أمريكا سهَّلت للمسؤولين الروس نهب مئات المليارات من بلادهم، والآن تدفع الثمن.. لقد سرقوا منازلنا

عربي بوست
تم النشر: 2019/02/13 الساعة 13:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/03/30 الساعة 15:10 بتوقيت غرينتش

تواطأت الولايات المتحدة مع واحدة من أكبر عمليات النهب في التاريخ، حين تسامحت مع عملية السرقة التي اقترفتها نخبة موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن ها هي تدفع الثمن، إذ إن الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا نفسها.

استشرى هذا الفساد القادم من روسيا بدرجة لا يمكن تصوّرها في أوساط النخب الأمريكية، وبطريقة تهدد القيم الأمريكية، والنظام السياسي للبلاد، حسب وصف تقرير مطوَّل لمجلة  The Atlantic الأمريكية.

عندما كان الأمريكيون يحتفلون بانهيار الاتحاد السوفيتي ويشاهدون بخليط من التعجب والشماتة النخبة السوفيتية القديمة تنهب الجمهورية الروسية الوليدة، كان هناك مسؤول أمريكي يحذر من تأثير هذا الفساد، وتأثيره على الولايات المتحدة وعلى العالم كله.

ولكن لم يستمع إليه أحد آنذاك.

والنتيجة أن الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا ذاتها.

نعم، الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا ذاتها.. رجل واحد تنبَّأ بذلك قبل 20 عاماً  

لمدة عامين، في أوائل تسعينيات القرن العشرين، عمِل ريتشارد بالمر، رئيس مكتب المخابرات المركزية الأمريكية، في سفارة الولايات المتحدة في موسكو.

اتسمت الأحداث من حوله بأنّها كانت صادمة وفوضوية ومثيرة لدرجة أنّها حيرَّت ألباب المحللين الأذكياء.

عملية نهب روسيا تعتبر من أكبر عمليات نهب في التاريخ
عملية نهب روسيا تعتبر من أكبر عمليات نهب في التاريخ

وتمثلت هذه الأحداث في تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور روسيا. غير أنّه من جميع المعلومات التي أُودعت لديه، تبلور لديه فهمٌ أعمق لما كان يجري في تلك الأيام.

كان قدرٌ كبيرٌ من سائر أنحاء العالم يرغب في أن يصرخ فرحاً بهذا المنعطف التاريخي، وإشارته إلى إمكانية إنشاء أسواق حرّة وتحقيق ديمقراطية ليبرالية.

أمّا ما رسخ في يقين "بالمر" عن الأحداث الدائرة في روسيا فكان يشي بتوقعات سوداوية تثير الغمّ في النفوس.

إنها دراما مأساوية تكشف كيف أن الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا بعد أن ظنت أنه بعيد عنها.

فأصدقاؤنا الروس الجدد ليسوا رأسماليين ولا ديمقراطيين

في خريف عام 1999، أدلى بالمر بشهادته أمام لجنة في الكونغرس ليرفع الغشاوة عن أعين أعضاء الكونغرس ويبدد تفاؤلهم ويحذرهم مما هو آتٍ.

استقر في وجدان بالمر أنَّ الجانب الرسمي الأمريكي أخطأ في حكمه على روسيا خطأً كبيراً. فقد وضعت واشنطن ثقتها في نُخب النظام الجديد، وصدقتهم حين أعلنوا التزامهم بالرأسمالية الديمقراطية.

غير أنَّ بالمر كان يُدرك عن قُرب كيف يمكن استخدام التشابك المتزايد بين أجزاء العالم، لا سيما فيما يخص الاقتصاد العالمي، استخداماً سيئاً.

إذ استخدم رجال الاستخبارات السوفيتية مهاراتهم السابقة لتحويل أموالهم

وإبَّان الحرب الباردة، طوَّر جهاز الاستخبارات السوفيتي (KGB) فهماً عميقاً بالتفريعات المصرفية لدول الغرب، وأصبح أساتذة التجسس بارعين في صرف الأموال لعملائهم في الخارج.

هذا الإتقان سهّل عملية جمع ثروات جديدة.

وفي أيام أُفول الاتحاد السوفيتي، شهد بالمر خصومه السابقين في أجهزة الاستخبارات السوفيتية وهم ينقلون المليارات من خزينة الدولة ويحولونها إلى حسابات خاصة في أرجاء أوروبا والولايات المتحدة، فيما يعد إحدى أكبر عمليات النهب في التاريخ.

أخبرت واشنطن نفسها قصة مُريحة قللت من أهمية اندلاع الهوس بالسرقة في روسيا.

إذ قالت لنفسها إنَّ مَن يرتكبون هذه الجرائم خارجون عن القانون ومتربحون مارقون هرعوا لاستغلال ضعف الدولة الجديدة.

هذه الرواية أثارت غضب بالمر. وأراد أن يهز يقين الكونغرس فيها؛ ليدرك أنَّ هؤلاء السارقين كانوا من عِلية القوم الذي تولوا رئاسة جميع أركان النظام الجديد.

وشرح للجنة الكونغرس قائلاً: "لكي تصبح الولايات المتحدة شبيهة بروسيا اليوم، يتعين أن يعمها فسادٌ عظيم في أركان أغلبية أعضاء الكونغرس وكذلك في وزارتي العدل والخزانة، وفي أوساط عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية ووكالة استخبارات الدفاع ودائرة الإيرادات الداخلية ووحدة الشرطة القضائية وشرطة الحدود وضباط شرطة الولايات وضباط الشرطة المحليين، وكذلك في بنك الاحتياطات الفيدرالي، وقضاة المحكمة العليا…".

بل إنَّ بالمر ذكر في شهادته أيضاً رئيس وزراء روسيا المعيّن حديثاً وغير المشهور (والذي أشار إليه خطأً ببوريس بوتين)، واتهمه بـ "المساعدة في نهب روسيا".

والولايات المتحدة تواطأت مع عملية النهب هذه

وأوضح بالمر أنَّ الولايات المتحدة سمحت لنفسها بالتواطؤ في هذا السلب والنهب.

كان تقييمه للموقف قاسياً؛ إذ كان بوسع الغرب أن يرد المال المسروق، وأن يوقف تدفق المال من الاتحاد السوفيتي إلى شركات وهمية وملاذات ضريبية.

ولكن، بدلاً من ذلك سمحت المصارف الغربية بدخول المال الروسي المنهوب في خزاناتها المحصَّنة.

كان المقصود من غضبة بالمر أن تستثير  نوبة من صحوة الضمير، وأنّ تثير القلق حول الخطر الذي يمثله هذا الهوس بالسرقة الحكومية على الغرب نفسه.

فرغم كل شيء، كان للروس مصلحة كبيرة في حماية أصولهم بعد نقلها خارج بلادهم.

إذ كانوا يرغبون في حمايتها من الساسة الأمريكيين الوعاظ الذين ربما يُحدثون صخباً للاستيلاء عليها.

حتى إنه تنبَّأ بما يحدث الآن من قِبَل ترامب

قبل ثمانية عشر عاماً من بدء المحقق الخاص روبرت مولر تحقيقه في التدخل الأجنبي الروسي في الانتخابات الأمريكية، حذّر بلمار الكونغرس من "التبرعات السياسية" الروسية "للساسة الأمريكيين والأحزاب السياسية لكسب النفوذ".

وكان مصدر الخطر أن تنتقل العدوى بشكل نظامي: يمكن للقيم الروسية أن تُعدي منظومات الدفاع الأخلاقية للسياسة والأعمال في روسيا ومن ثمَّ تضعفها.

كان هذا الرجل نافذ البصيرة نذيراً للعالم، وقد باح بما يعلم في لحظة مفصلية في تاريخ الفساد العالمي.

في ظل هذا المشهد، لم يكن بوسع أمريكا أنّ تقدم نفسها بافتراض أنَّها تمثل النموذج الأخلاقي الطاهر؛ ناهيك عن أن تظهر في صورة  متفرج بريء لم تتلطخ يداه.

والواقع أن الأمريكيين تواطأوا مع عملية النهب هذه.

ولكن الأمريكيين لم يستجيبوا لطلب روسيا بإعادة الأموال المنهوبة

عندما طلب يغور غيدار، رئيس الوزراء الروسي الإصلاحي الذي شغل المنصب في الأيام الأولى لحقبة ما بعد الشيوعية، من الولايات المتحدة المساعدة في الإمساك بالمليارات التي هرّبتها الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) خارج البلاد، رفض البيت الأبيض مساعدته.

وقد لخَّص مسؤول في الاستخبارات المركزية الأمريكية التبرير الأمريكي للاكتفاء بالمشاهدة دون التصرف بأنّ قال: "رأس المال الهارب هو رأس مالٍ هارب، وليس ثمة ما يمكن فعله لتغيير هذا".

غير أنّ هروب رأس المال في هذه الحالة كان بنطاق غير مسبوق، ولا يعدو كونه مقدمة لعصر من السرقة الجامحة.

وهكذا فإن هذا الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا واستشرى بها.

لقد سرقوا أكثر من نصف أموال البلاد

وحين درس عالم الاقتصاد بجامعة بيركلي غبريال زوكمان المشكلة عام 2015، وجد أن 52% من الثروات الروسية استقرت خارج البلاد.

ولم يزِد انهيار الشيوعية في دول الاتحاد السوفيتي السابق وتحول الصين إلى الرأسمالية الطينَ إلا بلَّةً فيما يخص زيادة الثروات المنهوبة التي هُربت إلى الخارج لتودع في خزائن مؤمَّنة.

لطالما نهب المسؤولون في جميع أنحاء العالم ثروات بلادهم وكدَّسوا الأموال من الرشاوى، غير أنَّ عولمة النظام المصرفي جعلت من تصدير أموالهم التي اكتسبوها بطرق غير مشروعة أمراً أكثر سهولة مما كان عليه.

وهو ما شجع -بطبيعة الحال- على المزيد من السرقة.

نصف تريليون يخرج من العالم الثالث كل عام إلى مصارف نيويورك

ويشير أحد التقديرات إلى أنَّ ما يربو على تريليون دولار يخرج حالياً من الدول النامية كل عام في صور أموال مغسولة وتهرُّب ضريبي.

وكما حدث في الحالة الروسية، يجد قدرٌ كبيرٌ من هذه الثروة المنهوبة طريقه إلى الولايات المتحدة. فقد انضمت نيويورك ولوس أنجلوس وميامي إلى لندن باعتبارها الوجهات المفضلة للأموال المغسولة.

وزاد هذا الانتعاش من ثراء النُّخَب الأمريكية التي مكّنت حدوثه، في حين حطَّ من قدر القيم السياسية والاجتماعية للولايات المتحدة.

وها هو تحذيره من انتقال عدوى الفساد إلى أمريكا يتحقق

وفي حين كان الجميع يُهلل لصعود دولة جديدة من دول العولمة التي ستقتدي بأفضل القيم الأمريكية، لمح بالمر الخطر الرهيب بحدوث عكس ذلك: أي خطر انتقال قيم الناهبين إلى الولايات المتحدة لتحل محل القيم الأمريكية.

وها هي الرؤية القاتمة تقترب من التحقّق.

انتشرت العدوى بصورة ملحوظة، بل وربما بوتيرة ثابتة أيضاً، في دولة يلوَّح عليها منذ نشأتها شبح الفساد.

أُصيبت الولايات المتحدة في طريقها إلى قمة النظام العالمي بنوبات ضمير تتبّعها الصحفي البريطاني أوليفر بولوغ في كتابه الرائع Moneyland: Why Thieves and Crooks Now Rule the World and How to Take It Back (أرض الأموال: لماذا يجرؤ اللصوص والمحتالون على حكم العالم؟ وكيف يستعيدونه؟).

في الأشهر التي تلت شهادة بالمر، سارت روح العصر في المنحى الذي حثَّ بالمر على السير فيه، ولو لحظياً على الأقل.

وأظهرت مقالات الصحف في خريف عام 1999 كيف أنَّ مليارات المال الروسية، التي يبدو بعضها مرتبطاً بزعيم جريمة، قد انتهت في بنك نيويورك.

ومن حُسن الحظ أن إدارة كلينتون انتبهت إلى الكارثة.. ولكن متأخراً

وأصابت تلك المبالغ إدارة بيل كلينتون بالدهشة، مما دفعها إلى إعداد قوانين صارمة لمكافحة غسل الأموال، مصمَّمة لزيادة صرامة الإجراءات البنكية.

غير أنَّ هذه الإدارة كانت في آخر عام لها.

وكان تمرير أي قانون جديد يستلزم خوض مشقة تشريعية والاستعانة بجماعات ضغط جامحة ومتسرعة. لذا، توقفت جميع الخطط.

ولكن "بن لادن" أيقظ الأمريكيين

كان من الممكن أن تظل مقترحات إدارة كلينتون طيّ النسيان في سجلات الأرشيف الوطني لو لم يهاجم أسامة بن لادن الولايات المتحدة فيما يعرف بأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.

ولكن، في الأيام التي تلت سقوط برجي مركز التجارة العالمي، نقَّبت إدارة جورج دبليو بوش بغضب في الدفاتر القديمة للخروج بأفكار تجمعت فيما بعد لينتج عنها تشريع من 342 صفحة، انتهى بأن يصبح قانون باتريوت (قانون الوطنية لمكافحة الإرهاب).

خلقت حالة الهلع الوطني لحظة وجيزة تمكّن مسؤولو الإدارة الأمريكية خلالها من إدراك الخطط التي سبق أن وُضعت على الرف.

وقِّع العنوان الثالث من قانون باتريوت بعنوان "قانون إضعاف غسل الأموال العالمي ومكافحة تمويل الإرهاب" ليصبح قانوناً بعد أقل من شهر من أحداث 11 سبتمبر/أيلول.

وتحقَّق إنجاز تشريعي عظيم

كان هذا القسم من القانون إنجازاً تشريعياً عظيم الشأن.

لم يرتدع ممثلو المصارف الكبرى من هجمات سبتمبر/أيلول، ولاحقوا أعضاء مجلس الشيوخ في محاولة لإجهاض الإجراءات المتخذة.

وتشير تقارير إلى أنّ مسؤولي Citibank قد دخلوا في تلاسن حادٍ بأصوات مرتفعة مع موظفين في الكونغرس داخل قاعة المجلس.

وعكس هذا الغضب قوَّة قانون باتريوت.

ونصّ القانون على أنّه في حال صادف البنك أموالاً مشبوهة محوَّلة، بات ملزماً بإبلاغ الحكومة بهذا التحويل.

ويمكن أن يواجه البنك تهماً جنائية إذا أخفق في توفير الضمانات اللازمة لمنع تدفق الأموال الفاسدة.

لا عجب إذن من أنَّ البنوك قاتلت بشراسة ضد فرض العديد من القواعد الجديدة، التي تُلزمها بزيادة أعداد وقدرات موظفي أقسام الامتثال لديها، والأهم من ذلك، القواعد التي تخضعها لغرامات باهظة في حال التراخي في تطبيق القانون.

وتحوَّل كثيرٌ مما حض عليه بالمر فجأة إلى قانون يحكم البلاد.

ثم شنَّ قطاع العقارات هجوماً مضاداً باستخدام الأمهات ذوات الديون

ولكن، داخل أروقة قانون باتريوت وجدت أعمال جماعات الضغط التابعة لقطاع آخر.

في كل ولاية داخل يوجد قطاع عقارات، وقد توسلت جماعات الضغط المشتغلة في هذا القطاع لإعفائها من المراقبة التي يستلزمها قانون باتريوت للمعاملات الأجنبية المثيرة للشك.

واحتشدوا جميعهم تقريباً بصورٍ لأمهات قرويات يضعن لافتات كُتب عليها "للبيع" في حدائق منازلهن، والاستشهاد بأنّهن غير مؤهلات لتفحص كل مشترٍ بإمعان. وأقنعن الكونغرس بأن يمنح هذا القطاع إعفاءً مؤقتاً من تنفيذ القانون الجديد.

فخلقوا ثغرة كبيرة في القانون

كان هذا الإعفاء ثغرة كبيرة في القانون، ومنح فرصة نمو مذهلة لقطاع العقارات الثمينة.

فرغم جميع العراقيل الجديدة التي يضعها النظام المالي، كان بوسع الأجانب شراء شقق فاخرة أو بيوت دون الإفصاح عن هوياتهم وبسهولة، من خلال الاختباء خلف شركات وهمية تأسست في ولايات مثل ديلاوير ونيفادا.

وقد حوَّلت هاتان الولايتان، بالإضافة إلى ولاية أخرى قليلة، تسجيل الشركات الوهمية إلى حيلة مربحة للغاية.

وأصبح بإمكان أي تاجر مخدرات شراء منزل أمريكي

وكان الترتيب لإنشاء واجهة خادعة نيابة عن ديكتاتور أو تاجر مخدرات أو أوليغاركي أمراً بسيطاً على نحو مذهل.

ووفقاً لمنظمة Global Witness غير الحكومية المكافحة للفساد التي تأسست عام 1993 والتي تتخذ من لندن مقراً لها، استلزم شراء بطاقة مكتبة قدراً من التحقق في العديد من الولايات يفوق مقدار التحقق عن إنشاء شركة وهمية مجهولة الهوية.

وبات قدرٌ كبيرٌ من الأموال التي أودعت المصارف قبل أن يصبح باتريوت قانوناً يُستخدم في شراء العقارات.

حتى إن ناهبي الأموال الروس أصبح لديهم أملاك في قلب نيويورك

ووصفت صحيفة The New York Times الأمريكية الظاهرة في سلسلة من المقالات الكاشفة التي نُشرت عام 2015 بعنوان "أبراج السريِّة" (Towers of Secrecy).

واكتشف الصحفيون أنَّ المجمعات السكنية المحيطة بتايم وارنر سنتر في كولومبوس سيركل في مانهاتن مملوكةٌ لمجموعةٍ من ناهبي الأموال الروس.

وكانت ملكية أحد المجمعات السكنية تعود لعائلة السيناتور الروسي السابق الذي منعه الاشتباه بصلاته بجماعات الجريمة المنظمة من دخول كندا لبضع سنوات.

برج ترمب في مدينة نيويورك/رويترز
برج ترمب في مدينة نيويورك/رويترز

كما آلت ملكية مجمع سكني على بُعد مسافة قريبة منه إلى رجل أعمال يوناني اعتقل مؤخراً في حملة لمناهضة الفساد الحكومي.

وامتلكت أسرة حاكم كولومبي سابق، سُجن بتهمة التربح من المنصب، وحدة سكنية لم يعد بوسعه أن يزورها.

وقد دخل هؤلاء السكان جميعاً، ممن أنكروا القيام بأي عملٍ مخالف للقانون، في عمليات شراء بأثمان باهظة بطريقة أصبحت شائعة.

وبهذه الطريقة فإن الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا تدريجياً.

نصف المنازل المليونية الأمريكية تم شراؤها عبر شركات وهمية

وكشفت صحيفة The New York Times أنَّ ما يقرب من نصف المنازل التي تبلغ قيمتها 5 ملايين دولار على الأقل على مستوى الولايات المتحدة، قد جرى شراؤها بواسطة شركات وهمية.

وكانت النسبة أعلى في لوس أنجلوس ومانهاتن (حيث ينطبق هذا الوصف على أكثر من 80% من مبيعات تايم وارنر سنتر).

وكما ذكرت وزارة الخزانة الأمريكية عام 2017، فإنّ ما يقرب من عملية شراء عقار ثمين من بين كل ثلاث عمليات ترصدها تشتمل على فرد تتبعه الحكومة باعتباره شخصاً "مشبوهاً".

غير أنّ وجود العديد من المشترين المشبوهين لم يشكِّل أبداً، بطريقة أو بأخرى، متاعب من نوع خاص لقطاع العقارات أو بالنسبة للساسة في هذا الصدد.

وعمدة نيويورك يرحب بالمليادريرات الروس

وفي عام 2013، سأل عُمدة نيويورك آنذاك مايكل بلومبرغ: "ألن يكون من الرائع أن نقنع كل هؤلاء المليارديرات الروس بالقدوم إلى هنا؟".

وخلق هذا الترحيب الدافئ حالةً من التنافر الغريب في السياسة الأمريكية.

لنأخذ على سبيل المثال حالة أوليغ ديريباسكا، أحد أباطرة صناعة الألومنيوم، وهو شخصية ظهر اسمها بشكل متكرر في التحقيق الجاري حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016.

وقد تسبب قلق الخارجية الأمريكية من صلات ديريباسكا بجماعات الجريمة المنظمة الروسية (وهو أمرٌ أنكره) بفرض قيود على دخوله إلى الولايات المتحدة لسنوات.

غير أنّ مخاوف الخارجية الأمريكية لم تُشكِّل عقبة في طريق شرائه منزلاً بقيمة 42.5 مليون دولار أمريكي في الجانب الشرقي من مانهاتن وعقار آخر بالقرب من إيمباسي رو Embassy Row بواشنطن العاصمة.

وحاولت إدارة أوباما التصدي للحقيقة القذرة لسوق العقارات الأمريكية

وبمرور الوقت، زادت الفجوة بين النوايا الطيبة لقانون باتريوت والحقيقة القذرة لسوق العقارات الأمريكية على نحو بات يصعب معه تجاهل الأمر، حسب وصف التقرير.

أوباما حاول التصدي للفساد ولكن ترمب أوقف جهوده بعد توليه السلطة/رويترز
أوباما حاول التصدي للفساد ولكن ترمب أوقف جهوده بعد توليه السلطة/رويترز

وفي عام 2016، اختبرت إدارة باراك أوباما برنامجاً يُطبق على قطاع العقارات ما يُطبَّق على المصارف، بحيث يجري إلزام السماسرة بالإبلاغ على المشترين الأجانب أيضاً.

وكان من الممكن للبرنامج الجاري، الذي جرى اختباره في ميامي ومانهاتن، أن يصبح أساساً لنظام إلزامي صارم.

ولكن القدر لم يعطي فرصة لأوباما لاستكمال جهوده.

ولكن ترامب تاجر العقارات وقف لهذه الجهود بالمرصاد، فالروس يشترون مشروعاته

غير أنّ الإدارة الأمريكية تغيرت، ووصل إلى سدة الحكم تاجر عقارات (دونالد ترامب).

أحبَّ خلف أوباما بيع المجمعات السكنية لمشترين أجانب مجهولي الهوية، وربما أصبح معتمداً على ما يقدِّمونه من أموال.

وفي عام 2017، أجرت وكالة رويترز للأنباء تحقيقاً حول مبيعات العقارات الخاصة بمؤسسة ترامب في ولاية فلوريدا.

وانتهت إلى أن 77 من أصل 2044 وحدة في المشروعات العقارية مملوكة لروس.

غير أنَّ هذا الصورة ربما كانت غير مكتملة.

إذ إنَّ أكثر من ثُلثي الوحدات بيعت لشركات، مما يسهِّل عملية إخفاء هوية المالك الحقيقي.

فقد يكون بوتين نفسه مالكاً لعقار بالولايات المتحدة

وكما يشير أوليفر بولوغ: "ربما كانت تلك العقارات مملوكة لفلاديمير بوتين نفسه، لا يمكن لأحد أن يؤكد ذلك على وجه اليقين سوى بوتين نفسه".

وبحلول الوقت الذي دخل فيه ترامب إلى البيت الأبيض، دخل الإعفاء "المؤقت" لسوق العقارات -وفقاً لقانون باتريوت- عامه الخامس عشر.

وتحول من إعفاء مؤقت إلى إعفاء أبدي، وإن كان أحدٌ لم يصرّح بذلك على الملأ.

الأمريكيون يريدون أيضاً إخفاء أموالهم.. رجل الثلاثة أصفار يساعدهم

غير أنّ الحرب على السارقين كانت تشتعل في تلك الأثناء على جبهة أخرى.

ففي الوقت الذي كان فيه أصحاب الثروات الأجانب قادرين، قد ظلوا بمأمن في معظم الأحيان داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فإن أصحاب الثروة الأمريكيين المتطلعين لإخفاء ثرواتهم خارج البلاد واجهتهم متاعب جديدة.

ففي عام 2007، عاشت الولايات المتحدة إحدى لحظات الصراحة الأخلاقية فيها، حرَّكتها اعترافات مصرفي يُسمَّى برادلي بيركينفيلد، الذي اعترف بما اقترفته يداه لوزارة العدل الأمريكية. (وحكى قصته فيما بعد في كتاب يحمل عنوان Lucifer's Banker).

وكان ما أقر به عن طيب خاطر أمام المحققين هو جهوده لجذب العملاء نيابة عن UBS، عملاق القطاع المصرفي السويسري.

فقد عاش في أوساط النخب الأمريكية المتعالية

ووصف بيركينفيلد كيف أنّه زرع نفسه في قلب التجمعات الخاصة بأصحاب النفوذ الأمريكيين، وأصبح يحضر ما يقيمونه من سباقات اليخوت والمعارض الفنية المتعالية.

كان يختلط بالأثرياء ويختلق الأحاديث معهم. وكان يقول "ما يمكنني أن أقدمه لكم هو "صفر"، ثم يصمت قليلاً.

ويضيف: "في الواقع ثلاثة أصفار. صفر = ضريبة الدخل، وصفر = ضريبة أرباح رأس المال، وصفر = ضريبة التركة".

والكونغرس ينفجر غضباً بعد اكتشافه إخفاء 20 مليار دولار

حققت هذه الطريقة المفتقرة إلى عنصر الغموض نجاحاً كبيراً، وكذلك حقَّق مصرف UBS. وكجزء من اتفاق عقده البنك مع وزارة العدل الأمريكية، اعترف البنك بإخفاء أصول يبلغ قدرها حوالي 20 مليار دولار من الأموال الأمريكية.

أصيب الكونغرس الأمريكي بحالة من الغضب العارم من نطاق الأموال المخفية.

وفي عام 2010، مرَّر الكونغرس قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية، وهو تشريعٌ له سُلطة أخلاقية فقط بخلاف ما يوحي اسمه القوي.

لم يحدث ثانية أن تمكن بنك أجنبي من الاحتفاظ بأموال أمريكية دون إخطار دائرة الإيرادات الداخلية، أو دون المخاطرة بالخضوع لغرامة عقابية كبيرة.

واشنطن تخصص جهوداً لمكافحة غسل الأموال أكثر من أي حكومة في العالم

هنا ظهر عمل قيادة مكافحة الفساد، وتظهر الطنطنة الأمريكية في هذا الصدد.

ووفقاً لأحد أقوى الأساليب الاستثنائية الأمريكية، تفخر الولايات المتحدة بوجود نظام مالي صحي وثقافة حكم رشيد راسخة.

بالفعل، خصصت الحكومة الأمريكية اهتماماً بالغاً لقضية غسل الأموال، ربما أكثر من أي دولة أخرى على سطح الكوكب.

غير أن الحدود التي تفرضها في هذا الأمر ليست عالية جداً، كما أن هناك حدوداً لانتباهها لتفاصيله.

ففي عام 2011، سعت إدارة أوباما إلى جمع المزيد من المعلومات حول الحسابات المصرفية للأجانب، ومشاركتها مع دولهم.

غير أن البنوك، بالإضافة إلى جماعات الضغط والمنظرين الفكريين التابعين لها، عملت بغضب بالغ لمنع توسيع نطاق هذا الأمر.

وأدان زميلٌ في مؤسسة Heritage Foundation المعايير المقترحة باعتبارها "إمبريالية مالية".

كما أنّ رئيس جمعية المصرفيين في ولاية فلوريدا الأمريكية قال: "في وقت نحاول فيه خلق وظائف وتخفيف العبء عن كاهل الشركات، تعد إثارة هذه القضية في هذا الوقت أمراً خاطئاً".

وتبعته في ذلك جمعيات المصرفيين في تكساس وكاليفورنيا ونيويورك. وبهذا ذهب الجهد المبذول في الكونغرس أدراج الرياح.

ليتم كتابة فصل جديد في مسيرة أدت إلى الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا التي كان يفترض أن قيمها تحصنها. 

والعالم قرر الاستجابة.. خطة لضرب جميع الملاذات الضريبية

تكرَّر هذا النمط نفسه حين أخذت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نموذج الكونغرس لقانون الامتثال الضريبي  للحسابات الأجنبية وزادت عليه.

كان مطلوباً من البنوك أن تقدم كل عام بياناً بالحسابات للسلطات الضريبية في الدولة الأم لحامل الحساب.

ولو كانت معايير المنظمة قد وقعت من جانب جميع الدولة، لكانت بمثابة ضربة قاصمة لجميع الملاذات الضريبية، تُحطِّم البنية التحتية الحيوية التي تسمح للأموال المنهوبة بالتدفق دون أن يلحظها أحد.

وفي النهاية، وقفت الولايات المتحدة وحيدة في معارضة الانضمام لاتفاقية المنظمة، التي أُبرمت عام 2014.

ولكن الأمريكيين يريدون كشف فساد العالم وإخفاء فسادهم

هذه المكابرة أفسدت كلَّ ما كانت الولايات المتحدة قد حقَّقته لقيادة الحرب على الأموال القذرة.

ففي حين كان بوسع الولايات المتحدة أن تطلب من البنوك في أي دولة تقريباً معلومات مالية حول مواطنين أمريكيين، فإنها غير ملزمة بأي شكل من الأشكال بتقديم معلومات مشابهة لأي دولة أخرى.

وفي هذا السياق يكتب بولوغ: "تنمّرت الولايات المتحدة على سائر دول العالم لإلغاء السرية المالية.

غير أنّها لم تُطبق المعايير التي وضعتها على نفسها".  

وأصبحت الولايات المتحدة وليس سويسرا هي مقر الأموال السرية

وقال محامٍ يقيم في زيوريخ، العواقب لوكالة Bloomberg الأمريكية: "من المفارقة، بل من الغرابة، أن تصبح الولايات المتحدة، التي كانت صارمة في إدانتها للمصارف السويسرية، هي مقر الأموال السرية للعصر الحالي… ما هذا "الصخب" هل تسمع؟ إنه صوت الأموال وهي تتدفق إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية".

وقبل وقت غير طويل من رفض الولايات المتحدة توقيع معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، افتتح مكتب لشركة روتشيلد للخدمات المالية العظيمة في الطابق الثاني عشر من مبنى في ولاية نيفادا، على بُعد أميال مكانية وقانونية من المكتب الأم في باريس.

لم يُعلن عن اسم البنك خارج المبنى ولم يُدرج من الأساس في الدليل المنشور في البهو.

ولهذه الأسباب يفضل الأثرياء الأجانب إيداع أموالهم في أمريكا

وبعد فترة وجيزة من افتتاح مكتب نيفادا، عرض أحد أعضاء مجلس إدارة البنك خدمات الفرع الجديد على عملاء محتملين في سان فرانسيسكو.

ومما جعل هذا العرض مميزاً وراسخاً في الذاكرة هو الأفكار التي تضمنتها المسودة التي حصلت عليها وكالة Bloomberg الأمريكية.

لقد ذكرت المسودة بوضوح الأسباب التي تدفع الأثرياء الأجانب لضخ أموالهم في ولاية نيفادا: إن الولاية هي المكان المناسب لإخفاء المال من الحكومات وتجنب دفع الضرائب الأمريكية.

فواشنطن لا تحب مساعدة الحكومات في استرداد أموالها.. إنها أكبر ملاذ ضريبي

وأقرَّت المسودة بحقيقة لا يبوح بها المصرفيون في المعتاد على الملأ، وهي أنّ الولايات المتحدة لديها "شهية ضعيفة" لمساعدة الحكومات الأجنبية في استرداد الأموال المغسولة داخل حدودها.

في الواقع، لقد أصبحت الولايات المتحدة "أكبر ملاذ ضريبي في العالم".

وقالت الشركة إنَّ هذه العبارات قد مُحيت من العرض الذي قدم لأنها لا تعكس رؤى الشركة الحقيقية.

فلقد تغيَّر سلوك النخبة الأمريكية.. نفَضُوا المعايير الأخلاقية القديمة

وما تغيّر لم يكن الهيكل التنظيمي وحده؛ إذ تغيَّر سلوك النخبة الأمريكية أيضاً. تنافس أعضاء الطبقات المهنية على بيع خدماتهم لسارقي الأموال.

وفي أثناء هذا التنافس، نفضوا عنهم غبار المحاذير الأخلاقية القديمة، وتصاعد الضغط لاختبار حدود القانون.

وتوضح مجموعة من مقاطع الفيديو المنشورة على الإنترنت، التي جرى تصويرها عام 2014، هذا الانهيار الأخلاقي.

لم تُظهر المقاطع أبداً وجه رجل جرى تقديمه باسم رالف كايسر، ألماني لا يكشف سوى تفاصيل بسيطة عن نفسه، بلهجة إنجليزية متكسرة.

عقد الرجل سلسلة من الاجتماعات مع 13 شركة قانونية في مانهاتن، وفيها ينخرط مع عبارات من الترحيب يتبعها الإعلان عن هدفه.

يعمل الرجل مستشاراً لمسؤول حكومي في "إحدى الدول الغنية بالمعادن في إفريقيا الوسطى".

وأصبح هذا المسؤول فاحش الثراء.

ليست رشوة بل أموالاً تسهيلية.. هكذا اشترى الألماني الغامض طائرة أمريكية

يقول كايسر "الشركات تتطلع لحيازة المعادن النادرة، لذا فإنّهم يدفعون أموالاً خاصة نظير ذلك. لا أسميّها "رشوة"، بل أسميها "أموالاً تسهيلية".

يواصل كايسر شرح حكايته ويقول إن عميله يتقدم في العمر، وإنّه بسبب إلحاح زوجته الدائم على امتلاك منزل في نيويورك، في حين يتطلع العميل لشراء طائرة غولف ستريم ويخت طرأت لديه فجأةٌ حاجة لنقل أمواله إلى الولايات المتحدة.

يُفضل العميل أن تظلّ مشترياته قيد السرية التامة، بحيث لا يثير الانتباه في بلده الأم "إذا انكشف الأمر فسيُسبّب له إحراجاً بالغاً، على أقل تقدير".

لا يبذل كايسر جهداً يُذكر لإخفاء رغبته في نقل أموال مشبوهة.

هذا الأمر برمته معدٌّ له مسبقاً.

إذ إنّ كايسر في واقع الأمر شخصيته مختلقة، من جانب مؤسسة Global Witness غير الحكومية.

وكان الممثل مزوداً بكاميرا مخبّأة جيداً لتصوير المحامين الأمريكيين وهم يظهرون ميولهم الأخلاقية.

ورغم أنّ جميع المحامين الذين يزورهم كايسر لا يعتبرونه عميلاً، فإن العديد منهم يقول إنه يحتاج مزيداً من المعلومات حول مصدر ثروة المسؤول، وواحدٌ منهم فقط هو مَن رفض بشكل قاطع مناقشة الطرق الممكنة لتحويل الأموال.

وينبغي أن نشير هنا إلى أنَّ كايسر لم يختر مكاتب محاماة على طراز شخصية سول غودمان الخيالية، بل محامين من شركات مرموقة.

لا نريد شبهات، ولكن لا نسأل عن الأسماء الغريبة

وبطبيعة الحال كان جميعهم يدركون مخاطر تحويل أموال مشبوهة إلى نيويورك. وقال أحد المحامين لكايسر: "عليّ أن أكون حريصاً أنا نفسي. فأنا لا أريد أن أقوم بشيء يبدو وكأنه غسل أموال؛ فهذا أمرٌ يمكن أن يكلفني خسارة رخصة مزاولة المهنة خاصتي، وأنا لا أقوم بهذه الأشياء".

ولكن ما نوع الإجراءات التمحيصية التي يطبقها بشكل عام؟ هذا أمرٌ غير واضح.

يقر المحامي بما يفعل فيقول: "حين أتلقى المال من عملاء آخرين، دائماً ما يأتي باسم غريب عليه. وأنا لا أسأل لمن هذا الاسم".

ويعلن محامٍ آخر دون اكتراث: "لا أحد يسجن المحامين، لأننا ندير البلاد… ما زلنا أعضاء في طبقة أصحاب الحظوة داخل البلاد".

فمواثيق الشرف الأمريكية تراجعت

أجرت منظمة Global Witness التجربة لتشير إلى تواطؤ شركات المحاماة الكبيرة في انتشار السرقة.

غير أنّ المقاطع تقدم أيضاً دراسات إنسانية أولية لإحدى طبقات النخبة الأمريكية. في مهنة مثل القانون ثمة مواثيق شرف متقدمة.

غير أنّ تلك المواثيق تبدو وكأنها تراجعت في السنوات الأخيرة، حتى أرقى الشركات وجدت نفسها تحمل همَّ بقاء نموذج الأعمال عالي السعر الذي تقدمه، والذي اهتز بعمق بفعل الأزمة المالية العالمية عام 2008 وما تبعها من تخفيض النفقات في الشركات.

فالفظاظة التي تميز الناجحين تدفع الجميع إلى تقليدهم

لا شك أن النزعات الجشعة دائماً ما كانت موجودة داخل عالم الشركات الراقية.

غير أن الشعور بهذا الصراع الدارويني، حيث البقاء للأقوى، وكذلك دخول أعراف نخبة عالمية، تسببا في تآكل الحدود.

فالشركاء الذين استفادوا بفظاظة أكبر من المعتاد من زملائهم الذين لا يحققون الإنجاز المطلوب يبدون أنفسهم أكثر استعداداً لتبني سلوك أكثر تسامحاً مع العملاء الذين كان من الممكن أن يرفضوهم قبل ذلك.

وهذا ما ظهر في تحقيق مولر بشأن حملة ترامب

ظهر هذا التحلل بشكل كامل للعيان في تحقيق روبرت مولر بشأن الحملة الانتخابية لدونالد ترامب.

رأينا كيف أن شركة Skadden, Arps, Slate, Meagher & Flom، وهي أحد أعمدة مهنة القانون بالولايات المتحدة قد وضعت نفسها في خدمة السرقة والنهب.

وقد عمل جريج كريج أحد الشركاء في الشركة من عام 2010 إلى عام 2018، مستشاراً في البيت الأبيض إبان فترة إدارة باراك أوباما، وكان المسؤول عن حماية نزاهة الرئاسة.

أما خلال عمله في Skadden فقد أشرف على إعداد تقرير استُخدم لتبرير اعتقال الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش لأبرز خصومه السياسيين، على أُسس كانت محل تشكك على نطاق واسع.

وقالت الشركة، وفقاً للشهادة في تحقيق مولر، بشكل خاص إنّ الدليل اللازم لدعم قرار اعتقال كانت "غير موجودة تقريباً".

وأقر محامٍ آخر عمل لدى شركة Skadden بالكذب على المحققين أثناء تحقيق فريق مولر في عمل الشركة في أوكرانيا.

المحقق الخاص روبرت مولر/ رويترز
المحقق الخاص روبرت مولر/ رويترز

استعان الأوكرانيون بالشركة من خلال وسيط، وهو المستشار السياسي بول مانافورت المسجون حالياً. وكان من الممكن أن يُنظر إلى مانافورت في وقت من الأوقات باعتباره شخصاً خارجاً عن المألوف في قذارته، حسب التعبير الوارد في التقرير، وأنّه صاحب جماعات الضغط التي تحمل أدنى المعايير الأخلاقية، ومستعدٌ لقبول أكثر العملاء رداءة.

غير أنّ مولر فضح مدى ارتباط عمل مانافورت بالنيابة عن سارقي الأموال الأوكرانيين بالنخبة الدائمة في واشنطن.

عيَّن مانافورت من الباطن بعض موظفي جماعة الضغط المملوكة له لشركة توني بوديستا، الذي يُزعم أنّه أقوى مجمعي النفوذ الديمقراطيين في جيله.

واستخدام مانافورت شركة Mercury Public Affairs، حيث تعامل مع فين ويبر، عضو الكونغرس السابق عن الحزب الجمهوري والرئيس السابق للوقف الوطني للديمقراطية.

علبة نشوق تثير الغضب.. كيف تخلى الأمريكيون عن قيم آبائهم المؤسسين؟

يعود خوف الولايات المتحدة من الهوس بالسرقة إلى نشأتها.

ففي عام 1785، عاد بنيامين فرانكلين من باريس، حيث عمل ممثلاً للمصالح الأمريكية.

وأحضر معه هدية ثمينة أثارت جدلاً.

كانت الهدية هي أكبر عنصر كان بحوزته، كانت لوحة للويس السادس عشر، بإطار قوامه 408 ماسات، موضوعة في غلاف من الذهب.

غالباً ما كان يُشار إلى هذه الهدية بعلبة النشوق، وهو اسمٌ بدا الهدف منه إخفاء عظمة الهدية.

ورمزت الهدية لكل ما كان محل احتقار وكراهية جيل فرانكلين.

وفي هذا الزمن كان تبادل الهدايا عُرفاً دبلوماسياً مألوفاً؛ غير أن الهدية يمكن أن تشوش على حكم الموظف العام، وتحمل خطر تقويض ولاء من يتلقاها.

ومثلت الهدية إمكانية إعلاء المكسب الشخصي على الالتزام بالصالح العام.

كانت مخاطر الفساد محل هوس بالنسبة للآباء المؤسسين.

وفي صيف 1787، ذكر جيمس ماديسون الفساد في مفكرته 54 مرة.

ويمكنك قراءة مخطوطات الأعراف الدستورية المتنوعة لتشهد مدى قلق ذاك الجيل من القيمة الأخلاقية للسلوك العام، ومدى رغبتها في خلق نظام يتم فيه تعريف الفساد على نطاق أوسع مما عرَّفه النظام الفرنسي أو البريطاني، وهو ما عزَّز ثقافة سياسية تحمل تطلعات سياسية أعلى.

تذكر عالمة القانون والناشطة الليبرالية زفير تيتشاوت، في مذكراتها المهمة التي تحمل عنوان Corruption in America أنّه خلال السنوات المئتين الأولى، حافظت المحاكم على حرص المؤسسين في التصدي للفساد.

يوماً ما في أمريكا كانوا يجرمون جماعات الضغط

ولفترة جيدة من التاريخ الأمريكي، جرّم عدد من الولايات جماعات الضغط في صور عديدة، انطلاقاً من شعور بأنّ إرخاء المعايير من شأنه أن يُطلق سباقاً نحو القاع.

وتبدو هذه الحالة التي تشبه الرُّهاب طريفة ونادرة في الوقت الحالي، كما أنّ هذه الحالة تنبأت بما نحن فيه حالياً أيضاً.

تنازلت الثقافة السياسية والقانونية والمصرفية الأمريكية، وكثير من ثقافة النخبة الميريتوقراطية التي تمجد ذاتها، منذ زمن طويل عن تلك الطرق المتزمتة.

وبهذا التنازل فإن الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا خلسة.

والآن، تم إعادة تعريف الفساد لصالح الفاسدين

أما الوثيقة المحددة لعصرنا الحالي فهي قانون "المواطنون المتحدون" الصادر عن المحكمة الدستورية العليا عام 2010.

لم يقتصر هذا القرار على تقنين النفقات مجهولة الهوية على الحملات السياسية، وإنما أعاد تعريف جوهر أفكارنا عن الفساد، ليقيّدها بصوره الأكثر فجاجة: الرشوة والمقايضة الصريحة.

وبلور قرار القاضي أنتوني كيندي بالإجماع أعرافاً تسود أكثر من أي وقت مضى وتحكمها اللامبالاة.

اللامبالاة الجماعية رداً على التهرب الضريبي من جانب الأثرياء والشركات الكبرى، والتثاؤب الذي باتت تقابل به الملايين المشبوهة التي يُنفقها مليارديرات للتأثير في الانتخابات.

فقد أضفت أمريكا الشرعية على اقتصاد الظلام، والعالم يدفع الثمن

بعبارة أخرى، أضفت الولايات المتحدة الشرعية على اقتصاد سياسي قائم في الظلام.

وقامت بذلك في ظل ارتفاع كبير على المستوى العالمي لدى الأشخاص الذين يتطلعون إلى الفرار والاختباء في الظلام.

هذا التواطؤ الأمريكي مع السرقة والنهب له كُلفة مفزعة على العالم بأسره.

إذ إن جميع الأموال المسروقة، وجميع الدولارات المهرَّبة من الضرائب، جميعها تُصب في شراء منازل سنترال بارك وفي شركات نيفادا الوهمية، بدلاً من إنفاقها على أنظمة الرعاية الصحية والبنية التحتية.

فأكثر من 3 ملايين حالة وفاة يمكن منعها سنوياً إذ أوقف النهب

فعلى سبيل المثال (أصدرت جماعة One ) لمحاربة الفقر تقريراً يزعم أن 3.6 مليون حالة وفاة تحدث كل عام يمكن إرجاعها إلى هذا النوع من نهب الموارد.

السرقة تُعرقل خطوات إقامة أسواق عاملة وديمقراطية ذات مصداقية.

كما أنّها تؤجج الشكوك في أنّ فكرة الرأسمالية الليبرالية بأسرها عارٌ منافق.

ففي حين يجري السلب والنهب في جميع أنحاء العالم، يزداد الأمريكيون مدعو الصلاح ثراءً من تواطئهم مع الجناة السارقين، حسب التقرير.

الروس الذين نهبوا بلادهم نشروا شرورهم في كل العالم

كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة قلقين من أنّ تصبح النذالة إجراءً متبعاً، وقد كان.

وقبل أن تحوم الشكوك حول ولاء ترامب بوقت طويل كانت قطاعات عريضة من النخبة الأمريكية، متمثلة في محامي وأعضاء جماعات ضغط وسماسرة عقارات وساسة في عواصم الولايات قد مكنوا لإنشاء الشركات الوهمية.

ولقد أثبتوا بالفعل أنّهم خدم مخلصون للناهبين على مستوى العالم.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين/ رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين/ رويترز

كان ريتشارد بالمر محقاً: النخب السارقة للاتحاد السوفيتي السابق كانت أبعد ما تكون عن المنتفعين المارقين.

إذ إن هؤلاء السارقين أنذروا بظهور عادة السرقة التي لن تلبث أن تنتشر. ثمة حقيقة مُرَّة حول فضيحة التدخل الروسي، وهي أنّه حين حاول فلاديمير بوتين التأثير في شكل دولتنا، كانت بالفعل قد بدأت تميل لتسير في ركاب دولته.

وهكذ فإن الفساد انتقل من روسيا إلى أمريكا، منذ اليوم الذي قبل فيه نخبة التساهل مع نهب غريمتهم السابقة

تحميل المزيد