية واجتماعية أحياناً، وأسباب اقتصادية تتعلق بالاقتصاد والضرائب أحياناً أخرى، وهو ما سنختص بتتبعه في هذا المقال، وكيف عبر المصريون عن غضبهم ضد ارتفاع الأسعار والضرائب على مدار التاريخ؟
ففي عام 1695 عانت مصر من غلاء شديد ومجاعة لأسباب تتعلق بسوء إدارة المماليك لحكم البلاد، وتعرضها لأزمة اقتصادية طاحنة، واشتدت الأزمة حتى نزح أهل القرى إلى القاهرة، وامتلأت بهم الأزقة، وأكل الناس الجيف، ومات الكثير من الجوع، وخلت القرى من أصحابها وخطف الفقراء الخبز من الأسواق.
ويصف الجبرتي هذه الحالة فيقول: (في منتصف المحرم… اجتمع الفقراء والشحاذون، رجالاً، ونساء وصبياناً، وطلعوا إلى القلعة ووقفوا بحوش الديوان وصاحوا من الجوع، فلم يجِبهم أحد فنهبوا حواصل الغلة ووكالة القمح، وحصل بمصر شدة عظيمة وحضر أهالي القرى والأرياف حتى امتلأت منهم الأزقة، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق ومن الأفران ومن على رؤوس الخبازين، ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز يحرسونه من الخطف وبأيديهم العصي حتى يخبزوه بالفرن ثم يعودون به.. وأدى غضب الشعب هذا إلى عزل الوالي الظالم علي باشا خازن دار، وعُين مكانه والٍ آخر فجمع الفقراء والشحاذين ووزعهم على الأمراء والأعيان… واختص هو والأعيان بفريق منهم، وعين لهم ما يكفيهم من الخبز والطعام صباحاً ومساء حتى انقضى الغلاء.
كما ثار الشعب المصري بعد ذلك بسنتين (أبريل/نيسان 1697)؛ إذ طلب من ياسف اليهودي -ملتزم دار صك النقود- بالسفر إلى إسطنبول، وعندما سأله السلطان العثماني عن أحوال مصر وعن إمكانية زيادة الضرائب المفروضة على أهلها، أجاب بأنه من الممكن عمل ذلك، والتزم بتحصيل ذلك، فكتب له السلطان الفرمانات والأوامر السلطانية اللازمة وعاد إلى مصر، فلما نادى رجال الوالي بذلك بين الناس، ويصف الجبرتي موقف المصريين في ذلك فيقول: (فاغتمّ الناس وتوجّه التجار وأعيان البلد إلى الأمراء وتوجهوا إلى الوالي وسألوه أن يسلمهم اليهودي، فامتنع من تسليمه فأغلظوا عليه، وصمموا على أخذه منه فأمر الوالي بوضعه في السجن، إلى أن ينظر في أمره، فقامت الجند على الوالي وطلبوا أن يسلمهم اليهودي المذكور؛ ليقتلوه فامتنع، فمضوا إلى السجن وأخرجوه وقام الشعب بجمع الحطب وحرقه.
وفي يناير/كانون الثاني عام 1786م قام بعض سكان القاهرة بثورة ووجدوا في ذلك تأييداً من علماء مصر، لاسيما من الشيخ "أحمد الدردير" مفتي المالكية، فلقد قام حسين بك (المعروف بشفت أي اليهودي وكان من كبار المماليك) ومعه طائفة من جنوده قاصداً منطقة الحسينية، وهجم على دار رجل يدعى أحمد سالم الجزار، ونهبه حتى مصاغ النساء والفراش، ورجع والناس تنظر إليه)، وفي صباح اليوم التالي ثارت جماعة من أهل الحسينية، وذهبوا إلى الجامع الأزهر ومعهم الطبول، وشكوا أمرهم إلى الشيخ أحمد الدردير فشجعهم، فخرجوا من نواصي الجامع وقفلوا أبوابه، وصعد منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول… وانتشروا بالأسواق… وأغلقوا الحوانيت، وقال لهم الشيخ الدردير: في الغد نجمع الأهالى وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا، ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم) فأرسل له إبراهيم بك شيخ البلد وكبير المماليك، وقال للشيخ الدردير: اكتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون، واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانتهت الأزمة).
الثورة ضد مراد بك وإبراهيم بك
في عام 1795 أسرف محمد بك الألفي أحد أمراء المماليك في فرض ضرائب جزافية على سكان إحدى القرى القريبة من بلبيس فاستغاث الناس بالشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر، فثارت ثائرة الشيخ الشرقاوي وعزم على القيام بحركة شعبية يهتز لها مركز هؤلاء الأمراء، فذهب إلى الجامع الأزهر، وجمع إليه المشايخ وأمر بإغلاق أبواب الجامع إيذاناً بأن أمراً خطيراً قد وقع، وانطلق المنادون يأمرون بغلق الحوانيت وهجر الأسواق، وفي اليوم التالي كانت جموع الشعب تتجه من كل حدب وصوب إلى الجامع الأزهر، واكتظ المسجد والحي بالحشود الشعبية، وتقدم الشيخ الشرقاوي والمشايخ العلماء المواكب الشعبية الصاخبة، وذهبوا إلى بالقرب من دار إبراهيم بك حتى يرى غضب الشعب على حكومته، وطلبوا منه رفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوسات، واجتمع العامة والرعية إلى المشايخ والعلماء وباتو بالجامع الأزهر، فطلب مراد بك وإبراهيم بك مقابلة رؤوس المشايخ والعلماء لتلبية مطالبهم، وحضر الوالي هذا اللقاء، وأرادت الجموع أن تسير وراءهم إلى الاجتماع فمنعهم المشايخ وطلبوا منهم الانتظار في الأزهر، وطالت الجلسة وقرر البكوات في نهايتها أنهم تابوا ورجعوا والتزموا بما شرطه العلماء عليهم.
انتفاضة الخبز 19 يناير/كانون الثاني 1977
فى السابع عشر من يناير/كانون الثاني عام 1977 أعلن الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية، في خطاب له أمام مجلس الشعب بخصوص مشروع الموازنة العامة عن إجراءات تقشفية لخفض عجز الموازنة، عن طريق تنفيذ حزمة من الإصلاحات الاقتصادية التي يوصي بها خبراء صندوق النقد الدولي؛ لتوفير بعض الموارد المالية من قروض ومنح أجنبية.
وكانت الإجراءات التقشفية تتمثل في رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية؛ حيث تم رفع سعر الخبز بنسبة 50% والسكر 25% والشاي 35%، وكذلك بعض السلع الأخرى ومنها الأرز وزيت الطهي والبنزين والسجائر.
ففي حين كان السادات يعد الشعب المصري بالرغد والرخاء بعد سنوات الحرب الشاقة والخير الوفير الذي سيعم البلاد بعد الانفتاح؛ إذ فوجئ الشعب بهذه الإجراءات القاسية.
وكان في ذلك الوقت الحركات اليسارية والفكر الاشتراكي له قوة وثقل في الشارع المصري، بالإضافة إلى الحركات الطلابية في الجامعات.
بدأت الانتفاضة بعدد من التجمعات العمالية الكبيرة في منطقة حلوان بالقاهرة في شركة مصر حلوان للغزل والنسيج والمصانع الحربية وفي مصانع الغزل والنسيج في شبرا الخيمة، وعمال شركة الترسانة البحرية في منطقة المكس بالإسكندرية، وبدأ العمال يتجمعون ويعلنون رفضهم للقرارات الاقتصادية، وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة.
وبدأت نفس المظاهرات في الجامعات، وانضم الطلاب للعمال ومعهم الموظفون والكثير من فئات الشعب المصري في الشوارع والميادين بالقاهرة والمحافظات يهتفون ضد النظام والقرارات الاقتصادية، وحدثت مظاهر عنف، منها حرق أقسام الشرطة وأبنية الخدمات العامة ومنها أقسام الشرطة (الأزبكية والسيدة زينب والدرب الأحمر وقسم شرطة إمبابة والساحل وحتى مديرية أمن القاهرة)، واستراحات الرئاسة بطول مصر من أسوان حتى مرسى مطروح واستراحة الرئيس بأسوان، ووصل الهجوم إلى بيت المحافظ بالمنصورة، وتم نهب أثاثه وحرقه، ونزل إلى الشارع عناصر اليسار بكافة أطيافه رافعين شعارات الحركة الطلابية، واستمرت هذه المظاهرات حتى وقت متأخر من الليل مع عنف شديد من قوات الأمن، وتم القبض على مئات المتظاهرين وعشرات النشطاء اليساريين.
وظل الناس يرددون الهتافات، مثل: (يا ساكنين القصور الفقرا عايشين في قبور، يا حاكمنا في عابدين فين الحق وفين الدين، سيد مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه، عبد الناصر ياما قال خلّوا بالكم م العمال، هو بيلبس آخر موضة وإحنا بنسكن عشرة ف أوضة).
استمرت الانتفاضة يومَي 18 و19 يناير/كانون الثاني وفي 19 يناير خرجت الصحف الثلاث الكبرى في مصر تتحدث عن مخطط شيوعي لإحداث بلبلة واضطرابات في مصر وقلب نظام الحكم، وقامت الشرطة بإلقاء القبض على الكثير من النشطاء وتصاعد العنف.
فرأى الرئيس السادات أنه من الحكمة التراجع عن هذه القرارات، وأعلن عن إلغاء القرارات الاقتصادية ونزل الجيش المصري لمنع المظاهرات، وأعلنت حالة الطوارئ وحظر التجول من السادسة مساء حتى السادسة صباحاً، وتم القبض على مجموعات من المشاركين في التظاهرات، ووجهت إليهم تهم المشاركة بأحداث الشغب أو الانتماء لتنظيم شيوعي ثم تم الافراج عنهم لاحقاً.
وانتهت الأحداث التي وصل عدد القتلى فيها إلى حوالي 80 وأُصيب 800 آخرون. وظلت هذه الأحداث عالقة في ذهن نائب الرئيس وقتها حسني مبارك الذي تولى الرئاسة بعد ذلك مدة ثلاثين عاماً ظل يرفض طوال هذه السنوات رفع الدعم والإجراءات التقشفية خوفاً من تكرار أحداث يناير/كانون الثاني 1977 مرة أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
– د. عمر عبد العزيز عمر، تاريخ مصر الحديث والمعاصر، دار المعرفة الجامعية، 2002.
– عجائب الآثار في التراجم والأخبار تاريخ الجبرتي، دار الكتب المصرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.