يُعتَبَر شهر رمضان قاسياً بصورةٍ خاصة في الحديدة، على الساحل الغربي لليمن، حيث تبلغ درجة الحرارة حالياً 36 درجة مئوية؛ إذ اعتاد العديد من الحوثيين، الذين سيطروا على المدينة منذ 2015، على المرتفعات الأقل برودة، بينما يقاتلون الآن في درجةِ حرارةٍ مرتفعة.
في شارع صنعاء الذي يتوسط المدينة، جلس مسلح حوثي أصهب الشعر، على ناصية عربة عسكرية، وبعينيه الصغيرتين كان يتفحص سلاحه الكلاشينكوف، المنتصب بين ساقيه، غير مكترث لحالة الحشد الكبير لجماعته.
وبالقرب منه كان زميله طارقاً برأسه في صندوق عربة السيارة (البيك أب)، رباعية الدفع، ويحاول بيديه أن يقي وجهه لسعات شمس الظهيرة في صيف المدينة القائظ، وكأنما كانت تفاصيل المعارك ضد القوات الحكومية تدور في رأسه.
ودخلت المعارك باليمن فصلاً جديداً؛ فمنذ أسبوعين تصاعدت حدّتها بين مسلحي جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) من جهة، والقوات الحكومية المسنودة بقوات التحالف العربي الذي تقوده الإمارات هذه المرة، من جهة أخرى.
في الساحل الغربي لليمن، تبدو مسألة استعادة التحالف السيطرة على مدينة الحديدة (غرب البلاد) وشيكة، خصوصاً في ظل تقدُّمها القياسي نحو المدينة، والانهيارات المتسارعة بصفوف الحوثيين.
واستباقاً لهجوم القوات الحكومية، تشهد الحديدة انتشاراً عسكرياً كبيراً للحوثيين، الذين نصبوا عشرات الحواجز الأمنية وبدأوا في حملة تفتيش واسعة، طالت المركبات وسيارات المدنيين.
حالة التأهب في المدينة، تعكس حرص الحوثيين على الاحتفاظ بالسيطرة على المدينة التي تملك ثاني أهم ميناء على ساحل البحر الأحمر، بعد ميناء جدة السعودي، والذي تمر عبره غالبية المساعدات والمواد الغذائية.
أهمية الحديدة
وتعد معركة استعادة الحديدة حتمية؛ نظراً إلى كونها المركز التجاري الرئيسي باليمن الذي يمر من خلاله أكثر من 70% من واردات الدولة وتدفقات الشحنات الغذائية والمساعدات. وتعد الحديدة شريان الحياة في اليمن. وحتى قبل الحرب، كان الميناء يستقبل 90% من المواد الغذائية.
وتخضع المدينة، التي يسيطر عليها الحوثيون الذين تدعمهم إيران منذ أوائل الحرب التي استغرقت 3 سنوات حتى الآن، لحصار التحالف الذي تقوده السعودية منذ عام 2015، والذي تذكر منظمات المساعدات الإنسانية أنه مسؤول عن معيشة 8 ملايين يمني حالياً على حافة المجاعة.
وهناك مخاوف كبيرة من أن معركة استعادة الحديدة ستشهد تدميراً كبيراً لمينائها ولبِنيتها التحتية، وهو ما سينعكس بالسلب على غالبية اليمنيين.
ويبدو أن الإغلاق الكلي للميناء في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 –كرد انتقامي على الصاروخ الباليستي الحوثي الذي انفجر بالقرب من العاصمة السعودية الرياض- قد أخضع 3.2 مليون يمني آخرين للمجاعة أيضاً، بحسب برنامج الأغذية العالمي.
مجاعة وانتهاء السلام
وقد حذر مارتن غريفيث، المبعوث الأممي الجديد لليمن، من أن الهجوم الجديد لاستعادة الحديدة قد يؤدي إلى نزوح جماعي و"يطيح بمفاوضات السلام خلال لحظة واحدة".
ومع ذلك، خلال الأيام القليلة الماضية، اكتسحت القوات اليمنية والسعودية والإماراتية مساحات كبيرة من الأراضي وأصبح القتال وشيكاً بسرعة أكبر مما كان متوقعاً، وتزايدت المخاوف على حياة المدنيين بالبلاد.
وذكر آدم بارون، الباحث الزائر بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "ما يحدث بالحديدة ستكون له تبعات هائلة على حرب اليمن".
"ويتمثل التساؤل الرئيسي فيما يلي: كيف سيجري القتال في المعركة؟ الميناء هام لليمنيين بأنحاء البلاد، وربما سيحدث تدمير هائل لمرافق المدينة، ويشعر الناس بالقلق بشأن الفترة الزمنية التي سيتم خلالها إغلاق الميناء وإعادة بنائه".
أزمات إنسانية
وقد حذرت العديد من منظمات المساعدات من أن التكلفة البشرية لاستعادة المدينة، البالغ تعداد سكانها 600 ألف نسمة، يمكن أن تكون كارثية.
وذكرت وكالة أنباء Irin News في وقت سابق من هذا الشهر (مايو/أيار 2018)، أن خطط الأمم المتحدة لتهجير 5000 مدني إلى مناطق أكثر أماناً قبل اندلاع القتال- قد أخفقت.
وذكر بانو باتناجر، المتحدث باسم منظمة "أنقذوا الأطفال"، أنه "يمكن أن ينزح 340 ألف شخص إضافيين في حالة تعرُّض ميناء الحديدة للاعتداء".
"ومن الأرجح أن تطول فترة القتال أيضاً، وسيكون للاستخدام المحتمل للأسلحة التفجيرية في المناطق الحضرية كثيفة السكان تأثير غير مناسب على السكان المدنيين".
ويدرك التحالف العربي، الذي تم انتقاده جراء الخسائر غير الضرورية بحياة المدنيين في أثناء حملات القصف بالمناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة الحوثيين، أن المجتمع الدولي يراقب المعركة في الحديدة.
وقال بارون من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "من مصلحة التحالف أن يتأكد من تدمير الحديدة"، مضيفاً: "اعتادوا إلقاء اللوم على الحوثيين الذين يسيطرون على المدينة؛ بسبب مشكلات تدفُّق المساعدات. وإذا ما سيطروا على المدينة، فسيُلقى اللوم عليهم".
وذكر باتناجر أنه ينبغي أن يظل الميناء مفتوحاً بأي ثمن. وقال: "سيؤدي إغلاق ميناء الحديدة إلى وقف سلسلة المساعدات الإنسانية والتوريدات التجارية حينما يكون هناك حاجة قصوى إليها. فقد وصلت واردات المواد الغذائية إلى أدنى مستوياتها منذ بدء النزاع، وارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو ثلث قيمتها".
خطط الهجوم
وفيما لو بدأ هجوم القوات الحكومية على الحديدة، فإن المدينة -التي تحوي قرابة مليوني شخص حسب تقديرات سكانية- ستشهد معارك عنيفة، خصوصاً أنها تعد المعقل الأخير للحوثيين على البحر.
غير أن الاستراتيجية العسكرية للهجوم تبدو مغايرة إلى حد ما، ولا يظهر أن القوات الحكومية ستعتمد على الهجوم البري من ناحية الجنوب، في حال التقدم العسكري خلال الأيام القادمة.
ويقول الصحفي المختص بمعارك الساحل محمد سعيد الشرعبي، لـ"عربي بوست"، إن دخول القوات المشتركة إلى مدينة الحديدة سيكون عبر إنزال بحري وجوي كما حدث في مدينة عدن، ولن يتم ذلك قبل تحرير ريف مدن المحافظة.
وأشار إلى ضرورة سيطرة القوات الحكومية على ريف المدن، مثل زبيد والحسينية وبيت الفقيه والمنصورية؛ لـ"كون بقائها بيد الحوثيين يشكل خطراً على خطوط الإمداد".
ويتفق جمال جميل، وهو ضابط في القوات الحكومية، مع الشرعبي، ويقول: "لا بد أن تكون الضربة العسكرية خاطفة، أما عدا ذلك فسيكون في صالح الحوثيين، الذين يجيدون حرب الشوارع بالمدن".
ونقلت وكالة "فرانس برس" عن العقيد صادق دويد، المتحدث الرسمي لقوات "حرس الجمهورية"، قوله: "في البدء سنعمل على قطع خطوط الإمداد، خصوصاً بين صنعاء والحديدة، ثم محاصرة الحوثيين داخل المدينة وإسقاطها حتى من دون قتال".
لكن الضابط جمال جميل يقول إن حصار المدينة سيصل أثره إلى سكان المدينة، وسيفاقم الوضع الإنساني، وإن الحوثيين لن يسلموا المدينة إلا بالقتال.
ويقود هجومَ القوات الحكومية في الساحل الغربي غرفةُ عمليات مشتركة تضم ضباطاً يمنيين (ألوية العمالقة) وقيادات من المقاومة (المقاومة التهامية)، وقوات (حرس الجمهورية) التي يقودها نجل شقيق الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، العميد طارق، الذي قاد المعارك ضد الحوثيين في صنعاء مطلع ديسمبر/كانون الأول 2017، وانتهت بفراره ومقتل عمه.
والغرفة المشتركة تخضع لدولة الإمارات بشكل مباشر، وحاول موقع "عربي بوست" الحصول على معلومات عنها، لكن قادة ميدانيين اعتذروا عن الإدلاء بأي معلومات.
خطط الحوثيين
أدى تشتُّت ولاءات المعارضة بعد أن قتل الحوثيون الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، في ديسمبر/كانون الأول 2017، إلى إثارة التحالف العربي. وقد شكل العميد طارق محمد صالح، ابن شقيق الرئيس السابق، كتيبة جديدة حاربت الحوثيين الذين قتلوا عمه بشراسة.
ومن المتوقع أن ينسحب الحوثيون إلى الجبال المحيطة بالحديدة حينما يبدأ القتال داخل المدينة ذاتها. ومع ذلك، فمن المحتمل أن يستهدفوا توجيه ضرباتهم إلى التحالف قبل ذلك، بحسب ما ذكرته إليزابيث كيندال من جامعة أكسفورد.
وقالت كيندال: "قد يكون للضغوط العسكرية المتزايدة على الحوثيين تأثير عكسي يجعلهم أقل قابلية للمشاركة في مفاوضات السلام المقترحة؛ نظراً إلى أنهم سيكونون في موقف أضعف".
وبحسب قائد "لواء العمالقة" في القوات الحكومية أبو زرعة المحرمي، فإن 90 مسلحاً حوثياً من كتائب "الحسين" -وهي أقوى الفصائل المسلحة لدى الحوثيين- قُتلوا في ليلة واحدة، بينهم قائد ميداني رفيع.
وظهر زعيم الحوثيين، عبد الملك الحوثي، مساء الأحد 27 مايو/أيار 2018، مرتبكاً وبحالة انكسار، في خطاب له للتعليق على تطورات معركة الحُديدة، قائلاً: "صحيحٌ في بعض المعارك حصل تراجع، هذا يحصل عادة في الحروب لأسباب كثيرة وعوامل موضوعية، لكنها لا تعني -بأي حال من الأحوال- نهاية المعركة، فالحرب كَرٌّ وفَرٌّ".
ما معنى السيطرة على الحديدة؟
وفي حال إذا ما سيطرت القوات الحكومية على الحديدة، فإنها بذلك ستكون قد حققت نصراً استراتيجياً كبيراً في الحرب التي بدأت بين الطرفين مطلع عام 2015، لا يقل شأناً عن السيطرة على عدن.
وعلى أثر ذلك، سيكون الحوثيون معزولين في صنعاء والمدن الخاضعة لسيطرتهم، وسيخسرون أهم مَنفذ اقتصادي، كان يمدُّهم بالأموال والأسلحة والوقود المهربة من إيران، حسبما يشير مراقبين.
وبحسب تقديرات اقتصادية، فإن الحوثيين يجنون من جمارك وضرائب ميناء الحديدة، الذي يستقبل 80% من واردات الغذاء، نحو 72 مليون دولار سنوياً، حسب حديث سابق لوزير الإعلام اليمني معمر الإرياني.
وبفقدانهم السيطرة على الحديدة والميناء، يشبه ذلك بـ"كسر العمود الفقري للحوثيين"، حسب مراقبين.
وقال محمد عبد السلام، رئيس مركز "أبعاد" للدراسات السياسية والبحوث (غير حكومي)، إن أهمية مدينة الحديدة للحوثيين تشكل في كونها الممول الوحيد اقتصادياً لعملياتهم العسكرية.
وأضاف أن "سيطرة القوات الحكومية على الحديدة بمثابة قطع الذراع الاقتصادية للحوثيين، إلى جانب أن الحديدة ميناء مهم وهي آخر مَنفذ بحري لهم، وسيكون ذلك هزيمة سياسية".
هذا سيزيد في شعبية التحالف لدى اليمنيين، خصوصاً بعد الأزمة الأخيرة التي ظهرت في النزاع حول جزيرة سقطرى. وصنَّف حينها اليمنيون دول التحالف، وعلى وجه التحديد دولة الإمارات، بأنها دولة احتلال، أكثر مما هي شريك في التحالف العربي، بعد توسعها العسكري بالجزيرة.
لكن الصحفي كمال السلامي يرى أن السيطرة على الحديدة قد تدفع الحوثيين إلى تقديم تنازلات جوهرية، والقبول بالجلوس على طاولة المفاوضات دون شروط، مما يشكل نصراً عسكرياً للحكومة والتحالف.
ويضيف أن الحكومة اليمنية ستكون قد استعادت أكبر محافظة ذات مساحة جغرافية وثقل سكاني في شمال البلاد، كما ستستعيد ميناء الحديدة.
ما الذي استجدَّ؟
لكنَّ تقدُّم القوات الحكومية، التي تقودها الإمارات، في الساحل الغربي وضع علامات استفهام كبيرة.
ومن بين التساؤلات؛ لماذا الإمارات تقدمت نحو الحديدة بتلك السرعة؟ وهل تنوي السيطرة على الميناء والشريط الساحلي فقط؟ ولماذا تركت مدناً كبيرة ذات حضور سكاني تحت سيطرة الحوثيين؟
يجيب الصحفي اليمني عبد الله دوبلة عن تلك الأسئلة، ويقول لـ"عربي بوست"، إن عملية التقدم إلى الحديدة جاء نتيجة خطة عسكرية محترفة، فالسيطرة عليها تجعل المدن الواقعة في ريف المحافظة تسقط تباعاً دون معارك.
وأضاف: "الطريق الساحلي الذي يصل طوله إلى نحو 160 كيلومتراً، لا توجد فيه مدن كبرى يستطيع الحوثيون القتال فيها، فهم يجعلون من المدن والسكان دروعاً بشرية".
أطماع إماراتية
لكن الجندي في المقاومة التهامية عبد الرحمن أحمد يجزم بأن للإمارات -التي تقود العمليات المشتركة- لها أطماع في ميناء مدينة الحديدة، وقال: "تسعى الإمارات للسيطرة على المنافذ المائية اليمنية".
وأضاف: "كما سيطرت الإمارات على عدن فستسيطر على الحديدة".
وعما إذا كان سيواصل القتال في صفوف المقاومة حتى السيطرة على الحديدة، قال أحمد: "نحن نقاتل لأجل الوطن، ضد من عاث في أرضنا وطردَنا من منازلنا، فحتى اللحظة نحن حلفاء مع الإمارات".
وأبدى الجندي آماله في أن تتخذ الإمارات طريقة مغايرة للشراكة مع اليمنيين.
وتسيطر الإمارات على مدن الجنوب اليمني منذ استعادة تلك المدن والمناطق عقب إجبار الحوثيين على الانسحاب في يونيو/حزيران 2015، وباتت هي السلطة القوية في عدن، العاصمة المؤقتة للبلاد