لنفترض أنك أب/أم تتابع بعض الأعمال بعد أن أمضيت يوماً بأكمله الأسبوع الماضي مع أطفالك في إحدى المتنزهات، ثم يقول لك طفلك بصوت تعيس: "نحن لا نخرج أبداً". وحدهم القديسون هم من يقاومون الجواب بالقول: "هذا كلام فارغ! لقد ذهبنا إلى متنزه ليغو لاند الأسبوع الماضي".
لكن، لنفترض أنك وجدت هذا الجانب "القديسي" من شخصيتك وقلت بدلاً من ذلك: "يبدو أنك تشعر بالملل والضجر. ماذا تريد أن تفعل؟".
قد يشعر الطفل عندئذ بالرؤية والمفهومية. قد يقول: "أريد أن أعود إلى متنزه ليغو لاند".
وحينها سوف تكون عندك لحظة تواصل [مع طفلك] عندما تجيب: "نعم، لقد كان ذلك ممتعاً أليس كذلك؟".
تربية طفل سعيد تتطلب استعادة الذكريات
بالطبع، لا يتوجب على الوالدين إعطاء الأطفال كل ما يريدونه، أو أنَّ من المرغوب فيه أن يفعلوا ذلك، لكنَّ التعامل بلطف مع الأطفال بينما يواجهون خيبات الأمل الحتمية في الحياة، يمكنّنا من أن نعلمهم أن يتعاملوا بشكل أفضل مع الإحباط.
إنَّ لحظات التواصل التي نشعر فيها بأنه قد جرت رؤيتنا وفهمنا، لحظات مهمة لنا جميعاً.
هذا ما كتبته المعالجة النفسية البريطانية ومؤلفة كتاب "Couch Fiction" فيليبا بيري، في مقال نشر على صحيفة Financial Times الأمريكية، تطرقت فيه إلى تلك المساحة بين الأهل والأطفال والتي قد تمتلئ بغياب التواصل أو سوء الفهم وأحياناً المشاعر السلبية.
لكنها أشارت إلى أن التواصل مع الأولاد ليس أمراً صعباً على الإطلاق، إنما يتطلب فهماً لدوافع الأطفال وزيارة بين الحين والآخر لذكرياتنا كآباء من الطفولة.
استكشاف مشاعر الطفل بدل الشعور بالعجز والتعاسة
فتعاسة الطفل قد تجعل الآباء يشعرون بالفشل، ومن ثم يثنيهم ذلك عن استكشاف مشاعر الطفل، ويرغبون في كتمها بدلاً من ذلك.
قد يجد الآباء أنفسهم يجادلون مع أطفالهم لأنهم لا يستطيعون إدراك المشاعر الكامنة وراء كلمات أطفالهم أو أفعالهم.
سوف يشعر الأطفال، غالباً، بشعور قد يخالف شعور آبائهم حول موقف بعينه، لكن من المهم عدم نبذ مشاعرهم، أياً كانت هذه المشاعر.
عندما تؤخذ مشاعرنا في الاعتبار ويجري إضفاء المشروعية عليها، فإنَّ ذلك يساعد تقديرنا لذاتنا وهذا أمر أكثر أهمية للأطفال بينما يتطورون وينمون.
وكمعالجة نفسية، توضح بيري أنها جلست مع أولئك الذين تصالحوا مع ما عاشوه في طفولتهم، وما لم يعيشوه على حد سواء.
كان الكثير يشعرون بالإحباط من أنَّ آباءهم لم يبدوا أبداً فضولاً بشأن حيواتهم.
شعر البعض بالحب لأنَّ آباءهم رأوهم امتداداً لأنفسهم، لكنهم شعروا بأنَّ والديهم لم يشعروا قط أنهم جديرون بالمحبة.
إذا كان بإمكانك أن تعيد طفولتك، فما الذي ترغب فيه؟
الأطفال ليسوا مشاريع لننجح بها.. بل هم أشخاص نتواصل معهم
كل الآباء والأمهات تقريباً أشخاص جيدون، ومع ذلك فإنهم في كثير من الأحيان لا يعرفون أطفالهم أبداً، ولا يعرفون عوالمهم، ما يؤدي إلى علاقة يكون الكثير فيها مخفياً، ويكونون فيها مدفوعين، في كثير من الأحيان، بشعور بالواجب، لا بشعور بالحب.
ينبغي للطفل أن يعرف أنه أولوية وأنَّ من الممكن أن يظهر مشاعره ويشاركها، وأنه يؤخذ على محمل الجد.
إنَّ الوحوش الكامنة تحت السرير، ليست أمراً سخيفاً، بل هي طريقة الأطفال ليظهروا لوالديهم أنهم يحتاجون منهم أن يكونوا قريبين وهادئين ومتقبلين.
إنَّ الأطفال ليسوا مشاريع -وهي أشياء نفعلها بشكل صحيح أو نفسدها- وليسوا أعمالاً روتينية ننتهي منها، وإنما هم أشخاص نتواصل معهم.
الأهم من تأمين حاجات الطفل التواصل معه
هذا هو الأمر الأهم الذي ينبغي للآباء وضعه في اعتبارهم: أنَّ ما يحتاجون إلى تقديره والتفكير فيه والعمل عليه ليس طفلهم، بل علاقتهم بطفلهم.
إنه نفس الشيء تقريباً، لكنَّ الآباء بتركيزهم في أكثر الأحيان على الطفل فحسب، لا يستطيعون رؤية الطريقة التي تؤثر في استجاباتهم على ذريتهم.
فهم بحاجة إلى الاستجابة إلى كل طفل بوصفه فرداً مثلهم، بدلاً من الاعتماد على تصنيفات مثل "الفتاة" أو "الولد" أو "الأكبر"، أو "الأصغر"، أو التعميمات حول الأطفال.
يميل الآباء إلى أن يكونوا جيدين في التفكير بمستقبل أبنائهم والفرص التي يمكنهم خلقها لهم عندما يختارون المدارس ويحددون الأهداف، لكن الأهم من ذلك أن يكونوا حاضرين معهم-أن يروهم، ويفهموهم، ويتقبلوهم حيث هم الآن.
إذا تصرف الوالدان وفق ما يصلح لطفلهما في الحاضر، فإنَّ المستقبل غالباً ما يكون أسهل بكثير.
الحوار مع الطفل نافذة إلى أفكاره وعالمه الخاص
يتمثل أحد أهم المؤشرات للصحة العقلية الجيدة للطفل في العلاقة القوية مع والديه-علاقة صحية وفعّالة.
لكن كيف تجعل مثل هذا الارتباط مجزياً قدر الإمكان لكلا الطرفين، ويكون ارتباطاً من المرجح أن يخلق الإمكانية لسعادة الطفل؟
من البداية، يكون الأطفال مستعدين للحوار. إذ عادة ما يتناوب أحد الوالدين، بشكل طبيعي، مع الطفل الرضيع في إحداث تعبيرات الوجه والضوضاء.
وعادة ما يحدث هذا النوع من التفاعل بشكل عفوي، دون حتى تفكير فيه.
تلك بداية الحوار، حوار الكلام والتأثير المتبادل بين بعضهم بعضاً.
أنماط التبادل هذه حاسمة. ذلك أنَّ من السهل للغاية الوقوع في عادة فعل جميع الأشياء الضرورية فحسب للطفل الرضيع أو الأطفال الصغار، مثل تنظيفهم وإطعامهم، بدلاً من الارتباط بهم والتأثر بهم.
لا بد من إشراكه في بعض القرارات
ما هي العلاقات التي تحبطك أكثر من غيرها؟ من المحتمل أن تكون هي العلاقات التي تشعر فيها أنك لا تحدث أي فارق وأنك غير مسموع.
يشعر الأطفال بالأمر ذاته. إذا لم يشركهم الآباء، ولم يسمحوا لأنفسهم بالتغير بفعل رؤى أطفالهم، فإنَّ أطفالهم يكونون أقل احتمالاً بأن يستوعبوا، بدورهم، كيف يريد الآباء التأثير عليهم.
توضح بيري أنها لم تجد هذه التبادلية، حين كانت أماً، أمراً سهلاً.
وربما يرجع ذلك لأنَّ الاستماع لما تقوله وأخذها على محمل الجد لم يكن تجربة يومية بالنسبة لها أثناء نشأتها.
بدا وكأنها تتعايش غالباً مع احتياجات طفلها على أنها استنزاف للطاقة أو أنها احتياجات كثيرة.
كان عليها أن تعمل على إعادة برمجة نفسها للاستجابة لهذه الاحتياجات بطريقة متناغمة مع الطفل، لا على أنها نوع من الاعتداء.
وتقول: "أعتقد أنَّ لدي اعتقاداً غير واع بأنَّ على الشخص البالغ أن يكون "الفاعل" والطفل أن يكون "المفعول لأجله".
ديافوبيا.. الخوف من الحوار والتبادل والتأثر
نميل لفعل ما فُعل لنا، وفي بعض الحالات يبدو أنَّ قدرتنا الفطرية على الاستجابة بشكل طبيعي لأطفالنا الرضع وأطفالنا الأكبر سناً قد أميتت بفعل ثقافة تنظر بعين الريبة للصرخات الطبيعية للأطفال الرضع.
ولسوء الحظ، فقد أصبح من الطبيعي أن نعتقد أنه لو كان ثمة والد يستجيب بشكل طبيعي وغريزي لصرخاتهم، فنحن أمام كارثة من الكوارث.
إذا لم يستجب لنا بشكل طبيعي بطريقة مشتركة وتبادلية حين نكون رضعاً وأطفالاً صغاراً، فإنَّ ذلك قد يتداخل مع قابليتنا للاستجابة في وقت لاحق في الحياة.
وقد أشار الطبيب النفسي الراحل آر دي لانغ لهذا العجز عن التأثر بالآخرين بأنه "ديافوبيا" الخوف من الحوار والتبادل والتأثر [بالآخرين].
بالنسبة للرضع والأطفال والبالغين أيضاً، فإنَّ حصولك على الاستجابة من قبيل الحاجات، وعادة ما تعني استجابات الآباء أكثر بكثير بالنسبة لشخص ما من اهتمام المصادر الأخرى.
ولو فشل الوالدان عادة في الاستجابة لصرخات طفل ما، أو نظراته، أو ألعاب التناوب، فإنَّ ثمة خطراً من تقديم نمط مشوه لهم عن كيفية تكوين الروابط والحفاظ على العلاقات.
لو كنت والداً، وتشعر أنك ربما تكون مصاباً بالديافوبيا، فلا تعاتب نفسك، أو تنكر الأمر أو تشعر بالخجل.
عندما تدرك أنك تقاطع عملية الأخذ والعطاء الطبيعية في تعاملاتك مع طفلك، فيمكنك إجراء التغييرات التي سوف تسمح لك بالتناغم معهم.
هل توجه الحديث لأولادك أو تتحدث معهم؟
من الأسهل أن نرصد الديافوبيا في الآخرين من أن نرصدها في أنفسنا، لكن ينبغي للآباء أن يحاولوا ملاحظة الأوقات التي يتجنبون فيها التواصل مع طفلهم الرضيع، أو الصغير، أو المراهق، أو البالغ.
ينبغي لهم أن يحاولوا ملاحظة إذا ما كانوا يميلون للكلام إليهم بدلاً من الحديث معهم.
ينبغي لهم أن يحاولوا ممارسة الانفتاح وترك مساحة لهم للكلام أو الإيماء، والتركيز بشكل أكبر على المراقبة والاستماع، بدلاً من التفكير في الطريقة التي سوف يردون بها أو ما "ينبغي" لهم قوله.
وعندما نخطئ، وكلنا نخطئ، فإنَّ الاعتذار مفيد.
قوة الاعتذار في الاعتراف بخطأ الوالدين أحياناً
ربما يمكنك تذكر أوقات في علاقتك بوالديك عندما لم يؤمنوا بك، أو عندما نهروك بلا سبب.
فكر في القوة التي كانت لتكون للاعتذار-حتى ربما لو وقع ذلك بعد سنوات.
من الطبيعي على مستوى ما أن نبجل الوالدين، لذا لو أساء الآباء فهم أطفالهم، فإنهم عادة ما يلومون أنفسهم على حساب ثقتهم بأنفسهم.
وربما يسأل أحد الآباء: "لكن أليس من الضروري دائماً أن نكون محقين مع الأطفال، لكي يشعروا بالأمان؟".
والجواب على ذلك: لا. من المهم بدلاً من ذلك أن يكون الآباء حقيقيين وجديرين بالثقة، لئلا يتعارضوا مع غرائز أطفالهم.
سوف يعرف الأطفال عندما لا يكون آباؤهم متناغمين معهم أو مع ما يحدث وإذا تظاهر الآباء بالعكس، فإنهم يبلدون غرائز أطفالهم.
إنَّ الغريزة مكون أساسي من مكونات الثقة والكفاءة والذكاء، لذا فمن الجيد ألا نشوه غريزة الطفل.
جميعنا مشغولون، وفي أيامنا هذه ليس المحتمل فحسب أن يكون الأبوان يعملان، بل ربما حتى يتعين عليهما القيام بأكثر من وظيفة.
ثمة شعور بالتخلف عن الركب وضرورة المواكبة.
يمكنك تفويض الاعتناء بهم لآخرين ولكن ليس الحب..
والأمر صحيح بالنسبة لمعظم الأطفال أنَّ بإمكانك تفويض بعض الاعتناء بهم إلى الأقارب أو إلى مساعدين مقابل أجر، لكنَّ ما يصدق على الجميع أنه ليس بإمكانك تفويض الحب اليومي الذين يحتاجونه من شخصيات التعلق الأساسية لهم، والمعروفة أيضاً باسم الآباء.
لا يتشكل الأطفال من تلقاء أنفسهم مثل الشتلات، وإنما يتشكلون في العلاقة مع الآخرين.
أن تكون والداً فهذا أمر مستهلك للوقت. ومن الأفضل، كلما كان ذلك ممكناً، أن تستثمر الوقت بشكل إيجابي من خلال استباق المشكلات بدلاً من [التعامل] السلبي معها بعد نشوئها.
عندما يمشي الآباء أسرع من وتيرة أطفالهم بدلاً من احترام إيقاعاتهم في الأخذ والعطاء، وعندما يعيشون أكثر من اللازم في المستقبل وما ينبغي القيام به بدلاً من أن يكونوا مع أطفالهم في الحاضر، فإنهم يخاطرون بتخزين المشكلات التي سوف تستغرق وقناً أطول لفكها وإصلاحها.
وقضاء الوقت معهم استثمار في مستقبلهم
الأطفال أهم مواردنا. وكذا، فإنه ينبغي لنا أن نستثمر الوقت فيهم، وأن نكون حاضرين من أجلهم، وأن ندخل عالمهم وأن نسمح لهم بأن يكونوا جزءاً من عالمنا.
وفي نهاية المطاف، فإنَّ علاقة الطفل بوالديه بمثابة المخطط للطريقة التي سوف يشكل بها علاقاته لبقية حياته.
ومن المفترض أن تبنى هذه العلاقات على الثقة والاحترام المتبادلين، والأصالة والتعاون والحب-لا التلاعب، والمكسب والخسارة والواجب-من أجل الحاضر، ومن أجل مستقبلنا جميعاً.