كثيراً ما نصادف العديد من الأشخاص خلال التسوق من محلات الملابس الجديدة وحتى تلك المستعملة، الذين يتجولون بين صفوفها دون شراء شيء، وكأنهم يستشكفونها فقط، إنهم يحبون الملابس، لكنهم في الوقت نفسه يسعون بشدة لمقاومة شرائها لأسباب تتعلق بالاستدامة، وهنا ربما عليك أن تتراجع وأنت تشتري المزيد من الألبسة المختلفة، وتسأل نفسك: هل أحتاج هذا حقاً؟
وفقاً للمنظمة الخيرية Wrap البريطانية، التي تحث على الإدارة المستدامة للأغراض التي يتخلَّص منها الناس، فإن متوسط عمر قطعة الملابس في المملكة المتحدة على سبيل المثال، لا يتجاوز عامين وشهرين. وهناك ما يُقدَّر بـ30 مليار جنيه إسترليني من الملابس غير المستخدمة المعلقة في خزانات الملابس، ومع ذلك نظل نتسوق ونشتري المزيد.
"وحش التسوق" الذي يجوع كلما التهم أكثر
تقول ماريا تشينوويث، الرئيس التنفيذي لمنظمة Traid الخيرية، التي تعمل من أجل إيقاف التخلص من الملابس، لصحيفة The Guardian البريطانية: "كل أسبوع نشتري 38 مليون قطعة من الملابس، ونلقي 11 مليون قطعة في النفايات. وفي الحقيقة نحن لا نملك ما يكفي من الموارد لإشباع هذا الوحش".
تؤمن ماريا بأن المستهلكين يتحولون إلى التسوق في متاجر السلع المستعملة أو إدراج عناصر مستعملة ضمن مشترياتهم. وتشير إلى أن هناك زيادة 30% في نسبة تحول الأشخاص إلى متاجر Traid عام 2018 مقارنة بعام 2017.
في الثمانينيات كانت ماريا آنذاك في سن المراهقة وكان والدها يحظر عليها الشراء من المتاجر الخيرية حتى لا يظن الناس أنها من عائلة فقيرة. لكنها عصته وصارت تهرب حقائب ملابسها عبر نافذة غرفتها. والآن، تنظر ماريا إليها أنها "بادرة كبرى على نزعتها إلى شراء المستعمل"، وهو خيار لا بد منه لأولئك الذين "يؤمنون بعدم تدمير البيئة ولا يؤمنون بالاستهلاك المستدام والإسراف".
الملابس وتأثيرها البيئي
إذاً ما مدى صعوبة التحول إلى طريقة تسوق أكثر استدامة؟ في المملكة المتحدة، تقع الملابس في المرتبة الرابعة من حيث التأثير البيئي بعد السكن والمواصلات والطعام. إذ إن أكثر من نصف قطع الموضة السريعة يجري التخلص منها ولم يمض عليها عام واحد، وفقاً لتقرير حالة الموضة الذي أصدرته شركة McKinsey عام 2018. لكن أحقاً شراء الملابس المستعملة هو ترياق للموضة السريعة؟
تعج بلدة غوول بمقاطعة بازينغستوك البريطانية بمغريات محلية كثيرة، تجذبك وقت استراحة الغداء: مثل العلامات التجارية Dorothy Perkins وNew Look وPeacocks. اعتادت لورين (مختصة في التسويق) على شراء الأشياء فقط "لأنها موجودة أمامها". وفي المساء تتصفح موقع Asos. "أقول في عقلي: عظيم، هناك خصم! والشحن مجاناً! سأطلب الكثير من الأشياء!"، وبعد التفكير لهنيهة: إنه لا يتناسب معي، لكنني لن أتكلف عناء إعادته… سأحتفظ به".
وبهذا المنطلق تشتري لورين قطعتين أو ثلاثاً كل شهر. تقول: "في كل مرة أدفع 20 جنيهاً إسترلينياً (حوالي 26 دولاراً) يبدأ الأمر يتطور. ثمة خزانة مكتظة بالملابس، وبعضها لا تزال بعلامة السعر… نظرت إلى نفسي وفكرت: ما الذي تفعلينه؟".
مقايضة الملابس أحد الحلول
أثار منشورٌ على موقع فيسبوك فضولَ لورين كودري، وفي إحدى عطلات نهاية الأسبوع انصرفت إلى منظمة Leeds Community Clothes Exchange، وهي منظمة محلية لمبادلة الملابس أو مقايضتها. وبعد مرور أربع سنوات، صارت واحدة من المديرين الثلاثة، وتساعد في الإشراف على ألفي قطعة تخرج من أبواب المركز المجتمعي الواقع في شارع وود هاوس كل شهر، منها "قطع خاصة لمصممين، وقطع قديمة، وأشياء مصنوعة يدوياً، وفساتين زفاف".
التقينا بلورين في إحدى استراحات الغداء التي اعتادت قضاءها في التسوق. تنّورتها وبلوزتها وسترتها الصوفية من منظمة Clothes Exchange، أما حذاؤها فهو من متجر Autism Plus في غوول. أوضحت لورين: "في متجر المبادلة، تقايض شيئاً مقابل شيء في كل الأغراض". يمكن بيع قطعة الملابس إذا كانت كل الأزرار موجودة، وليس بها بقعة واحدة حتى. ومن القطع التي تُعاد للمتجر فساتين حفلات التخرج "فالفتيات تأخذها وترتديها ثم تعيدها". ويخصص المنظمون قطعاً تناسب كل شخص، فغرفة القياس هي مكان مشجع.
"طريقة تفكيري عن الملابس تغيرت"
ومع نمو نسبة مشاركتها في متجر مبادلة الملابس، قلَّت زياراتها إلى العلامة التجارية Peacocks التي صارت الآن تنظر إلى متجرها باعتباره تدفُّقاً جديداً إلى سوق المبيعات الخيرية. ومن ثم بدأت تحذف رسائل البريد الإلكتروني المرسلة من موقع Asos وTopshop التي لم تقرأها. ومن ثم عزفت عن شراء ملابس جديدة لعام كامل. تقول: "ظننت أنني سأصل في النهاية وأفكر: لقد فعلتها وسأجتاز الأمر. لكن ما حدث في الواقع أن طريقة تفكيري عن الملابس تغيرت".
لم ينته حب لورين للملابس حتى الآن -لا سيما تجاه قطعة مخملية- لكنها وجدت طريقةً سليمة في استعمالها. فمبادلة الملابس تسمح لها بتجديد خزانتها دون إضافة قطع إليها. يمكن للورين أن تحافظ على معدل اقتنائها للملابس مادامت تتخلى عنها بالقدر ذاته. فقد مرَّ عليها وقتٌ كانت تشتري ثلاث قطع كل شهر، أما الآن فصارت تبدل من 10 إلى 15 قطعة، ومعظمها أشياء اقتنتها سابقاً وبدلتها.
الملابس المستعملة والموضة السريعة
لا تستقر الملابس في منزل "سارة فيويل" بمقاطعة بازينغستوك أيضاً. في الواقع، تتردد عليها ومنها الكثير من الطرود، لطالما أحبَّت سارة قصّ الملابس القديمة وتركيب الأزرار، حتى عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت صديقاتها يشترين من Hollister. لكنها الآن حولت شغفها بالملابس المستعملة إلى حب مستدام للموضة السريعة.
تدير سارة متجراً يدعى Identity Party على الموقع Depop، الذي منذ أن أنشئ عام 2011 قدم لمستخدميه البالغ عددهم 10 ملايين مزيجاً من أسلوب التداول على غرار eBay مع المنشورات الجذابة على غرار موقع إنستغرام. تنطوي علامتها التجارية على الكثير من القطع بموضة "الثمانينيات والتسعينيات".
قبل عامين، في السنة الثانية من دراستها للحصول على شهادة في السياسة من جامعة غولد سميث بلندن، كانت سارة تتجول في المتاجر الخيرية عندما رأت فستاناً رائعاً حقاً. كانت لها صفحة على موقع Depop وقد باعت بعض الملابس التي لا ترغب في ارتدائها، لذا تمكنت من شراء الفستان، وأدرجته في صفحتها تحت عبارة "يشبه فيبي كثيراً في مسلسل Friends" ومن ثم بيع على الفور.
وخلال سنتها الثالثة في الجامعة كانت تشتري وتبيع بلا انقطاع. وتقول: "عندما تركت الجامعة فكرت حقاً أنني لم أكن أحتاج إلى وظيفة". والآن مع إنشائها لمتجر Identity Party، أضفت سارة طابعاً احترافياً على حبها لما هو قديم.
لا تتحاشى سارة تماماً شراء الملابس الجديدة، فهي تشكل 10% من ملابسها. وعلى سبيل المثال تشتري ملابس رياضية جديدة، كنَّا جالسين في مقهى في مركز للتسوق في بازينغستوك. تنظر سارة في جدول أعمالها على مدار الأسبوع: يوم الإثنين لنشر الصور، يوم الثلاثاء لتصوير الملابس، يوم الأربعاء لتحميل الصور. أما اليوم الرابع فتقضيه في مسح المحلات الخيرية في بازينغستوك ونيوبري وريدنغ. والخامس والسادس في مزيد من التصوير والنشر.
أيام سارة طويلة وحافلة، لكن قضاء الساعات في قص حشوات الكتف وإزالة المناديل المستعملة من الجيوب جعلها واحدة من أفضل البائعين على Depop. كان الفستان الأول لها على الموقع هو فستان فيبي، ومنذ ذلك الحين باعت أكثر من 3 آلاف قطعة، وتشمل قاعدة عملائها زبائن صاروا لا يجدون التسوق المستعمل مقتصراً على طبقة معينة.
هل صار الناس أكثر وعياً بالفعل؟
تقول سارة: "يشمئز الكثير من الناس من الموضة السريعة. اعتاد الناس مشاهدة مقاطع فيديو المشتريات (عبارة عن جلسات لتجريب الملابس الجديدة) على يوتيوب ليقولوا: "رائع حقاً". والآن إذا نقرت على أحد تلك المشتريات وقرأت التعليقات ستجد الجميع يقولون: "ثمة الكثير من هذه القطع وخامتها سيئة حقاً"، لقد صار الناس أكثر وعياً".
وفي عام 2017، عندما نشرت سارة أول فستان لها، لم تكن "واعية تماماً" بمزايا الاستدامة للملابس المستعملة. إذ تقول "لم أكن أفكر حقاً أنه "بإمكاني أن أحمل هذه الرسالة". الآن، تطبع سارة حقائق نفايات الملابس على ظهر بطاقات العمل الخاصة بها. وعندما تجد أن قطعة ما لا تلائم عميلة فهي تقنعها أن تردها وتبيعها حتى لا تخسر.
تقول ستيفاني كامبيل من حملة Love Your Clothes التابعة لبرنامج Wrap إن الفكرة الرئيسية تكمن في "إبعاد الملابس عن مكب النفايات". يجري التخلص من 430 ألف طن من الملابس كل عام في المملكة ولا يعاد تدويرها. وفي الوقت نفسه، يرتفع عدد الملابس الجديدة المباعة: 1.13 مليون طن عام 2016، أي زيادة قدرها 200 ألف طن عن عام 2012.
تقول زوي إدواردز، معلمة التفصيل والمُدوِّنة التي تعهدت منذ 11 عاماً ألا تشتري ملابس جديدة: "يخضع العقل لتغير بطيء ومتدرج. لا يحدث تحول مفاجئ بين يوم وليلة، لكن الأمر يسير هكذا وتبدأ تقول في نفسك: نعم، هكذا يجب أن أتسوَّق من الآن".
كانت زوي تعمل لصالح "مورد ملابس رخيصة للموضة السريعة" في لندن. كانت وظيفتها هي طلب ملحقات الملابس وزينتها: الملصقات، عروات التعليق، الأزرار، السحابات. دائماً ما تتفاوت كمية الأقمشة التي تتسلَّمها، لذا كان عليها أن تطلب كميةً كبيرة من الملحقات، وهو إهدار اعتيادي أصابها بعدم الراحة. لطالما أحبت الخياطة، وباعت ملابس مصنوعة يدوية في أكشاك السوق وعلى منصة Etsy. أما الآن فقد اختلف أسلوب معيشتها عما سبق تماماً.
تقول: "صرت لا أرغب في أن أكون جزءاً من الموضة السريعة بعد الآن". استقالت من وظيفتها وباتت تخيط الملابس وتبيعها وتعلم الخياطة وتكتب عنها. وعلى مدار الـ11 سنة الماضية، اشترت زو "قطعة أو اثنتين" فقط!
ما مدى صعوبة التوقف عن شراء الملابس الجديدة؟
إذاً ما مدى صعوبة التوقف عن شراء الملابس؟ أسَّسَت تانيا آراياليس، التي تصف نفسها بأنها "متمردة على الموضة"، منظمة في نيويورك تدعى Fashion of Tomorrow للدعوة من أجل اتباع نهج أكثر استدامة في صناعة الملابس. كانت تانيا أحد الأعضاء المؤسسين لمنصة Style Lend، وهو موقع لتأجير الملابس على أساس نظير إلى نظير، وقد عزفت عن شراء أي ملابس لعام واحد مستوحية الفكرة من الفيلم الوثائقي True Cost. لكن ألم تمر عليها أوقاتٌ كانت تشعر فيها بالإحباط لكسر القاعدة التي فرضتها على نفسها؟
تقول: "كان شعور التحدي يتسلل إليّ قليلاً… لم أعد عصرية مثلما اعتدت أن أكون. ولم أعد أجلب الأنظار عندما أذهب لحدث ما. لم يعد لدي أي شيء جديد وزاهٍ، لكنني أردت إعادة هيكلة الطريقة التي يرى بها عقلي التسوق".
وفي عامها الثاني بعد القرار بالعزوف عن شراء ملابس جديدة سمحت لنفسها بشراء ملابس قديمة. وفي العام التالي من هذا اشترت القطعة المتفردة من ملابسها الجديدة من العلامات التجارية المستدامة. ووقتما شعرت أن مظهرها غير مُرض قليلاً، كانت تؤجر ما تحتاج من موقع Style Lend (هناك مواقع تأجير في المملكة المتحدة أيضاً لكن هذا السوق لم يزدهر بعد). تقول تانيا: "بدأت رؤيتي تختلف لقطع الملابس، لقد اكتشفت فن التصميم والتنسيق".
من مميزات التسوق في الملابس المستعملة انسيابية المقاسات. يتشجع المتسوقون عند رؤية أن مقاساتهم متاحة. تقول لورين: "هذا هو الأمر العظيم في مبادلة الملابس". فلا أحد يشعر بالاكتئاب لأن المقاسات غير مناسبة له. "فقط يمكنك النظر بعينيك وأن تسأل نفسك: هل يناسبني هذا؟".
ماذا أفعل إذا كنت أحب الملابس الجديدة؟
تشكل الملابس تحدياً من حيث كميتها بجميع أنواعها، سواء كانت جديدة أو مستعملة أو يدوية. وأما عن بيع الملابس المستعملة فله شروط. لتجنب أن يُغمر سوق الملابس المستعملة أو أن تتسلل المشكلة لمناطق أخرى، بما فيها الدول المتطورة، حيث تباع الكثير من الملابس المستعملة بالجملة، يجب التشجيع على تكنولوجيات أخرى مثل إعادة تدوير قماش إلى قماش.
تقول زوي: "الملابس هي طريقة للتعبير عن نفسي وعما أشعر وأؤمن به. إنها طريقة للتواصل مع العالم. فهي حقاً ذات قيمة اجتماعية، لكن يجب العناية جيداً باختيارها وارتدائها".
إذاً ما الذي يمكن أن يفعله الشخص الذي يحب الملابس لكنه في الوقت نفسه يرغب في أن يعيش بشكل أكثر استدامة؟ بحسب ما تقول زو، إذا كنت تقضي الوقت على مواقع الموضة، فلن يتطلب الأمر أن تقفز بخيالك بعيداً، أو أن تستجمع إرادتك لتحويل المتصفح إلى eBay أو Depop أو thredUP أو HEWI London أو أيٍّ من مواقع المجموعات الكبيرة لـ "ثورة إعادة البيع". تقول ماريا: "إن عدم الإبقاء على الأشياء في خزانتك أمرٌ مهم إن كنت لا ترتديها". فالتبرع بالملابس يعيدها في الدائرة ويجري تداولها.
وبحسب ما تقول لورين: "كل قطعة لها قصة. إن ارتديت شيئاً مرة واحدة ثم ألقيته في القمامة، بذلك قضيت على فرصة أن تعيش قصة، لا بد أن تعرف أن هناك حياة تعيشها كل قطعة".