باتت السياسة الخارجية الأمريكية منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تسير بمبدأ التركيز على الداخل وسحب القوات الأمريكية من الخارج، لكن هذا التصور قد لا يكون الأمثل في كل الأحوال خير دليل على ذلك الرغبة الأمريكية الجامحة في الانسحاب من أفغانستان.
فالمعركة ضد حركة طالبان صارت أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة، وهي لا تسير على ما يرام بسبب الخسائر التي يُمنى بها الجيش الأمريكي كل يوم هناك، ناهيك عن المساحات الكبيرة التي تعود إلى سيطرة طالبان مرة أخرى، ما دفع الإدارة الأمريكية للتحاور مع طالبان بحسب مقال للباحث بمعهد American Enterprise Institute مايكل روبن.
وقال روبن في مقال بمجلة The National Interest إذا ما قررت واشنطن الانسحاب من أفغانستان بعد التوصل لاتفاق مع طالبان، فإن هذا القرار سيكون له توابع "كارثية" على الولايات المتحدة في البداية ثم على الأمن العالمي كما يرى روبن.
وتسيطر طالبان على مساحة شاسعة من أفغانستان أكثر من أي وقت مضى منذ بداية الحرب. في 31 يناير/كانون الثاني 2019، أصدر المفتش العام لإعادة الإعمار في أفغانستان تقريره ربع السنوي إلى الكونغرس. وجاء في التقرير أنه "بحلول 31 أكتوبر/تشرين الأول 2018، يعيش 63.5% من سكان أفغانستان في مناطق حكم أو نفوذ الحكومة الأفغانية، وهي نسبة تقل 1.7% عن الربع السابق له. زاد المسلحون من سيطرتهم أو نفوذهم على المناطق التي يعيش فيها 10.8% من السكان. وزادت نسبة السكان الذين يعيشون في المناطق المتنازع عليها لتصل إلى 25.6%". ولا تبشر هذه النسب بالخير في حرب استثمرت فيها الولايات المتحدة حرفياً مئات المليارات من الدولارات.
ترامب يهرع للانسحاب
وبحسب المقال مثلما قال ترامب في خطاب حالة الاتحاد، تبدو إدارته على استعداد للتوصل إلى اتفاق مع طالبان من أجل الخروج من البلاد. أعلن ترامب قائلاً: "لقد حان الوقت على الأقل لمحاولة التوصل إلى السلام". ولعل المبعوث الأمريكي إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، سيحاول إكساء الاتفاقية وجهاً دبلوماسياً، غير أنه من الصعب وصف إطار العمل الخاص به بأنه يتمحور حول أي شيء سوى الاستسلام. فلا يقتصر الأمر على سماحه لطالبان بإبعاد الحكومة الأفغانية المنتخبة عن مفاوضات التسوية النهائية، بل ويبدي أيضاً بعد أشهر من المفاوضات قبولاً لتعهد طالبان بعدم إيواء تنظيمات مسلحة مثل داعش بعد انسحاب الولايات المتحدة.
ويتلهف فريق ترامب إلى مغادرة أفغانستان لدرجة أنه لا يعترف بأنها الاتفاقية نفسها التي قبلت بها إدارة كلينتون في التسعينيات، عندما قبلت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت بتعهد طالبان بغلق معسكرات تدريب الجهاديين ومواصلة فرض العزلة على زعيم القاعدة أسامة بن لادن. ولا يبدو أيضاً فريق ترامب عازماً على تذكر أنه قبل زحف حركة طالبان إلى كابول عام 1996، تعهدت طالبان بالتفاوض على تشارك السلطة بدلاً من فرض الأمر الواقع، كما يقول المقال.
وبحسب روبن لم تفِ طالبان آنذاك بتعهداتها، فليس ثمة أي أدلة على الضمانات التي تبديها الحركة أجدى من سابقتها، لا سيما نظراً إلى أن الولايات المتحدة وطالبان لا يقبلان بتعريف مشترك فيما بينهما لـ"الإرهاب".
وعندما انسحب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، استمرت حكومة نجيب الله 3 سنوات في كابول، لكن جانباً كبيراً من هذا يعزى إلى مواصلة موسكو تقديم الدعم إلى حكومته من الموارد التي أُعيد توجيهها من أوروبا الشرقية. وبمجرد نفاد المال، نفدت معه قدرة نجيب الله على الاستغناء عن الرعاية والدعم. كان انهياره سريعاً آنذاك.
ماذا يحدث حين مغادرة واشنطن؟
وبحسب المقال فإذا غادرت الولايات المتحدة، يُحتمل إذاً أن تعزز حركة طالبان من سيطرتها على أغلب مناطق أفغانستان. فقد سيطرت قبل أحداث 11 سبتمبر على حوالي 90% من البلاد. بالرغم من امتلاك الحكومة الأفغانية شرعية تكفلها لها الانتخابات الشعبية التي فازت بها، تبدو الولايات المتحدة عازمة على ترك كابول أمام مأزق؛ فليس من المرجح أن تقدم القوى الخارجية إلى الحكومة الأفغانية مليارات الدولارات التي قال البنك الدولي إنها في حاجة إليها كي تقف على قدميها. وفي غضون ذلك، يمكن أن تعتمد طالبان على دعم باكستان.
لذا، إذا انتصرت حركة طالبان، ماذا سيعني ذلك للأفغان، ولأفغانستان، وللمنطقة؟
كارثة ستحل على الأفغان
وبحسب المقال تمثل أي حكومة لحركة طالبان خسارة كبيرة للحكومة، إذ إن كثيراً من الأفغان الذين يدعمون طالبان الآن، يفعلون ذلك لشعورهم بالإحباط من الفساد وعدم كفاءة الحكومة الأفغانية في كابول. فكلما تبني منظمات الإغاثة الطرق على سبيل المثال، تنتزع قوات الأمن الأراضي التي تقع على طولها من أيدي المزارعين. فلا يجد المزارعون من يلجأون إليه إلا طالبان.
وتكمن المشكلة بحسب روبن في أنه عندما تحوز طالبان على السلطة، تصير الجماعة على درجة الفساد نفسها للحكومة الأفغانية. وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل المجموعة تخسر بسرعة قلوب وعقول الشعب الأفغاني الذي احتضنهم بين عامي 1994 و1996، فلم تتمكن على الإطلاق من تعزيز سيطرتها على أفغانستان.
يُضاف إلى ذلك استغلال باكستان للدين من أجل تدفق البنغاب الذين يزدرون البشتون الأفغان فما بالكم بأقلية الهزارة، ليشير الوضع الحرج إلى: العصيان وغياب الاستقرار.
توقعوا انتشار التطرف بصورة أكبر في باكستان
وبحسب المقال يقتصر الوعي التاريخي الأمريكي بأفغانستان على أحداث بعينها. إذ إن الوعي بالشأن الأفغاني للجيل الأكبر من الأمريكيين فيما يتعلق بسياسات أفغانستان وكفاحها بدأ فقط في 1979 عندما غزا الاتحاد السوفييتي البلاد. أما الجيل الأصغر، فيعرف أفغانستان من مطاردة أسامة بن لادن وغزو الولايات المتحدة أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر.
وخلال هذه العهود، كانت باكستان في كثير من الأحيان بمثابة الملاذ الآمن للمسلحين، بالتعاون مع الولايات المتحدة خلال الثمانينيات، وفي إبداء معارضة كبيرة لواشنطن في أعقاب 2001. بيد أن الخمسينيات والستينيات شهدت استضافة أفغانستان -إذا لم تكن استضافة ودعماً- للقوميين البشتون الذين تسللوا إلى المقاطعة الواقعة على الحدود الشمالية الغربية لإعلان أحقيتهم في ضمها إلى دولة بشتونستان الكبرى. بالرغم من رمزية الحوادث أكثر من كونها مُسببة للقتال -من خلال رفع العلم وما شابه- فقد أظهرت إمكانية التسلل إلى كلا الاتجاهين.
ويضيف روبن قائلاً دعونا نُسرع عقارب الزمن حتى عام 2013، عندما هاجم التفجيريون الانتحاريون القنصلية الهندية في مدينة جلال آباد الأفغانية. عندما حدث الهجوم، كنت مع مسؤول أمن أفغاني كان يشكو من أن الولايات المتحدة لا تستوعب مكافحة الإرهاب. سألته ما الذي يعنيه، فقال: "إذا انفجرت قنبلة في كابول، عندها يجب أن تنفجر قنبلة في إسلام آباد" عاصمة باكستان. وإذا انفجرت قنبلة في قندهار الأفغانية "يجب إذاً أن تنفجر قنبلة في كراتشي" الباكستانية، وأوضح أن مثل هذه العواقب المباشرة لتدخُّلها في شؤون أفغانستان يمكن أن تكون اللغة الوحيدة التي قد يفهمها المسؤولون الباكستانيون. وسألته ما الذي يحول دون اتباع الأفغان لمثل هذه الاستراتيجية، فقال: "الولايات المتحدة".
غير أنه مع رحيل الأمريكيين لن تكون هناك قيود على الأفغان الذين لا يرون أمامهم أي طريقة أخرى غير إرسال القتال إلى باكستان مباشرة ومواجهة النار بالنار. ربما لا يكون ذلك مصلحة أمريكية في الوقت الحالي، لكن صُناع السياسة ينبغي لهم أن يعلموا أن انسحاب الولايات المتحدة -حتى مع احتفاء وكالة الاستخبارات الباكستانية بهزيمتها أمريكا التي تزدريها- يمكن أن تتعرض باكستان لتأثيرات جانبية سوف تضعف الدولة النووية التي تعاني بالأساس من تردي أوضاعها.
توقعوا أن تواجه روسيا متاعب
وعندما يتعلق الأمر بانخراط الولايات المتحدة في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر نجد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يؤدي دوراً مكيافيلياً. إذا ضغط بوتين على دول الاتحاد السوفييتي السابقة مثل أوزبكستان وقيرغيزستان كي تجعل قواعدها قريبة من القوات الأمريكية، لكنه سهَّل من عمليات النقل اللوجستي للمعدات التي تُرسَل إلى أفغانستان عن طريق روسيا، أو على الأقل حدث ذلك في مناسبة واحدة. بالرغم من اهتمام موسكو بخطابها الدعائي عن مكافحة الإرهاب ومواجهة التطرف، فهي في الوقت ذاته تقدم إمدادات إلى طالبان كي تعيق أي انتصار أمريكي مطلق وتقيد الحكومة الأفغانية في هذا الوحل. لم يرغب بوتين في أن تنتصر طالبان، لكنه أيضاً لم يرغب في أن تنجح الولايات المتحدة فيما فشل فيه الاتحاد السوفييتي، بحسب المقال.
وقد يندم بوتين على نجاح استراتيجيته. إذ إن طالبان، المنتشية بانتصارها، قد تؤسس دولة متطرفة على الحدود الجنوبية للاتحاد السوفييتي سابقاً، بل ويمكنها زعزعة استقرار دول مثل أوزبكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان. ومع هذا، قد تكون روسيا الهدف النهائي. فبينما تتراجع أعداد المجموعة العرقية الروسية، تزيد أعداد سكان روسيا من المسلمين زيادة متسارعة. تشير التوقعات غير الرسمية لخبراء الديموغرافيا إلى أنه بعد عقد أو عقدين سيكون 30% من الجيش الروسي من المسلمين. ولعل السبب الذي يجعل بوتين يعتمد اعتماداً متزايداً على متعهدين عسكريين خواص، هو عدم ثقته بولاء جيشه، لا سيما إذا كان الإسلاميون هم المستهدفون. قد يقتصر دور طالبان على المساعدة في نشوب مثل هذه الصراعات الداخلية، بحسب المقال.
تنظيم داعش قد يُنافس طالبان
وتدّعي حركة طالبان أنَّها قومية أفغانية، لكنَّها في أغلب الأحيان تُعد بمثابة قطع شطرنج باكستانية وغالباً ما تتجاهل قروناً من التاريخ والثقافة الأفغانية. ويُمكن القول إنَّ طالبان أشبه بمديرٍ ضعيف؛ فالمعارضة أسهل من خدمة الناس وتطوير الوظائف وتوفير الأمن. بل إنَّ طالبان حين كانت تدير الحكومة الأفغانية بين عامي 1996 و2001 لم تحقق وعودها. وهذا يُتيح فرصاً للآخرين في المعارضة كي يُقيموا حججاً مُقنعة، وإن كانوا غير صادقين، ويزداد نفوذهم. بيد أنَّ الفرق الأكبر بين ذلك الحين والوقت الراهن هو أنَّ طالبان تواجه الآن منافسة. فمع نجاح الجيش العراقي والأكراد السوريين والقوات الأمريكية في إنهاء قدرة تنظيم داعش على السيطرة على الأراضي في العراق وسوريا، سعت بعض عناصر التنظيم إلى ترسيخ وجودها داخل أفغانستان. ومن المرجح أن تنجح في ذلك مع انسحاب الولايات المتحدة من هناك، بحسب المقال.
وليس المقصد من ذلك أن نقول إنَّ الولايات المتحدة يجب أن تقاتل إلى الأبد في أفغانستان. ولكن، بينما تسود الواقعية الآن في واشنطن، فلا توجد أي واقعيةٍ على الإطلاق في أن تخدع واشنطن بسرديتها المُلفَّقة. فصحيحٌ أنَّه قد لا يكون هناك مسار واضح للنصر في أفغانستان -أو على الأقل لا يوجد مسارٌ واضح يرغب السياسيون والرأي العام الأمريكي في اتِّباعه- وبالتأكيد لا توجد صيغة سحرية تحل المشاكل التي تواجهها أمريكا في أفغانستان وبقية أنحاء المنطقة، لكنَّ الولايات المتحدة لا يُمكنها التظاهر بأنَّ التهديدات ذات الرتبة الثانية (أي تلك التهديدات التي قد تؤدي إلى تهديداتٍ أوَّلية في غاية الخطورة) التي ستنتج من انسحاب القوات الأمريكية لن تكون كبيرة. قد تكون عواقب البقاء في أفغانستان كبيرة، ولكن مع استعداد ترامب وخليل زاد للخروج من أفغانستان، ينبغي إدراك أنَّ عواقب الانسحاب ستكون كبيرةً أيضاً.