يعيشُ الشعب الجزائري العزيز واقِعَهُ اليومي المُرَّ على نغمات لحنٍ إعلامي، يقول متنُ كلماتِهِ: كتبَ السيد الرئيس رسالَتَه وقرَّر الترشُّحَ، واستقبل السيد الرئيس فريق إشهار "هردة" الولاية الخامسة.. فَيَا لَهَوْلِ خطابِ التَّرَنُّح؟! وبين ثنايا هذا الانفصام الإعلامي البشع يستمر العبث والغبن والتدليس، في نسف مؤسسات الدولة الجزائرية ومصالح شَعْبِها العُليا.
هكذا، يأبى سَدَنَةُ وحُرَّاسُ المعبد الرئاسي الجزائري إلَّا أنْ يجعلوا من عبدالعزيز بوتفليقة نموذجاً خالداً للاستبداد، تحت عنوان "بوتفليقة أو لا أحد". ويوحي هذا السيناريو المخيف بِتَفَكُّك مرحلة الوئام الوطني التي تَلَتْ شَتَاتَ العشرية السوداء، و يُؤَشِّر -أيضاً- إلى عودة الحرب الدموية بين جنرالات الجيش والمجموعات الإرهابية المُسلَّحة، التي تغاضَت عن نشاطاتِها -عمداً- المخابراتُ الجزائرية، بهدف تبريرِ مَنْعِ وقَمْعِ المسيرات الشبابية الشعبية، التي قد تنتفض مُطالِبةً بإسقاط سَدَنَة وحُرّاس مَعْبَدِ الديكتاتورية في القُطر الجزائري الشقيق.
ودون كثرة إطنابٍ في السَّرْد، نختصر في القول بأن الدولة الجزائرية تعيشُ مرحلة الوَهَنِ العظيم، التي تنْخُر أُسُسَ هذا الكيان ومُقوِّمَات بقائِه. كما أن تقديم الجواب على سؤال "ما بعد الرئيس بوتفليقة؟" بات يُشكل العُقدة الجوهرية عند أقطاب النظام المُتَحَكِّمَة في كرسي الرئاسة المشلول بقصر مرادية، لذا تُنْذِرُنا رسائل الثقة المفقودة بين الفرقاء السياسيين وبين سَدَنَة وحُرَّاس المعبد الرئاسي، بِدُنُوِّ أجلِ انتهاء مرحلة الوئام المدني والمصالحة الوطنية الجزائرية، التي تَلَتْ عشرية التسعينات السوداء.
ولأنَّ سؤال: أين الثروة؟! يُشكِّل المدخلَ الأساس لتفكيك شفرات الأزمة البنيوية بدولة الجزائر، فإن أقطاب النظام بقصر مرادية ارتأوا إبقاء الرئيس بوتفليقة في وضع المُرشح المشلول على الكرسي الرئاسي المُتَحَرِّك، لأنه آخر أوراق خريف الوئام الوطني وآخر شجرةٍ تُخْفي أدغال الفساد المالي، كما أن إسقاطَهُ من أعلى كرسي الرئاسة هو بمثابة سقوطٍ حرٍّ للنِّظام بِرُمَّتِهِ.
فها هي الصناديق السِّيادية مُفرغة من عائدات الثروة الوطنية، نتيجة عقود من النهب والاختلاسات، وها هو تحويل أموال البترول والغاز يَصِلُ إلى جيوب فئة قليلة من المَركبات الاسْتِنفاعِيَّة. وها نحن نستمر في بسطِ الوقائعِ الملموسة التي تُهدد استقرارَ الجزائر بخطر الاصطدام المباشر مع تحركٍ شبابي شعبي مُنْتَفِض من أجل تحرير الثروة الوطنية من الاحتكار الفئوي والفساد المُستشري.
ولعلَّ هذا ما يفسر، بالملموس، حالةَ الارتباك داخل صفوف سَدَنَة وحُرَّاس معبد النظام الجزائري. فأموال البترول والغاز مِنْها ما ذهب في سبيل تمويل مرتزقة جبهة الإرهاب المستوْطِنة ومعسكرات تندوف جنوبي الجزائر، ومنها تلك التي غادرت مُهَرَّبَةً من الحدود الشمالية للتراب الجزائري نحو الجنان المالية العالمية، حيث نُفِّذت جريمةُ تهريبها طيلة سنوات من الفساد المالي والسياسي، والأسماء معلومة لدى البنوك الأجنبية، وبالتالي عَمِلَ سَدَنَة وحُرَّاسُ المعبد الرئاسي على تمثيل أبشع عملية "تصنيم بشري" في القرن الحالي!
وها نحن نتابع كيف يعيش الشعب الجزائري المغلوب على أمرِه أمامَ مشهدٍ سُورْيَالي لا نظير له، يقف فيه هذا الشعب الشقيق بعيون جاحظة، وعقول حائرة أمام حقيقة سقوط الأهلية القانونية، وانعدام القدرة الصحية عند المرشح عبدالعزيز بوتفليقة، قصد مزاولة الاختصاصات الدستورية. هذا الرئيس/المُتَرَشِّح العاجز عن مُقاومة أعراض وآثار الخَرَف كَنَوعٍ من أمراض الشيخوخة التي أصابت جسد بوتفليقة الإنسان، بعد أن كان يعاني من تبعات الجلطة الدماغية التي شَلَّت حركة الجسد واللسان.
وليس فقط كرسي الرئاسة الذي نراهُ مُتحرِّكاً مع وَقْفِ التَّنفيذ في نشرة الأخبار الرسمية والصحافة المُقرَّبَة، بل كذلك هي عجلاتُ عَرَبَة الدولة تَتَرَاءَى لنا "مُتَحَرِّكَة"، غير أن سُقُوطَها في سَعير هاوية الانهيار الشامل أضحى حقيقة ظاهرة للجميع.
فَمِنْ تفَكُّك العُرَى الاجتماعية، ومأساة الفراغ الروحي، وضياع الثروة الوطنية، وانعدام المشروع الاقتصادي البديل، بالإضافة إلى موت الأمل عند الشباب… تتَنَاسَلُ مؤشرات هذا الانهيار الوشيك، بشكل جعل عصابات "بيزنس" تهريب الأموال ترتفعُ أرقامُ مُعَامَلاتِها، بل تتضاعف بغير حسابٍ. وتَتَمادى هذه العصابات المُنظّمَة في مناوراتِها لاستكمال عملية إفراغ ما تبقَّى في صناديق الثروة الوطنية، قبل إعلان وفاة الرئيس بوتفليقة، ونشوب معارك الأقطاب المَصَالِحِيَّة.
إنَّ فوبيا الخوف من ضياع الثروة هِي التي تقود دهاقنة النظام الجزائري إلى محاولة إلهاء الشعب عن هذه العمليات المتسارعة لِتهريب الأموال خارج الوطن الجزائري. وذلك عبر خطة تَحْوِير النقاش من المطالبة بتأمين الانتقال الديمقراطي الضامن لحقوق الإنسان الجزائري في الحرية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية، وحكامة مؤسساتية عقلانية نزيهة وشفافة، إلى الحديث الافتراضي التضليلي عن تفاهة المُنافِسين لمُرشح "الهردة الخامسة"، أو من خلال التبشير الذميم بإحداث منصب نائب للرئيس الذي ينطق بلسان سَدَنة وحُرَّاسِ المَعبَد.
هذا حديث المقال، لا ينحصر عند توصيف وقائع سوء توزيع عائدات إنتاج اقتصادي على المواطنات والمواطنين بالجزائر الشقيقة، بل الأمر أدهى وأخطر؛ لأننا بصدد الحديث عن إفلاس الصناديق السيادية لدولة الجزائر، التي نَخَرها نهج الاستبداد، وفساد "اقتصاد الريع"، وتهريب أموال الثروة الوطنية عبر الحدود الشمالية، أو استغلالها في تمويل صناعة الدويلات الوهمية، مع حرمان الشعب الجزائري من فرصة الاستفادة من التنمية الشاملة، وضمان الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي.
إن المُراد المقصود لأقطاب النظام بالجزائر هو البحث عن الآليات الاستراتيجية المستقبلية، التي تضمن حمايَتهم من المحاسبة الشعبية والقانونية، في حين نلحظ أن باقي القيادات الحزبية والأسماء الفكرية والثقافية المعارضة تسبح في بحر التشرذم والتنافر، وعدم قدرة العمود الفقري للمنظومة الحزبية المُعارِضَة على التوافق حول مرشح رئاسي جديد، يضمن الأمل في بلوغ زمن الانتقال الديمقراطي مع إيجاد البديل السياسي المُنْتِج القادر على استعادة ثقة الشباب، والعمل برؤية إصلاحية ديمقراطية تشاركية، تجعل من الحكامة المؤسساتية النزيهة والشفَّافة تلك القاطرة القادرة على إنقاذ دولة الجزائر من الإفلاس المالي والاقتصادي، قبل السقوط في حمام دم جديد. حفِظَها الله من شَرِّ وقوعِه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.