جلس واضعاً فمه وأنفه داخل كيس لينتقل إلى عالم آخر بعيداً عن واقعه البائس، دون أن يشعر بأي خوف من أن يكتشف أحد أنه سقط في إدمان الشعلة.
فهذا الطفل ليس له أسرة ولا أهل يمنعونه من الوقوع في براثن هذه المادة الخطيرة، إنه أحد ضحايا ظاهرة تتسع في سوريا، وهي إدمان الشعلة وغيرها من المواد الغريبة الصراصير والجوارب المتعفنة.
فقد أصبح مشهد بعض الأطفال المشردين وهم يقومون بهذا التصرف الغريب شبه معتاد في بعض حدائق دمشق.
الكيس الذي اعتاد إبراهيم -اسم مستعار- وضعه على وجهه ليس كيساً عادياً بل فيه علبة لإحدى المواد اللاصقة تُعرف محلياً باسم "الشعلة" نسبة لإحدى أهم الشركات المشهورة بتصنيع هذه المادة، وهو لاصق يمكن الحصول عليه من أي محل دون مسائلة قانونية.
إدمان الشعلة يجعلني لا أشعر بالبرد
يقول إبراهيم لـ"عربي بوست" إنه يمارس هذا السلوك يومياً مرتين تقريباً، ويشعر من خلاله بالسعادة والزهو، كأنه انتقل لعالم آخر غير الذي يعيشه.
ويضيف "إن استهلاكه لهذه المادة يزداد في أيام البرد فينسى معه تجمد أطرافه لبعض الوقت، خاصة وأنه مشرد لا يملك سقفاً يأويه".
The Glue-Sniffing street kids of Syria, are one of the collateral damages. #Syria #سوريا https://t.co/p1itcQYgI3
— Salem Hafez (@salem_hafez) February 10, 2019
وعن بدايات سقوطه في براثن إدمان الشعلة، يقول إبراهيم إن أحد أصدقائه أطلعه على هذا الأمر، وحينما قام بالتجربة أعجبته الفكرة وبات مواظباً عليها".
وتابع قائلاً إن صديقه هذا يكبره بنحو سنتين ويبلغ من العمر 14 عاماً، وهو مثله لا يملك بيتاً ويعيش على التسول من الناس.
رفض إبراهيم تقديم معلومات واضحة عن نفسه وعائلته، بل تعمد مغالطتنا بروايات متعددة، لتبرير تورطه في إدمان الشعلة.
فإحدى رواياته أنه هرب من ظلم زوجة أبيه، وفي رواية ثانية أخبرنا بأنه الناجي الوحيد من فاجعة أصابت العائلة خلال تواجدهم بإحدى المناطق الساخنة في الحرب، وحينما وصل لدمشق لم يجد مكاناً له إلا الحديقة.
تنتمي لأسرة تحترف التسول، ولكن هذا ما حماها من إدمان الشعلة
على عكس إبراهيم كانت قصة زهور أكثر تماسكاً.
فحسب قولها هي ابنة لإحدى العائلات المتخصصة بالتسول، وتوارثت هذه المهنة أباً عن جد، وتقيم زهور مع أسرتها في أحد الفنادق الرخيصة وسط العاصمة دمشق.
زهور تبلغ اليوم من العمر عشر سنوات، لم تعرف أي تعليم ولم تذهب إلى أي مدرسة، كل معرفتها بالحياة أن تمضي طيلة يومها في الشارع ثم تعود في المساء مع بقية أفراد أسرتها، كي تتناول بعض لقيمات ثم تنام لتعاود عملها ثانية في اليوم التالي.
"شم الشعلة".. إدمان خطير ينتشر بين الأطفال بدمشق بلا علاج
للمزيد: https://t.co/2eUNZBqO7g— HalabToday حلب اليوم (@HalabTodayTV) December 27, 2018
وتقول لـ"عربي بوست" إنها رفضت تعلم شم الشعلة وحذرتها عائلتها من إدمان مثل هذا النوع من المواد وهددتها بالضرب والعقاب إن فعلت ذلك.
ورغم هذا التهديد، فإنها كادت تسقط في دائرة إدمان الشعلة.
إذ لم يسلم الأمر أن تلتقي ببعض الأطفال المشردين الذين حاولوا إجبارها على شم الشعلة، لكن وجودها بالقرب من أخيها خلال عملها حماها نوعاً ما من الانجرار وراء إدمان الشعلة.
إنها تدفعهم لأن يجرحوا أنفسهم
لمى نحاس إحدى مؤسسات مبادرة سيار للنشاط المجتمعي، توضح بأنه قبل ثلاث سنوات ونصف بدأوا العمل على أطفال الشوارع، وكانوا أول مبادرة في سوريا تتخصص في هذا المجال.
وتقول إنه من خلال التعامل مع هؤلاء الأطفال، رصدوا مشاكلهم وعرفوا أن الشباب الأكثر سناً كانوا يدخنون أو يشمون الشعلة أو يشربون الكحول.
إدمان "شم الشعلة" يزداد انتشاراً بين أطفال سوريين.. الشرطة تمسك بهم وتكتفي برميهم في الشوارعhttps://t.co/pztRHYKXtm pic.twitter.com/9ADGkUTXEq
— السورية نت Alsouria (@AlsouriaNet) July 9, 2018
الأخطر أنه لفت نظرهم وجود جروح وتشطيب على أجساد البعض منهم، واكتشفوا أنهم خلال الشم وكي يصلوا للنشوة يجرحون أنفسهم، كي يساعدهم ذلك في الوصول إلى مستوى أعلى من النشوة، وهذه الأمور تعلموها من الأطفال الأكبر سناً.
وتتابع لمى -وهي ناشطة تعمل في مجال تعليم الأطفال المشردين وتقوم بذلك مرة أسبوعياً- اكتشفنا أنواعاً أخرى للإدمان غير الشعلة، مثل "تعفين الجوارب المستعملة ثم استنشاقها، أو تنشيف الصراصير وطحنها ومن ثم تدخينها.
وهي أمور رخيصة لا تكلفهم شيئاً وتساعد في تحقيق النشوة.
وتؤدي لتشوش البصر ثم ضمور المخ
وعن الأضرار التي يسببها هذا النوع من الإدمان، توضح كنانة الدبس من فريق سيار ومسؤولة عن محور الإدمان والتوعية في المشروع، أن أبرز الأضرار هو التشويش البصري، وعدم الاتزان، بالإضافة لثقل اللسان وبطء الحركة والرعشة والنشوة، وقد يسبب تعاطي هذه المواد لفترة طويلة ضمور المخ.
وقالت الدبس لـ"عربي بوست" إنه من الناحية النفسية والاجتماعية، تسبب هذه الظاهرة العدوانيةَ الزائدة اتجاه من يعترض على شم الشعلة، كما تسبب إصابة المدمن باللامبالاة والإهمال لنفسه.
ومن الآثار الظاهرة على ملامحهم، انتشار البقع حول أنف وفم المدمن، صدور رائحة نفس غير طبيعية منه، بالإضافة للتهيج في عيني وأنف وحلق الطفل.
وترى الدبس أن العلاج يكون بوضع المدمن في دور رعاية للعناية به، وحل المشكلات التي تسببت بوصوله لهذا النوع من الحل الوهمي، وتتابع الدبس بأن معالجة المدمن، وهو موجود في الشارع لن تساعد بأي شيء، لأنه يعيش في بيئة حاضنة لمثل هذا النوع من الإدمان بالإضافة لكونها بيئة غير آمنة وغير نظيفة.
المشكلة أنها رخيصة ومتوفرة في كل مكان، وهكذا انتقلت للمدارس
وتقول لمى نحاس إن المشكلة الكبرى التي تواجه عملهم، أن "الشعلة" مادة رخيصة ومتوفرة في أي مكتبة أو محل، لهذا من الضروري العمل على نشر التوعية في المجتمع وعدم بيعها في الأكشاك والمكتبات، وأن يخضع من يبيعها للرقابة.
وتضيف أن هذه الظاهرة أخذت تنتشر كثيراً ولم يعد خطرها يقتصر على أطفال الشوارع وحدهم، فهم يمارسون الأمر مثلاً في الحدائق العامة وبالتالي يمكن أن يتعلم منهم بقية الأطفال.
كما أن بعض الأولاد الذين عادوا للمدرسة بعد أن سبق أن تسربوا منها وكانوا يعملون في الشوارع نقلوا هذه العادة لزملائهم بالمدارس.
وأحياناً يكتشفون الأطفال المدمنين عبر هذه الطريقة البسيطة
وعن طريقة اكتشافهم للأطفال الذين سقطوا في براثن إدمان الشعلة وغيرها من المواد الخطيرة، تقول نحاس إن الأطفال أنفسهم المشاركون في جلساتهم هم الذين يبلغون عن بعضهم أمام فريق سيار.
وتستشهد بحالة تتعلق بأولاد من الأقلية التركمانية في البلاد، رفضوا الجلوس مع بقية الأولاد بحجة أن هؤلاء يشمون الشعلة، وهم لا يريدون الاحتكاك بهم كي لا يسرقوا منهم أموالهم ويشتروا بها هذه المادة، ما اضطر سيار لأن يقسموا الفريق إلى قسمين منعاً لاختلاطهم.
عمل فريق سيار على توعية هؤلاء الأطفال خاصة من خلال المسرح التفاعلي، لكن تأثيره يبقى محدوداً كما توضح السيدة لمى لأن عملهم معهم ساعتين فقط في الأسبوع.
وتضيف أن البعض أقلع عن هذا الإدمان، ولكنهم قلة قليلة، والبعض أقلع ثم عاد.
الغريب أن الأطفال يضعون الحلول، ولكن هذا ما يحدث لهم في الشارع
المشكلة أن غالبية الأطفال لا يريدون التخلص من هذا الإدمان، حسب لمى نحاس.
إذ تقول إنهم يعيشون حياة بائسة جداً وهم يعانون من غصب شديد في داخلهم يتخلصون منه بعض الشيء من خلال شم الشعلة.
واللافت أنهم في المسرح التفاعلي يقدمون حلولاً واقترحات، ولكنهم يعجزون عن تطبيقها على أرض الواقع.
من المشاكل الأخرى التي تواجههم أنهم لا يمكن تقديم العلاج لهم، إذ لا يمكنهم أخذ الأطفال للمشافي، لأنهم قد يتهمون بخطف الأطفال.
كما أن تحركات أفراد مبادرة سيار تظل محدودة، إذ يجتمعون بالأطفال في المراكز الثقافية يوم السبت فقط، بالإضافة لعدم وجود مراكز متخصصة لمعالجة هذا النوع من الإدمان.
الاتحاد برس: بالفيديو: إن استغربت "إدمان شم الشعلة" فإليك حالات أغرب من "إدمانات الشم" الأخرى في سورية https://t.co/yBDZeAf3iE
— Syria feed (@syria_feed) February 5, 2019
وعن الحملة التي أطلقوها فيما يتعلق بمحاربة شم الشعالة.. قالت إنهم نظموا في عام 2017 فعالية بعنوان "أطفال الشمس"، وهي احتفالية مخصصة لأطفال الشارع، وأصبح الأول من يوليو/تموز من كل عام موعداً سنوياً لهذه المناسبة.
وأضافت "ثم قرروا تحديد قضية للعمل عليها في كل عام، فاختاروا موضوع إدمان الأطفال على شم الشعلة، بعام 2018.
وتقول نحاس: "للأسف لم نجد الدعم الحقيقي أو المشاركة الفعلية معنا، فالأمر يحتاج للعمل على القوانين والإعلام والرأي العام، كما يجب منع بيعها للأطفال، وأن يتعرض من يخالف التعليمات للعقاب".