اعتبرت مجلة Foreign Policy الأمريكية، أنه رغم التراجع الكبير في الحروب التقليدية التي دوماً ما تُخلِّف آلاف القتلى، على غرار الحروب العالمية، فإن عدد الضحايا من البشر ما زال مرتفعاً، والسبب الأساسي في ذلك يعود إلى العنف الذي تمارسه الدول تجاه مواطنيها، والعنف الذي تمارسه المافيا.
وقالت المجلة الأمريكية، إنه عملياً، أصبح العالم اليوم أقل عنفاً من أي وقت مضى في تاريخ البشرية؛ إذ انخفض عدد الوفيات الناجمة عن النزاعات المسلحة بين الدول بشكل كبير منذ خمسينات القرن الماضي. وعلى الرغم من ارتفاع عدد ضحايا الحروب الأهلية في السنوات الأخيرة، فإنها ما زالت تتراجع بشكل كبير منذ نهاية الحرب الباردة. وبعد زيادتها خلال العقد الماضي بدأ عدد قتلى الحوادث الإرهابية حتى في الانخفاض. كذلك ينخفض عدد جرائم القتل في معظم أنحاء العالم.
كل هذا يعد سبباً مقنعاً للاحتفال، لكن هذه ليست هي القصة الكاملة، فرغم أن العالم قد أبلى بلاءً حسناً في الحدِّ من أشكال معينة من العنف، فهناك أشكال أخرى في ازدياد، لاسيما عنف الدول تجاه مواطنيها، والعنف الإجرامي من المافيا وعصابات المخدرات والعصابات الأخرى. ومما يعقّد الأمور أن حالات القتل التي تتورّط فيها الدولة وحالات القتل بسبب الجرائم غالباً ما تتشابك؛ إذ ربما يتعاون رجال السياسة والشرطة والمسؤولون الآخرون مع زعماء العصابات الإجرامية؛ مما يصعب الكشف عن جرائمهم، بحسب المجلة الأمريكية.
هذا لا يعني أن منع، والحدَّ من إراقة الدماء مستحيل، إذ أصبحت أشكال أخرى من جرائم القتل المنظمة أقل شيوعاً بسبب أن النشطاء وصناع السياسة وضعوا قواعد وقوانين وبرامج للقضاء عليها، وأقاموا أيضاً مؤسسات مثل حلف الناتو والأمم المتحدة لتقليل الحروب وحفظ السلام. وحان الوقت لصياغة مجموعة جديدة من الأدوات للقضاء على الأشكال الجديدة من العنف في يومنا هذا، بحسب المجلة الأمريكية.
الحروب العالمية وقتلى بالملايين
شهدت البشرية تجربة القتل الجماعي خلال القرن العشرين، حين قُتِل عشرات الملايين من الناس خلال الحربين العالميتين. رغم ذلك، ومنذ ذلك الحين، ازداد أعلى معدل للوفيات في أوقات الحرب (خلال الحرب الكورية على سبيل المثال) بشكل أقل تدريجياً. وبحلول عام 2017، انخفض عدد الوفيات الناجمة بشكل مباشر عن الحروب الأهلية أو الحروب بين الدول إلى 90 ألف شخص.
ومع ذلك، لا يزال تهديد الحرب قائماً. فعلى سبيل المثال، قد تُشعل التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين الأوضاع في آسيا. وتهدد روسيا جيرانها القريبين، وتزداد العداوات الإقليمية الأخرى سخونة أيضاً، إذ يمثل القتال بين الهند وباكستان خطراً وشيكاً وقائماً، في حين ترتفع حدة الصراعات بين قوى الشرق الأوسط. ونتيجة لهذه النزاعات، ارتفع عدد ضحايا الحروب بين الدول منذ عام 2010. ما زالت الزيادة طفيفة بعد الانخفاض الكبير الذي شهدته هذه الأعداد، لكن الأمر يتطلب الانتباه والحذر لأن حروب اليوم يصعب إخمادها.
وفي الوقت نفسه، يزداد عدد المقاتلين المشاركين في كلٍّ من هذه الصراعات. فوفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، يشهد نحو نصف الحروب اليوم مشاركة ما بين ثلاث وتسع مجموعات متعارضة. وفي ليبيا وسوريا، تتنافس مئات الجماعات المسلحة على الحكم. غالباً ما يكون المقاتلون مزيجاً من الميليشيات المحلية والمرتزقة والمنظمات المتطرفة، مما يحول دون الحلول الدبلوماسية التقليدية (ما يقرب من نصف النزاعات الداخلية السبعة والأربعين التي حصرها معهد أبحاث السلام في أوسلو، كانت هناك دول خارجية ترسل قوات تدعم طرفاً واحداً على الأقل). تعني كل هذه العوامل أن الأدوات التقليدية لتحقيق السلام، بما في ذلك مفاوضات وقف إطلاق النار واتفاقات السلام وعمليات حفظ السلام، تلقى قبولاً أقل من أي وقت مضى.
ومنذ صدمة هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، شغلت أعمال العنف أذهان الأمريكيين والأوروبيين. ورغم تهديدات السياسيين الأمريكيين بغلق الحدود لمنع الإرهابيين المحتملين من دخول البلاد، ينبع التهديد الأكبر للبلاد من الجماعات القومية البيضاء، وليس الجهاديين. ورغم أن أوروبا الغربية شهدت العديد من الهجمات المروعة في السنوات الأخيرة، فإن ساحة المعركة الإرهابية الحقيقية ليست في الغرب.
الهجمات الإرهابية الأقل في أوروبا
وبحسب المجلة الأمريكية، حدثت 2% فقط من الهجمات الإرهابية و1% من جميع الوفيات الناجمة عنها في الدول الأوروبية خلال النصف الأول من عام 2017. وكانت احتمالية الموت بسبب هجوم إرهابي في أوروبا تبلغ 0.027 لكل 100 ألف شخص خلال عام 2016، وهي نسبة أعلى قليلاً من احتمالية التعرض للصعق بالبرق. بينما تحدث أكثر من 90% من جميع الهجمات الإرهابية والوفيات الناجمة عنها في سبع دول فقط وهي: أفغانستان، والعراق، ونيجيريا، وباكستان، والصومال، وسوريا، واليمن. ووفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي، وقعت أكثر من نصف حالات القتل بسبب الإرهاب -التي يصل عددها إلى نحو 19000 قتيل– خلال عام 2017 على يد أربع جماعات فقط، وهي: تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وحركة طالبان الأفغانية، وحركة الشباب المجاهدين الصومالية، وجماعة بوكو حرام النيجيرية.
حتى مع وجود هذه الجماعات الخطيرة على الساحة، انخفض عدد الوفيات المتعلقة بالإرهاب بأكثر من 40% خلال السنوات القليلة الماضية. ورغم أن الإرهاب لن يختفي بشكل كامل أبداً، فإن أفضل علاج له يكون من خلال تقليل العوامل التي تؤدي إلى زيادته: الإقصاء والتهميش والقمع العنيف من الدول، كما تقول المجلة الأمريكية.
لا يزال القمع العنيف من الدول تجاه مواطنيها قائماً في القرن الحادي والعشرين، وإن كان في أشكال أقل وضوحاً من معسكرات الاعتقال أو المجازر الجماعية التي ارتُكبت في حق السجناء السياسيين والأقليات العرقية خلال عهد الزعيم الشيوعي الروسي جوزيف ستالين، أو خلال الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. إذ أصبحت الحكومات أذكى كثيراً في إخفاء تجاوزاتها العنيفة.
على سبيل المثال، يدَّعي ثلاثة أرباع السجناء في المكسيك أنهم تعرَّضوا للتعذيب داخل السجن، وفي مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية ارتكبت الشرطة أكثر من 1000 جريمة قتل خلال عام 2018. أما في نيجيريا، فقد لقي أكثر من 7000 مواطن حتفهم في مراكز الاحتجاز الحكومية وأُعدِم 1200 آخرون دون الخضوع لمحاكمات عادلة خلال السنوات القليلة الماضية. وفي الوقت نفسه، في كوريا الشمالية، احتُجِز ما بين 80 و130 ألف شخص في معسكرات الاعتقال التي اعتبرها أحد الناجين من الهولوكوست أنها بقدر سوء تلك المعسكرات في ألمانيا النازية.
ولكن بما أن البيانات المتعلقة بهذه الجرائم تُخفَى أو يجري التلاعب بها بسهولة، فمن المستحيل أن نعلم حقاً حجم العنف الذي تمارسه الدول بحق مواطنيها. انظروا إلى معسكرات الاعتقال التي جرى الكشف عنها مؤخراً، والتي يُحتجز بها مئات الآلاف من مسلمي "الإيغور" في الصين بغرض إعادة التثقيف. تقف الأسلاك الشائكة حائلاً بين الشعب والحرية، أو ربما تلجأ الدول إلى تقنيات التعرف على الوجه والمراقبة التي تخلق أسواراً افتراضية للتحكم في حركة المواطنين ونقاشاتهم واحتجاجاتهم، كما تقول المجلة الأمريكية.
الجريمة المنظمة في ازدياد
أخيراً، هناك الجريمة المنظمة. فقد شهد كل جزء من العالم زيادةً طفيفةً في هذا الشكل من أشكال العنف خلال السنوات الأخيرة، من اشتباكات عصابات المخدرات في المكسيك وجرائم القتل التي ترتكبها العصابات في البرازيل، إلى أعمال العنف خلال الانتخابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجرائم القتل الانتقامية بين المزارعين والرعاة في نيجيريا.
وتُعد الجريمة المنظمة، مثلها مثل الحرب، قديمة قدم الحضارة الإنسانية. ورغم أنها كانت تحدث في المقام الأول بالمناطق الريفية، حيث يمكن لقطاع الطرق واللصوص مضايقة المواطنين، فإنها تأصَّلت بشكل متزايد في المناطق الحضرية. غالباً ما تتضمن الجريمة المنظمة في العصر الحديث أعمال عنف وحشية بهدف توجيه رسالة إلى الأعداء.
وتزدهر الجريمة المنظمة حيث تكون الدول القومية غير قادرة أو غير راغبة في توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، ولكن قد يكون من الخطأ أن نعتبر الجريمة المنظمة دليلاً على غياب الدولة. فعلى العكس من ذلك، يتآمر السياسيون ورجال الشرطة وحراس السجون في كثير من الأحيان مع المافيا والعصابات، للربح بشكل متبادل من أعمال النهب والكسب غير المشروع.
وفي الفوضى التي تلي ذلك، قد تتظاهر الحكومات باتخاذها موقفاً صارماً ضد الجريمة من خلال الأساليب القمعية والتدخلات العسكرية. تساعد هذه الأساليب الحكومات في الفوز بالانتخابات، لكنها تحفز الجماعات الإجرامية. يعزز عشرات الشبان المسجونون فجأة العصابات التي تسيطر على السجون، وتشجع أساليب الشرطة القمعية المجرمين على الرد بالمثل، وبعنف أكبر، ويزداد خوف المواطنين من الشرطة والعصابات. وبالتالي، فإن السياسات القمعية تأتي بنتائج عكسية في كل مرة، تاركةً وراءها أعداداً أكبر من الموتى ودولة أكثر هشاشة، بحسب المجلة الأمريكية.
هناك أساليب أفضل لمنع العنف والحد منه. فبدلاً من زيادة القمع على يد الجيش والشرطة، تحتاج الحكومات والشركات ومنظمات المجتمع المدني إلى مضاعفة جهودها في استخدام أساليب أخرى ناجحة. للبدء، يتطلب تخفيف الارتفاع الأخير في الحروب بين الدول استثماراً متجدداً في الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة للحد من الصراعات بين الدول.
الخوذ الزرقاء والحفاظ على الأمن
صحيح أن سجل الأمم المتحدة في الحد من العنف الجماعي متفاوت، لكن قوات حفظ السلام بشكل عام ساهمت في استقرار العالم على نحو إيجابي. فوفقاً لدراسة أجرتها الأمم المتحدة، ساعدت المنظمة على منع نشوب صراعات عنيفة في غينيا (بين عامي 2008 و2010)، والسودان وما يُعرف الآن بجنوب السودان (بين عامي 2010-2011)، ومالاوي (عام 2011)، ولبنان (بين عامي 2012 و2017)، ونيجيريا (عام 2015). كذلك وجدت مؤسسة راند الأمريكية أن الأمم المتحدة ليست ناجحة في تقليل احتمالات الحرب فحسب، بل تُعد أيضاً أرخص من معظم البدائل المتاحة، بحسب المجلة الأمريكية.
ولكن مع تغير أشكال العنف، لا بد أن تتغير أساليب منعه. فلا أحد، بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، سيسمح لأصحاب الخوذ الزرقاء بإجراء دوريات في شوارع كاراكاس أو كراتشي. ولن يُبعث مراقبو حقوق الإنسان بسهولة إلى الصين لمراقبة قمع الأقليات.
وستحتاج الوكالات الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة والبنك الدولي ومؤسساتها الشقيقة إلى أن تكون أذكى (وأكثر استعداداً للمخاطرة) عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الدول التي تقمع مواطنيها وتتورط في الجريمة المنظمة عمداً. تمثل الجهود الناشئة لمكافحة الفساد وزيادة الشفافية وتسليط الضوء على ميزانيات الأمن العام خطوات في الاتجاه الصحيح.
وفي الوقت نفسه، ينبغي للمنظمات ذات الصلة أن تبحث بعناية سبل تعزيز الدبلوماسية والوساطة بين الحكومات والجماعات الإجرامية. ساهمت الهدنة بين العصابات والحكومة بالسلفادور في تقليل أعمال العنف المميتة بين الجانبين لمدة لم تدم طويلاً، قبل أن تنتهي بالفشل بعدما دبَّت الشكوك في نفوس السياسيين. ويحتاج الباحثون إلى تعلم المزيد عن الظروف التي تمكِّن الهدنات والاتفاقيات من النجاح، والظروف التي في ظلها قد تزداد الأمور سوءاً.
لا تحل الاتفاقات بين الجماعات الإجرامية مشكلة الحكومات القمعية، بل يمكن أن تزيد عدم الثقة المجتمعية بقادة الحكومات. ما نحن بحاجة إليه حقاً هو إنشاء مؤسسات أكثر شمولية واستجابة، بحسب المجلة الأمريكية.
الحل لوقف القتل العشوائي
في النهاية يجب أن ينبثق الحكم الرشيد من داخل البلد، ويُعد السبيل المؤكد للحد من عمليات القتل في الوقت الحالي هو تقليل العوامل التي تؤدي إلى زيادتها. ويتطلب هذا التركيز على عدم المساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإقصاء. تميل الدول التي توفر للشباب، وخاصةً النساء، المزيد من الفرص للمشاركة السياسية والاقتصادية وتشجع الحراك الاجتماعي إلى المعاناة بصورة أقل من العنف. وكذلك، تكون الدول التي تسجل مستويات منخفضة من عدم المساواة بين الجنسين والعنف القائم على النوع الاجتماعي أقل عرضةً لخطر الحرب الأهلية، بحسب المجلة الأمريكية.
وفي جميع الحالات، يُعد إشراك المواطنين في الحكم أمراً بالغ الأهمية. نحن نعلم الكثير عن الإصلاحات الشرطية والعسكرية اللازمة لتعزيز الاستقرار، لكن الأمر يحتاج إلى مواطنين نشيطين لإجبار حكوماتهم على اختيار أساليب ثبُت نجاحها بدلاً من التظاهر باتخاذ مواقف صارمة تجاه الجريمة، والذي تظهر الأبحاث أنه يأتي بنتائج عكسية.
ويمكن أن تساعد الجهات الفاعلة الدولية، أولاً من خلال الإقرار بأن معالجة قمع الدولة والجريمة المنظمة لا يمكن حصرها في الحلول التقنية السريعة. يكمن النجاح في مساعدة الطبقة المتوسطة على بناء زخم اجتماعي للتغيير السياسي. ويمكن للجهات المانحة المساعدة في دعم وسائل الإعلام الحرة وتمكين منظمات المجتمع المدني المحلية التي يمكنها جمع المواطنين معاً في مختلف الدول المستقطبة والمنقسمة.
هناك دور مهم أيضاً يجب أن يلعبه القطاعان الخاص والاجتماعي. إذ ينبغي لمراكز الأعمال الدولية مثل نيويورك ولندن، وكذلك الموانئ البحرية، تشديد أنظمتها المالية وأسواق العقارات بها، التي تسمح حالياً للمجرمين والسياسيين بغسل أموالهم غير المشروعة دون عقاب. يجب أيضاً أن يراجع المستثمرون الكبار والمساهمون في الشركات الكبرى محافظهم الاستثمارية للتأكد من أنهم لا يتعاملون دولياً مع جهات فاعلة سيئة السمعة.
انخفض العنف بعدما وصل إلى ذروته في العصر الحديث خلال منتصف القرن العشرين، لكنه يعاود الصعود بعدما وصل إلى أدنى مستوياته في عصر ما بعد الحرب الباردة. وبنفس القدر من الأهمية، أصبح العنف يتخذ أشكالاً جديدة يصعب القضاء عليها. يجب الآن نشر الجهود الفكرية والعمل الجاد لاحتواء الحروب بين الدول في مواجهة تحدي الوقت الحاضر: الجريمة المنظمة والدول العنيفة الإجرامية؛ لأن إنقاذ حياة واحد من بين كل ستة أشخاص في العالم يتأثر بالعنف العالمي، وتخفيف الضغط على الدول التي تعاني تدفق المهاجرين الفارّين من الموت، يستحق العناء.