بعد إعلان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف استقالته من منصبه عبر موقع إنستغرام قُبيل منتصف ليل يوم 25 فبراير/شباط الماضي، رحب كثيرٌ من المحللين والمسؤولين الأجانب باستقالته، الأمر الذي أثار التساؤلات حول سبب الاستقالة: هل هو شأن داخلي أم أن القصة وراءها شيء آخر؟
وبحسب موقع LobeLog الأمريكي، كان تعليق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "رحل ظريف أخيراً"، أما وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو فقد استخدم لغةً غير دبلوماسية أكثر إهانةً، وأساء إلى ظريف وإلى الرئيس الإيراني حسن روحاني واصفاً إياهما بأنَّهما "واجهة لمافيا دينية فاسدة". بالطبع قد يلجأ أي شخص لوصف بعض الحكومات بهذه الأوصاف، إلا أنَّه من غير المقبول أن تصدر هذه اللهجة من شخصٍ يعد رجل دولة ودبلوماسياً في قوة عظمى.
الدبلوماسي الهادئ تعرض لضغوط
خطاب استقالة ظريف الذي قدمه إلى الرئيس الإيراني، والذي كُتب قُبيل تغريدته على موقع إنستغرام، كشف عن حجم الضغوط التي تعرض لها. فقد واجه تحدياتٍ لا تقتصر على انتهاك الولايات المتحدة للاتفاق النووي التاريخي مع بلاده، بل واجه أيضاً تحدياتٍ داخلية لتهميش دور وزارة الخارجية، وإقصائه عن كثير من الدوائر المهمة في السياسة الخارجية.
وتابع الموقع الأمريكي، يبدو أنَّ السبب الرئيسي وراء استقالته هو إقصاؤه من حضور اجتماعات آية الله علي خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني مع رئيس النظام السوري بشار الأسد خلال زيارته المفاجئة إلى طهران. ورغم أنَّ الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، وعلي أكبر ولايتي مستشار السياسة الخارجية لآية الله خامنئي، ومحمود واعظي مدير مكتب رئيس الجمهورية، قد شاركوا في هذه الاجتماعات، فإنَّ ظريف كان غائباً بسبب عدم دعوته.
صرح ظريف لصحيفة Entekhab الإصلاحية الإيرانية: "بعد نشر صور اجتماعات اليوم، فقد وزير الخارجية جواد ظريف مصداقيته أمام العالم". ويبدو أن بعض دوائر السياسة الخارجية يُشرف عليها مباشرةً مكتب المرشد الأعلى والحرس الثوري، وأُقصي منها وزير الخارجية.
وحُظرت مؤقتاً صحيفة "قانون" الإيرانية، التي نشرت صور اجتماع الأسد مع روحاني تحت عنوان "ضيف غير مدعو"، لأنَّ "بشار الأسد هو ضيفٌ خاص لآية الله خامنئي"، حسبما قال قاضٍ سابق في محكمة المطبوعات. ووفقاً لصحيفة "قانون"، فإنَّ خامنئي امتدح الأسد بوصفه "بطل العالم العربي"، الذي أعطى "المقاومة" مزيداً من القوة والهيبة.
ولاقت استقالة ظريف الآلاف من ردود الأفعال، كان معظمها داعماً له ويناشده تغيير رأيه. بالإضافة إلى ذلك وقع 150 نائباً في مجلس الشورى الإسلامي خطاباً لمناشدة روحاني رفض استقالة ظريف. وأعلن كثيرٌ من كبار موظفي وزارة الخارجية أنَّه إذا ترك ظريف المنصب، سيتركون مناصبهم أيضاً. ما دفع ظريف لكتابة مذكرة للموظفين نقلتها وكالات أنباء عديدة: "أناشد كل إخواني وأخواتي في وزارة الخارجية وفي سفاراتنا الخارجية الاستمرار في أداء مهامهم".
ومع ذلك تضمنت المذكرة رسالة تشاؤمية كشفت السبب وراء إحباطه واستقالته: "أتمنى أن تكون استقالتي بمثابة شرارة لاستعادة مهمة وزارة الخارجية المسندة إليها المتعلقة بالعلاقات الخارجية". وأضاف أنَّ شاغله الوحيد كان "تعزيز مصداقية وزارة الخارجية كمحرك للسياسة ومدافع عن المصالح الوطنية في الساحة الدولية".
عودة ظريف
وبحسب الموقع الأمريكي، يبدو أن هذا الرهان قد أتَىَ أُكْلَهُ، وأدرك الرئيس والآخرون أنَّ وزارة الخارجية يجب أن تكون مسؤولة عن السياسة الخارجية. إذ أشار سليماني إلى ظريف بوصفه "المسؤول عن السياسة الخارجية". وقال: "كان السيد ظريف يحظى دائماً بدعم كبار مسؤولي الحكومة، خصوصاً زعيم الجمهورية الإسلامية آية الله خامنئي". وأعرب عن أمله أن تتسبب استقالة ظريف في استعادة وزارة الخارجية "لوضعها القانوني".
وعقب استقالة ظريف بفترة قصيرة، كتب محمود واعظي، مدير مكتب روحاني، على موقع إنستغرام: "وفقاً لروحاني، إيران لديها وزير خارجية واحد وسياسة خارجية واحدة". وجاءت بعض التعليقات على تغريدة واعظي مثيرة للاهتمام. إذ علق رجل دين قائلاً: "بدون ظريف، سيكون روحاني كالبطة العرجاء. وعليه إما الإبقاء على ظريف أو الاستقالة أيضاً". وعلق شخصٌ آخر قائلاً: "بدون ظريف لن تكون للحكومة قيمة. رحيل ظريف يعني نهاية النظام الليبرالي في البلاد".
ورداً على خطاب استقالة ظريف، وصفه الرئيس روحاني بأنَّه "شخص مخلص وشجاع وجريء وتقي"، مضيفاً: "إنَّك تقف في الخطوط الأمامية في مواجهة الضغوط الأمريكية المتزايدة". ولذا قال إنَّ استقالة ظريف ضد المصالح القومية، وإنَّه لن يقبلها.
واستطرد قائلاً: "إنَّني أدرك تماماً حجم الضغوط الملقاة على عاتق الجهاز الدبلوماسي للدولة والحكومة وحتى الرئيس المنتخب. ومع ذلك سنظل ملتزمين حتى النهاية بواجباتنا التي تعهدنا بها أمام الله وأمام الأمة. وإنَّني على ثقة بأنَّنا بإذن الله سنجتاز هذه المرحلة الشاقة".
وفي صباح يوم الأربعاء 27 فبراير/شباط الماضي، رافق ظريف الرئيس خلال مراسم استقبال الرئيس الأرميني في العاصمة الإيرانية طهران.
وقد تلقى ظريف تعليمه في الولايات المتحدة، وعندما كان يشغل منصب ممثل إيران الدائم في الأمم المتحدة من 2002 إلى 2007 أثناء حكم الرئيس خاتمي، وأيضاً خلال السنوات الست التي عمل فيها في ظل حكم الرئيس روحاني كوزيرٍ للخارجية، وكرّس جهوده للتوصل لمصالحةٍ مع الغرب. وحقق هذا الإنجاز باتفاقٍ نووي تاريخي أبرمه مع الدول الخمس الدائمة في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، والذي صدَّق عليه مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي بالإجماع، بحسب الموقع الأمريكي.
وكان ظريف يقول دائماً إنَّ الاتفاق النووي هو البداية ولن يكون نهاية تعاون إيران مع الغرب. وإذا احترمته جميع الأطراف فقد يكون بمثابة الخطوة الأولى لطرح كافة القضايا العالقة بين الغرب وإيران، وحل بعض المشكلات والنزاعات المعقدة في الشرق الأوسط. حتى إن آية الله خامنئي، الذي كان يشكك دائماً في الولايات المتحدة، قال إنَّ الاتفاق النووي ربما يمثل اختباراً، وإذا نجح قد يُسهم في التوصل لاتفاقياتٍ أخرى مع الغرب.
اعتراض على التقارب
مع ذلك، كان المحافظون الجدد والقوى المعادية لإيران في مختلف الإدارات الأمريكية يعارضون دائماً أي تقاربٍ بين طهران والغرب، وعملوا جاهدين لإعاقة مثل ذلك التقارب. فعندما انتُخب أكبر هاشمي رفسنجاني رئيساً لإيران (1989-1997)، سعى لإعادة بناء الاقتصاد الذي دمرته الحرب. وكدليلٍ على حسن نواياه أبرم اتفاقاً لتوريد النفط بقيمة مليار دولار أمريكي مع شركة النفط الأمريكية Conoco، لإظهار أنَّه بعد 10 سنواتٍ من الثورة والحرب ما زالت إيران مستعدةً للتفاعل والتعاون مع الولايات المتحدة. لكن لسوء الحظ رفض مبادرته للسلام المسؤولون الموالون لإسرائيل الذين استطاعوا الوصول إلى مناصب عليا في إدارة كلينتون، بحسب الموقع الأمريكي.
وأُجبرت الشركة على إلغاء الاتفاق. وفي نفس الوقت قوبل رفسنجاني بتطبيق "سياسة الاحتواء المزدوج"، التي دفع بها مارتن إنديك، وهو الرئيس الأسبق لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الموالي لإسرائيل، والذي كان يشغل منصب مدير شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا بمجلس الأمن القومي.
بل ذهب الرئيس محمد خاتمي المنتمي للتيار الإصلاحي والذي خلف رفسنجاني في منصب الرئيس إلى أبعد من ذلك. إذ أدان بشدة هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، ودعا إلى "حوار الحضارات". وقدم عرضاً مميزاً إلى الولايات المتحدة لتسوية كافة الخلافات بين الدولتين من خلال السفير السويسري في طهران، تضمن برنامج إيران النووي وموقفها من الصراع العربي-الإسرائيلي. وعين حسن روحاني رئيساً لفريق التفاوض بشأن الاتفاق النووي مع مجموعة دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، وتوصل لاتفاقٍ لخفض أنشطة إيران إلى مستوى الأبحاث والتطوير، ومستوى محدود للغاية من التخصيب. وفي هذه المرة جاء رد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش على مبادرة إيران بإدراجها في قائمة "محور الشر" مع العراق إبان حكم صدام حسين، وكوريا الشمالية إبان حكم كيم جونغ إل.
وعندما انتُخب الرئيس الحالي روحاني رئيساً للبلاد لأول مرة عام 2013، عيَّن ظريف، الذي عمل مع فريق التفاوض الأول بشأن البرنامج النووي، ليكون مسؤولاً عن التفاوض بشأن اتفاقٍ جديد مع الغرب. وبعد عامين من المفاوضات العسيرة مع الدول الخمس الدائمة في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، توصلوا إلى الاتفاق النووي الشهير. وفور التوصل للاتفاق عمّت الاحتفالات أرجاء طهران، واستُقبل ظريف بعد عودته إلى بلاده كبطلٍ، لبدئه عصراً جديداً من التعاون بين إيران والولايات المتحدة.
التعامل مع المتشددين
وأدى الانسحاب من جانب الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب من الاتفاق النووي إلى سحب البساط من تحت قدم ظريف. وأدى أيضاً إلى تقوية شوكة المتشددين، الذين اتهموه بأنَّ الأمريكيين خدعوه عندما جعلوه يتخلى عن البرنامج النووي الإيراني، الذي تكلف مليارات الدولارات والكثير من سنوات العمل الشاق، مقابل وعودٍ كاذبة.
لذا ينبغي على الحكومة الإيرانية أن تستغل صدمة استقالة ظريف لمواجهة المتشددين، وتحمل المسؤولية عن الشؤون الداخلية والخارجية للبلاد. وينبغي على خصوم إيران في الخارج تقدير عواقب عدم استقرار الحكومة في ظل الوضع الحرج الراهن.
ما يزال الشرق الأوسط يترنح بعد عقدين من الحروب المتواصلة والدمار الشامل. وفي الوقت الذي ربما تكون فيه الهند وباكستان المسلحتان نووياً على شفا حربٍ جديدة، وتستمر فيه الحروب متعددة الأطراف في سوريا واليمن وليبيا وغيرها، ويبدو الصراع العربي-الإسرائيلي في حالة ركود دائم، وتستمر موجات نزوح اللاجئين إلى أوروبا، من غير المعقول أن نضيف صراعاً كبيراً آخر إلى القائمة.
وختم الموقع الأمريكي قائلاً: "دعونا نأمل أن يسود التعقل في إيران وأوروبا، وخاصةً في الولايات المتحدة، لدفع إيران تجاه ديمقراطيةٍ أكبر واحترامٍ لحقوق الإنسان من خلال الحوار والتعاون، وليس من خلال سياسات تغيير النظام العمياء التي تدفع المنطقة إلى مزيدٍ من الفوضى".