في الوقت الذي ينتظر فيه المصريون إعلان الموعد النهائي للاستفتاء على التعديلات الدستورية التي وافق عليها البرلمان مطلع الشهر الجاري (فبراير/شباط 2019)، تتسارع وتيرة الحديث عن سبب تعجيل الرئيس عبد الفتاح السيسي بهذه الإجراءات التي تكرس للديكتاتورية كما تصفها صحف أجنبية، على الرغم من بقاء مدة كافية في الفترة الرئاسية الثانية للسيسي والتي ستنتهي عام 2022.
ثمة عدة أسباب تذكرها مجلة Foreign Policy الأمريكية تقف وراء هذا تعجُّل السيسي لتمرير تلك التعديلات في هذا التوقيت بالذات.
لماذا التعديلات الآن؟
وتقول المجلة الأمريكية إنه بالنسبة للسيسي، يُعَد توقيت هذه التعديلات ذا أهميةٍ خاصة؛ فهو -على الأرجح- يريد إحكام قبضته على صلاحياته الجديدة قبل أن يصدر قراراتٍ بإصلاحات اقتصادية مؤلمة أخرى، مثل تخفيض آخر في قيمة الجنيه، ومزيد من تخفيضات الدعم في وقتٍ لاحق من العام الجاري (2019). ومثل هذه الإجراءات ستُعمِّق المشقة الاقتصادية التي يعانيها الشعب بالفعل، وستؤجِّج الاستياء تجاه الرئيس الحالي.
وربما يريد السيسي أيضاً اتخاذ هذه الخطوة في ظل تقبُّل الولايات المتحدة أفعاله، إذ يريد على وجه الخصوص نيل تأييدٍ كامل من نصيره الأهم: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو ما يزال بمنصبه، لا سيما في ظل الحديث الذي زاد بالفترة الأخيرة عن إمكانية عزل الرئيس الأمريكي من منصبه، بسبب التحقيقات التي يجريها روبرت مولر حول التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية.
ومن المثير في هذا الصدد أن تخرج تصريحات مايكل كوهين، المحامي السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والذي كان يتولى تنفيذ أعمال سرية لحسابه، أمام لجنة بالكونغرس في أثناء وجود ترامب بقمة كبيرة مع الزعيم الكوري الشمالي، وبسبب هذه التصريحات انزعج الرئيس الأمريكي بشكل ملحوظ وقطع القمة التي باءت بالفشل، وهو ما يشير إلى مدى خطورة هذه الشهادة على ترامب.
فقد قال كوهين بين ما أطلقه من اتهامات، إن الرئيس الجمهوري سدد له أموالاً دفعها لإسكات امرأتين قبل انتخابات الرئاسة عام 2016، وإن ترامب كان على علم مسبق بأن موقع ويكيليكس الإلكتروني يعتزم نشر رسائل بريد إلكتروني مسروقة تضر بمنافِسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون.
الوضع أسوأ من حكم مبارك
وبالعودة إلى الوضع في مصر بحسب المجلة الأمريكية، فقد يتساءل الذين يعرفون تاريخ مصر الحديث، الذي يشهد استبداداً متواصلاً بالفعل، عن مدى أهمية هذه التعديلات الأخيرة. لكنَّ التغييرات الدستورية الجديدة تشير إلى شيءٍ مثير للقلق؛ فهي ستُمثِّل خطوةً حاسمة في إضفاء الطابع المؤسسي على النظام السياسي الجديد للسيسي.
وترى المجلة الأمريكية أن الوضع الحالي في البلاد يعد أكثر شموليةً مما كان عليه إبان حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، الذي أطاحت به ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
وبحسب المجلة الأمريكية، فإنَّه يجب عدم طمس القمع الذي كان موجوداً في عهد مبارك، لكنَّ الرئيس الأسبق على الأقل فوَّض بعض القرارات إلى جهاتٍ أخرى، وسمح بمساحةٍ صغيرة للمؤسسات المدنية وجماعات المجتمع المدني المستقلة، وبنى قاعدة جماهيرية متنوعة إلى حدٍّ ما لنظامه. لذا ساعده نظامه شبه السلطوي على البقاء في السلطة 30 سنة، قبل أن يتسبب قمعه وفساده في إطاحته.
وعكس ذلك، يبني السيسي نظاماً أكثر ديكتاتورية وخانقاً بدرجةٍ أكبر، وذا قاعدةٍ جماهيرية أضيق، فضلاً عن أنَّه نظامٌ أكثر هشاشة، بحسب المجلة الأمريكية.
ومن منطلق رؤيته أنَّ مبارك كان متساهلاً أكثر من اللازم، وضع السيسي هيئاتٍ مدنية مثل البرلمان والجامعات تحت سيطرة كاملة من الأجهزة الأمنية التي ملأت هذه الهيئات بأشخاصٍ موالين للنظام وقابلين للانقياد. وذلك بالإضافة إلى أنَّه سحق النشاط السياسي المستقل بأكمله، وقضى على سيادة القانون، وعاقب أي شخص جَرُؤَ على عصيانه عقاباً شديداً. وبعدما تخلَّص من شبكة المحسوبية الواسعة التي تكوَّنت في عهد مبارك وكانت تضم مسؤولين كباراً من الحزب الحاكم وموظفين محليين بارزين ونخبة رجال الأعمال، يحكم السيسي من خلال زمرةٍ صغيرة من رجال الجيش والمخابرات المتملقين (تضم أبناءه، حسبما ذكرت بعض التقارير).
ومن ثَمَّ، فإنَّ ميله إلى السيطرة بالأسلوب العسكري -لدرجة أنه أصدر مؤخراً مرسوماً ينص على ألوان الطلاء للمباني- يتعدى حماسة مبارك نفسه للإدارة التفصيلية، بحسب المجلة الأمريكية.
ومن شأن التعديلات الدستورية التي أجراها السيسي أن تؤجِّج سوء هذا الوضع السيئ عن طريق تحصين صلاحياته الشخصية الهائلة من أي تحدٍّ قانوني محتمل، وإغلاق إمكانية الانتقال السلمي للسلطة، فضلاً عن القضاء على السياسة التعددية واستقلالية مؤسسات الدولة. بيد أنَّ تركيز السلطة بهذه الطريقة في قبضته من أجل دعم نظامه قد يجعله أضعف بمرور الوقت، إذ أظهرت العلوم السياسية -وبعض الأمثلة الواقعية المتمثلة في الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي والرئيس العراقي الراحل صدام حسين- أنَّ الأنظمة الاستبدادية أكثر عُرضةً من أشكال الحكم السلطوي الأخرى للانتهاء بطريقةٍ عنيفة.
فهذه الأنظمة ترتكز على مؤسساتٍ جوفاء وقاعدة شعبية ضيقة للغاية. وفي ظل طريقة الحُكم التي تتسم بفسادٍ بالغ ومركزية مُفرِطة وخللٍ كبير، وإقصاء كل من لا يدين للرئيس بالولاء الكامل، ورفض أي صمامات أمان سياسية ومساراتٍ سلمية للتغيير- فإن هذه الأنظمة تُسفر عن أعدادٍ كبيرة من المواطنين الساخطين الراغبين في الانتقام، كما تقول المجلة الأمريكية.
أهمية مصر بالنسبة لأمريكا
وبحسب المجلة الأمريكية، فهذه لحظة محورية بالنسبة لمصر، وسياسة الولايات المتحدة. صحيحٌ أن أهمية مصر للولايات المتحدة قد تضاءلت إلى حدٍّ ما في العقود الأخيرة، لكنَّ سكان مصر، البالغ عددهم 100 مليون نسمة، وموقعا الاستراتيجي، وحصولها على عشرات المليارات من الدولارات في صورة مساعدات وأسلحة أمريكية، كل هذه العوامل تمنحها أهمية دائمة. وصحيحٌ أنَّ واشنطن هادئة أكثر من اللازم في مواجهة السلطوية المتصاعدة بمصر. لكنَّ الولايات المتحدة لا يُمكنها تحمُّل تجاهل سعي السيسي إلى نيل السلطة المطلقة، والمخاطر التي يشكلها ذلك على الاستقرار المصري والإقليمي.
لا يحب السيسي تقبُّل الانتقاد الخارجي لممارساته القمعية، ويصفه بأنَّه تدخُّل أجنبي في الشؤون المصرية لن يتسامح معه، لكنَّ الحقيقة هي أنَّ نظامه يعتمد اعتماداً كبيراً على التمويل الدولي والدعم الدبلوماسي والمساعدة الأمنية. لذا فواشنطن، التي ما زالت الشريك الأجنبي الأقوى للقاهرة، لديها نفوذ. صحيحٌ أنَّ السيسي تجاهل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، لكنَّ ترامب، الذي تربطه به علاقةٌ أفضل، يتمتع ببعض النفوذ. وهناك بعض النفوذ أيضاً لدى المُشرِّعين الأمريكيين الذين يسيطرون على حزمة المساعدات العسكرية السنوية الأمريكية لمصر التي تبلغ 1.3 مليار دولار.
لذا ينبغي للبيت الأبيض والكونغرس أن يوضِّحا أنهما على درايةٍ تامة بسعي السيسي الفظيع إلى السُّلطة المطلقة، وأن يرفضا منحه غطاءً سياسياً أو دعماً غير مشروط إذا ما استمر في ذلك السعي.
من الواضح أنَّه لا يوجد ضمان بأنَّ الولايات المتحدة تستطيع أن تردع السيسي عن التلاعب بالدستور لكي يمنح نفسه سلطة مُطلقة، ولكن بالنظر إلى المخاطر، فربما ينظر صانعو السياسة الأمريكيون مستقبلاً إلى تقاعسهم عن المحاولة باعتباره فرصةً ضائعة وخطأً فادحاً.